قصيدة وراءها قصة 2
قصيدة وراءها قصة
(2)
أ.د/
جابر قميحة- لا ينسى المصريون الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء 11 من يوليو عام 1882 م، فهي أشد ساعات الحزن في حياتهم . إنها الساعة التي اعطى الأميرال فيها إشارة الضرب ، فأطلق الإسطول الانجليزي أول قنبلة على القلاع المصرية في مدينة الإسكندرية .
- وكان كذلك إيذانًا ببدء الاحتلال الانجليزي البغيض الذي جثم على صدر مصر أربعة وسبعين عامًا .
- أربعة وسبعين عامًا من الظلم والقهر والاستغلال .
- ومن الجرائم البشعة التي ارتكبها الاستعمار الانجليزي في مصر ما يسمى بحادثة دنشواي .
- فلنعد دقائق مع دنشواي ... وجريمة دنشواي .
- ودنشواي قرية مصرية من قرى مركز "تلا" بمحافظة المنوفية . وكان من عادة فلاحي القرية – شأنهم شأن الفلاحين بقرى مصر كلها – أنهم في موسم حصاد القمح يجمعون القمح في ساعات واسعة تسمى "الأجران" ، وذلك لدرس القمح ، أي فصل الحب عن قشره "وهو يسمى التبن" .
- وفي يوم الأربعاء 13 من يونية 1906م شاء الحظ العاثر للقرية أن يقوم 5 من الضباط الانجليز من أحد معسكراتهم وقصدوا بلدة دنشواي لصيد الحمام .
- وبسبب البارود المتطاير اشتعلت النار في أحد أجران القمح ، وأصابت رصاصة طائشة إحدى النساء ، فثارت ثائرة الأهالي، وطاردوا الضباط الانجليز.
- أخذ الضباط الذين ولوا هاربين يطلقون النار على الأهالي بصورة عشوائية ، فاصابوا مصريًا آخر هو شيخ الخفر الذي جاء ليخفف من ثائرة الأهالي .
- وكان الطقس حارًا قائضًا ، فمات أحد الضباط الخمسة بضربة شمس دون أن يصيبه الأهالي بخدش واحد ، وهذا ما أثبته الأطباء الانجليز أنفسهم .
- وهاج اللورد كرومر عميد الدولة البريطانية في مصر ، وقبض على عدد كبير من الفلاحين الأبرياء ، وشكلت محكمة مخصوصة لمحاكمتهم .
وشكلت المحكمة برياسة بطرس غالي وزير الحقانية ، وعضوية انجليزيين ، ومعهم فتحي زغلول رئيس محكمة مصر الابتدائية ، أما المدعي العام فكان إبراهيم الهلباوي بك المحامي المعروف .
- وكان في المحاكمة مأساة ملهاة، أو ملهاة في مأساة .
- نعم كانت من أغرب محاكمات التاريخ كله .
- فقد نصبت المشانق ، وأعدت في دنشواي قبل أن تعقد المحكمة أولى جلساتها ، مما يقطع بأن الأحكام قد أعدت مسبقًا.
- وصدر الحكم بإعدام أربعة هم :
يوسف حسن سليم، السيد عيسى سالم، محمد درويش زهران، حسن علي محفوظ.
- والأخير فلاح شيخ كان في الخامسة والسبعين من عمره.
- كما حكم بالسجن والأشغال الشاقة على عدد كبير من الفلاحين وبالجلد كذلك.
- وكان طريقة تنفيذ الحكم في ذاتها مأساة : فقد نفذ جلد المتهمين وشنقهم أمام أهليهم وأطفالهم .
- وارتفعت أصوات الأحرار في مصر وفي فرنسا وفي بريطانيا نفسها مثل: "برناردشو" تندد بهذه الجريمة البشعة .
- وارتفعت عقيرة الشعر بالاحتجاج ، وتصوير المأساة ، وتهييج الضمائر والمشاعر .
- ومن الشعراء الذين ساهموا بأكثر من قصيدة في تصوير هذه الجريمة حافظ إبراهيم شاعر النيل.
- وما قدمته يمثل الخطوط العريضة للقصة الدامية التي أملت على حافظ إبراهيم قصيدته .
فلنعش مع القصيدة نفسها بعد أن عشنا الخطوط الرئيسية من قصتها:
حادثة دنشواي لحافظ إبراهيم
(نشرت في 2/7/1906م)
أيـهـا الـقـائـمـون بـالأمر فينا
خـفـضـوا جـيـشكم وناموا هنيئًا
وإذا أعــوزتــكــم ذات طـوق
إنـمـا نـحـن والـحـمـام سـواء
* * *
لـيـت شـعري أتلك محكمة التفــ
كـيـف يـحـلـو من القوي التشفي
أكـرمـونـا بـأرضـنـا حيث كنتم
أمـة الـنـيـل أكـبـرت أن تعادِي
لــيــس فـيـهـا إلا كـلام وإلا
* * *
أيـهـا الـمـدعـي الـعمومي مهلاً
قـد ضـمـنـا لـك الـقضاء بمصر
فـإذا مـا جـلـسـت لـلحكم فاذكر
* * *
لا جرى النيل في نواحيك يا مصـــ
أنـت أنـبـت ذلك النبت يا مصــ
أنـت أنـبـت نـاعقًا قام بالأمـــ
* * *
إيـه يـا مـدرة الـقـضـاء ويا من
أنـت جـلالـدنـا فـلا تـنـس أنهـل نـسـيـتـم ولاءنـا والـودادا
وابـتـغـوا صـيدكم وجوبوا البلادا
بـيـن تـلـك الـربا فصيدوا العبادا
لـم تـغـادر أطـواقـنـا الأجـيادا
* * *
تـيـش عـادت أم عهد نيرون عادا؟
مـن ضـعـيـف ألـقى إليه القيادا؟
إنـمـا يـكـرم الـجـواد الـجوادا
مـن رمـاهـا وأشـفـقت أن تعادى
حـسـرة بـعـد حـسـرة تـتهادى
* * *
بـعـض هـذا فـقـد بـلغت المرادا
وضـمـنـا لـنـجـلـك الإسـعادا
عـهـد مـصـر فـقد شفيت الفؤادا
* * *
ـر ، ولا جـادك الـحـيا حيث جادا
ـر فـأضـحـى عـليكم شوكًا قتادا
ـس فـأدمـى الـقـلـوب والأكبادا
* * *
سـاد فـي غـفـلـة الـزمان وشادا
قـد لـبـسـنـا عـلى يديك الحدادا
ديوان حافظ إبراهيم (2/20)