الموت ... ولا العار

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

عاش مجاهدًا يقاتل أعداء وطنه ودينه ، وعاد من جبهة القتال إلى بيته المتواضع ليلقي نظرة على زوجته الحامل، فتشبثت به وألحت عليه أن يبقى بجانبها، ويترك القتال من أجل وليده المرتقب، وطال الحوار بينه وبين زوجته، وودعها، وعاد إلى ساحة الجهاد ,وظل يقاتل في قوة وشجاعة , إلى أن لقي ربه شهيدًا.

 (1)

تقولُ ـ وقد شفِّها وجْدُها.(1)

وفي مقلتيها يهيمُ الأسى

ـ أبوكَ مضى

وأخوك قضى

وأكبرُ أبنائنا في الجراحْ

قعيدُ الجراحْ

وأنت مُصِرًا ـ تريدُ الذهاب

حملت السلاح

وخُضْت الكفاح

شهورًا عديدة

فيجزؤُك(2) اليومَ ما قد مضى

وهذا جنينِّ ببطني دفينْ

غدًا يشهد الفجرُ "واآتِهِ"

ويبصر للآخرين أبًا

ويسأل في لوعةٍ باكيةْ:

أليس لنا مثلُهم من أبِ ؟

كفاكَ كفاح

كفانا جراح

بغيرك لن نستطيعَ الحياة

فأنت المنى .. والهوى .. والحياة

(2)

ـ شريكةَ درْبي

أثيرةَ قلبي

ذَريني أقاتلْ

فما مزقَ الظلمَ إلا مقاتلْ

ولا حقَّقَ النصرَ إلا مناضل

وإلا فإني أموتُ انتظارًا

وعهدي مع اللهِ لا ينقضي

بأن أجعلَ الصخر في الأرضِ نارًا

وأقلبَ ليلَ المآسي نهارًا

فإما أموتُ بأرضي شهيدًا

وإما أحققُ فيها انتصارًا

أقولُ : فذا مدفعي هاتِهِ

أحققُ للمجْدِ غاياتِه

وأرفع للحق راياته

وأدركُ للدينِ ثاراتِهِ

وأتلُو مع النصر آياتِهِ

( 3)

لا تقولي لي جنيني

فالذئابُ اللاعقاتُ الدمَّ

تجتاحُ الروابِي

والأفاعي

تزرع السمَّ بأرضي

وترابي..

وكلابُ الشر

والغةٌّ بميراثِ محمدْ

وتقولين جنيني؟!!

***

وانظري ليلَ اليتامى

يملأون الأرضَ

بالصرخاتِ

في فزعٍ أليمْ

"أين راحَ المعتصمْ؟!!

أين سيف المعتصم؟!"

والثكالى(3)..

إنهُنَّهْ

في غيابات الأَسَى

أسمعُهنَّهْ

يحملُ الفجرُ المُعنَّى

صوتَهنَّهْ

دامياتِ النبرِ

من وقْع الأسنَّة

فاتركيني أحمهنَّه

ـ أنتِ أيضًا أختُهنَّه ـ

وليكن صدري لهن اليوم جُـنَّةْ (4)

لأرد العار عن أعراضِهنّه

فوق خيل مُورياتِ القدح

شماء الأعنَّة (5)

***

لا تقولِي لي جنيني..

واتركيني..

إن من يخدش ديني

ويقيني..

مثلُ من يسحقُ قلبي

مثلُ من يقطعُ

بالسيف وتيني (6).

عندها..

ليس إلا المدفعُ الهدارُ

يزهو غضبًا

ليس إلا أن أدكَّ الغاصبا

ليس إلا أن تموجَ الأرضُ

من فيض المنايا

وأروِّيها دمايا

(4)

وكما يكرَهُ

أنْ يلقى الحبيبُ الصادقُ الحبَّ

على الغدر حبيبهْ

آثمَ القلبِ...

وقد جلل بالعارِ جبينه

إنني أخجلُ..

أن ألقى ـ معي عاري ـ محمدْ

ناكسَ الرأسِ بيومِ البعثِ

خزيانَ الجبينْ

يوم تبيض من البشرى وجوهْ

يوم تسود من الخزي وجوه

كيف ألقاه بعاري؟

قبل أن أدُرك ثاري؟

قبل أن أجتاحَ أعدائي بنارِي؟

(5)

يا عذابي حين ألقاه

فيسأل:

"أين كنتم

يوم هنتم؟

يوم ضِعتُم وأضعتُم؟

كيف أضْحى مجدْ هذا الدينِ

ميراثا مبددْ ؟

أين كنتم يوم ضاع القدسُ

والمحرابُ

والعز المشيَّـد؟

أين ما صُنَّـاه في بدرٍ

وفي خيبرَ

واليرموكِ

بالفتح الممجَّدْ ؟

أين سيف ابني صلاحِ الدينِ

في حطين ؟

أين جيشُ المؤمنين الراكعين الساجدين ؟

أين نصر خطه قطزٌ

بجالوتِ البطولةْ ؟

أين روح المسلم الحقِّ

وآيات الرجولة؟

"وأعدوا" أين ولَّت ؟

"قاتلوهم" أين فرت ؟

"واقتلوهم" أين قرت ؟

أين في قاموسكم صوت "براءة" ؟

والإباء الحق أذهبتم مضاءَهْ.

وهجرتم شرعةَ الحق فهنتم

وتبعتم دربَ ساداتٍ أضلوكم سبيلا

وكثرتم .. فكُسِرتم.

بعد أن صرتم غثاء

وهباءَ

ليت شعري

كيف تعنُو جبهةُ المسلمِ للأرضِ

وقد كانت سماءَ ؟ "

(6)

فاتركيني

إنني أخجلُ أن ألقى ـ معي عاري ـ محمد

لا تقولي لي جنيني

إنني أذهبُ

كي أنقذ آلافَ الأجنَّـةْ

(7)

فإذا ما حانَ حَيْـني (7)

ورويتُ الأرضَ

من دفقات دمِّي

جاعلا قلبي وعظمي

تربةً للزهر في أرضِ البطولةْ

لا تُراعِي

واذكريني

واذكري أنيَ قد صغتُ من العزمِ نشيدا

عاصف الألحانِ

واذكري قصة موتي

عندما يسأل عني

"أين يا أميَ بابا"؟

أذكري لابنيَ أني

قد تحررتُ من الطينِ المزيفْ

وانطلقتُ

رافعَ الرأسِ

لكي ألقى محمد

ناصعَ الجبهةِ ريانَ الفؤادْ

يوم تبيض من البشرى وجوه

لا تقولي "مات ـ يا ولدي ـ أبوك".

بل فقولي:

"إنه اليوم مخلَّدْ..

"إنه اليوم مع الهادي محمد"

(8)

لا تقولي لي جنيني

إنني أذهبُ

كي أنقذ آلاف الأجنة

فذا مدفعي هاتِهِ

أحقق للمجد غاياتهِ

وأرفعُ للحق راياتهِ

وأدركَ للدين ثاراتِه

وأتلُو مع النصر آياته.

               

معاني الكلمات..

(1) شفها وجدها: اشتد عليها الحب والحنين.

(2) يجزؤك: يكفيك.

(3) الثكالى: جمع ثكلى وهي: التي فقدت ابنها.

(4) جنة:( بضم الجيم ) حماية ووقاية.

(5) الأعنة: جمع عنان وهو مقود الفرس.

(6) الوتين: عرق رئيسي في القلب إذا قطع مات صاحبه .

(7) حان حيني: حل موتي.