نوسة أو شطر من العمر
08كانون22011
سيد قطب
سيد قطب رحمه الله
"(نوسة) قطة صحبتني اثني عشر عاماً، تحتل مكان الطفل الحبيب، وتشغل فراغه من نفسي وزمني، وتمنحني من الود والثقة والدعابة كفاء ما أمنحها من العطف والعناية والملاعبة، ثم ماتت بين يدي.."
موضعُ الشطرِ أغْمضي عينيك قد آن الأوانُ وأْمَـنـي دُنـيـاكِ فـي آتـي الـزمان * * * هــذه كـفّـي وقـد مـرّتْ عـلـيـكِ لـم تَـحُـسـيـهـا ولـم يـنبض لديك * * * هـذه الـكـفُ الـتـي كـمْ دلـلـتْـكِ أيُّ حـالـيـهـا تُـرى أحـنـى عليكِ؟ * * * ذلـك الـصـوتُ الـذي تـرتـقـبـينَ قــد دعـاكِ إنـمـا لا تـسـمـعـيـنَ * * * أنـا يـا "نـوسـة" والـعـهـدُ قـريبٌ مـوضـعُ الـصـاحـبِ والطفلِ الحبيبِ * * * مـوضـعُ الـشـطـرِ الذي قد عِشتِ فيهِ مـا مـضـى مـن دونـهِ أو مـا يـليهِ * * * إنـنـي أبـكـيـكِ يـا ظـلَّ الـشـبابِ رفـقـةً طـالـت عـلى خير اصطحابِ * * * لــم يــكــن ودَّ بُـطـونٍ وطـعـامٍ طـالـمـا آثـرتِ إن غِـبـتُ الـصيامَ * * * فــإذا عُـدتُ فـوثـبٌ ومُـواءٌ وألاعــيــبٌ وخَــمـشٌ والـتـواءٌ * * * طـالـمـا نـاديـتـنـي عـذبَ الـنداءِ فـي صـبـاحٍ حـيـنَ أصـحو أو مساءٍ * * * طـالـمـا أحـسـسـتُ أنـي لكِ وحدكْ طـالـمـا وطَّـأتِ فـي حِـجري مَهْدَكْ * * * كـنـتِ لـي كـلّـك فـي هـذي الحياةِ كـل مـن ألـقـى لـه فـيـهـا هَـواهُ * * * قـد خـلا حـضـنـي وكـفي وذراعي مُـذْ دعـا الـمـوتُ فـأصـغـيتِ لداعِ * * * أنـا يـا "نـوسـةُ" أمـضـي والـليالي رسـمـكِ الـشـاخـصُ يـبـدو كالخيالِ * * * وخــيــالاتــك فـي كـل مـكـانِ تـصـحـبُ الـعـمرَ على خطوِ الزمانِ * * * هــذه أنـتِ إلـى حـضـنـي أويـتِ هـذه أنـتِ عـلـى صـدري وثـبـتِ * * * هـا هـو الـصـبـحُ فـأيـنَ الـوثباتُ هـا هـو الأكـلُ فـأيـنَ الـهَـمهماتُ؟ * * * أيـن قـطـاتـكِ فـي الـحـرزِ الأمين غـيـر أنـي لـيَ وحـدي تـأمـنـين * * * سـكـتَ الـصـوتُ وقـد كـانَ غـناءَ! وامـتـلاء الـبـيـتـ قد أمسى خَواءَ * * * هـا هـنـا كـنـتِ؟ أمـا هـذا ضلالٌ؟ لـم يـكـن شـيءٌ ولـم يـطـرأ زوالٌ * * * ضــلّــةٌ لـلـنـاسِ فـي آمـالـهـا زُمــر تــمـضـي إلـى آجـالـهـا | ودَعــيـنـي نـهـبـةً ودعــيــنـي لـعـبـةً لـلـزمـنِ! * * * فــي حَــنَــانٍ وارتـيـاعٍ وولُـوعِ قـلـبـيَ الـنـابـضُ مـن بينِ الضلوعِ * * * وَسَّـدَتْـكِ الـيـومَ أطـبـاقَ الـثّرى(1) لـيـتـنـي أدري، ومـن فـيـنا دَرَى؟ * * * قـد دعـاكِ الـيـومَ مـن خلفِ الحجابْ أسـدلَ الـسـتـرُ وقـد عَـيَّ الـجواب * * * مـوحـشُ الـنـفـسِ شَـجـيّ للمغيبِ قـد خـلا فـي ذلـك الـقـلـبِ الغريبِ * * * مـن حـيـاتـي مَـوضـعـاً لـلـحَدَبِ غـربـةٌ تـقـسـو عـلـى مُـغـتربِ * * * إنـنـي أبـكـيـكِ يـا طـيـفَ البنين لـكِ عـطـفـي ولـي الـودُّ الـمـكينْ * * * إنــمــا ود اصــطـحـابٍ ووفـاءِ أو تــلـوذيـنَ بـصـمـتٍ وانـزواءِ * * * نــاطـقٌ بـالـشـوقِ أو بـالـفـرحِ وتــثــنٍ نــاطــقٌ بــالـمـرحِ * * * فـي وداعٍ حـيـنَ أمـضـي أو لـقـاءْ بـوثـوقٍ واعـتـداءٍ وذكـاءْ! * * * لا تـطـيـقـيـنَ شـريـكـاً أو شبيها فـعـلـةُ الـطـفـلـةِ فـي حضنِ أبيها * * * أيـنَ مـن ألـقـاه فـيـهـا لـي كـله؟ ولــه آمــالـهُ فـيـهـا وشُـغـلـه! * * * قـد خـلا قـلـبـي مـن هـذا الـمتاعِ مَــن دعــاه لــم يـعـقـبْ لـوداعِ * * * وخـواءُ الـمـوتِ يـغـشـى عـالـمي أو كـحـلـمٍ فـي ضـمـيـرِ الـحـالمِ * * * شـاخـصـاتٍ تـتـراءى لـلـعـيـانْ هـا هـنـا كـنـتِ وقـد كـان وكـان * * * هــذه أنـتِ أمـامـي قـد ربـضـتِ لـهـفَ نـفـسـي! أيـن أنتِ أينَ أنتِ؟ * * * هــذه كـفـي فـأيـنَ الـلـمـسـاتْ؟ أيـنَ أيـنَ؟ كـل مـا قـد كـان فـاتْ! * * * مـن دنـا مـنـهـا عـلـيـه تـثـبينْ وإذا مُـسّـت فـبـي تـسـتـنـجدينَ؟ * * * سـكـتَ الـوثـبُ وقـد كـانَ مَـضَاءَ كـلٌ مـن فـيـه قـد اسـتـلـقى عَياءَ * * * وتــهــاويـلُ خَـمـارٍ أو خـبـالْ؟ كـل مـا كـانَ خـيـالٌ فـي خـيـال! * * * والـمـنـايـا رابـضـاتٌ بـالـوصيدِ والـذي يـحـيـا يُـرجَّـى فـي الخلودِ! | لـلـشـجـنِ
* نشرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1942.
(1) وسدتك: جعلت تحت رأسك الثرى.