المصباح.. والشرف المصلوب
أ.د/
جابر قميحةكان "ديوجين الكلبي" (412 ـ 323 ق. م) فيلسوفًا يونانيًّا يدعو إلى البساطة والصراحة والعدل. ومما يروى عنه: أن الإسكندر الأكبر سأله: ماذا تتمنى؟ فأجاب: "أتمنى أن تبعد عني حتى لا تحجب عني ضوء الشمس". وأشهر ما يروى عنه، أنه كان يجوب الطرقات نهارًا حاملاً مصباحًا: ليبحث في ضئوه عن الإنسان.
(1)
أحملُ مصباح "ديوجين"، وأمضي .. روحًا هيمانْ
أبحث عن رجل بين الأحياء:
يا من يهديني لطريقٍ يحملني للإنسان!!؟
للرجل الإنسانْ!!؟
(2)
لكن النهرَ الفياضَ بوطني صارعقيمًا
لا ينجب إلا الفقاعاتْ
والأرض السمراء الحبلى
ما عادت تنبت إلا القاتْ
والمعتقلاتْ
والنكباتْ
والآهاتْ.
(3)
"يا من تحمل مصباحَك في التيهِ الأعظمْ
إن تهتفْ في عصر الغربة
لا قوةَْ إلا باللهْ .
تُخرسْك ألوفُ الأصواتْ :
لا قوة إلا بالعزَّى
لا قوة إلا باللاتْ
فالعصرُ مَواتْ
عصر الأسيادِ الأغَواتْ
عصر الأنطاعِ الأوثانْ
عصر العُرجانِ العميانْ
عصر الخصيانْ
لا عصرُ الرجلِ الإنسانْ
(4)
"يا شاعرَ عصرِ الغربةِ والكُربةْ
أطفئ مصباحك
وفر زيتَكَ
وتوكلْ
لا تبحث عمن تطلبُ في الأحياءْ
بل في الشهداءْ
مصلوبا في بوابة قصرِ السلطانِ المنصورْ
المكسورْ
(5)
البوابةُ في القصرِ "العامر"
تحمل جثمانَ الرجلِ الإنسان"
والطيرُ المنهومة تأكل من رأسِهْ
وبقايا "قلمٍ مقصوفٍ" في الكف اليمنَى
بين السبابةِ والإبهامْ
وعلى الوجهِ خطوطٌ من إصرارٍ وشموخٍ
تتحدى الأيامْ
وعلى صدرِ المصلوبِ الإنسانْ
كتبوا باللون الأسود هذا الإعلان:
"هذا جثمانُ الخائنِ..
من يُدعَى بالرجل الإنسانْ
كَفَر، وعاث فسادًا في الوطن المَفْديِّ
وخانْ
واستحضرأوراقًا تكشف مستورَ الأحبابْ :
شعراءِ السلطانْ
ولذلك جُوزِيَ بالشنقِ وبالصلبِ وبالحرمان".
التوقيع
الوالي الأعظمُ
لعمومِ العاصمة الكبرى في أرضِ النهرْ.
(6)
"شعراء السلطانْ ؟ شعراء السلطانْ ؟؟!!"
فلاتسللْ حيث البهوُ الأعظم
في القصر المعمورْ
كان السلطانُ المنصورُ
المكسورْ
يتربع فوق العرشْ
عرشٍ من ذهبٍ إبريزْ
قد حُليَ بالدبياجِ
وبالسندسِ
والدر المنثورْ
يسمع ما يلقيه الشعراءُ القيعانْ
بنعيبٍ كنعيب الغربانْ :
القاع الأول ـ يُدعَى "الهبار بن المنشارْ "
يمضي ويقولْ:
بسيفك يعلو الحق، والحق أغلَبُ..
وترعب إسرائيل إن شئتَ تضربُ
فسيفك من نار تمجُّ لهيبَها..
وليس لهم من نار سيفك مهربُ
بسيفك يا منصورُ أنت مُغلَّب
و"شارون" مقهورٌ يُـرَدُّ ويُغلب
وشتان ما جبلٌ أشمُّ وقاعُهُ
وشتان ما ليثٌ هصورٌ وأرنبُ
وسمعت القاع الثاني
"خيبانَ بن الهايف"
ينطلق .. يقول:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ
لا سيفَ إلا سيفُك البتارُ
فرِّق بسيفك جمعَ كل كتيبةٍ
فالسيف في يُمناك عزمٌ .. نارُ
ولأنت منصورٌ، وغيرك مدبرٌ
متعثر، متمزق، منهار.
يا أيها المنصور دمت ..مُظفرًا
حتى يُنال على يديك الثارُ
وسمعت القاع الثالث "مختوم بن المصفوع" يقول:
إذا نطق الأعداءُ فهْو هُراؤهم
وإن نطق المنصور فهْو جهنمُ
وسيفَـك إن ترفع بوجه عدونا
تهتَّـك وجهُ الليل، والليلُ أبهمُ
ويذهل "شارون" إذا ما قصدته
فلا قلبه قلب، ولا ينطق الفم
إذا ما عزمت العزمَ ذابت جيوشهم
فليس يُرى إلا الجماجمُ والدمُ
(7)
ورأيت السيفَ المذكورْ
سيفَ السلطان المنصورْ
وهْو أسيرُ الغمدِ الصَّدئ القاسي
قد عُلق فوق الحائط بالبهو الأعظمْ
تنفيذًا لقرار سلطاني:
"باسم الشعبْ
مرسومٌ لا يقبل نقضًا أو إبرامْ
يُـتَحفظُ في الغمد على سيفي هذا
إكرامًا لجلال السيفْ .
تفسير:
قد جاء قراري هذا ـ نحن السلطانَ
المنصورْ
مِن مُنطلقٍ إنساني بحتْ
بصيانة سيفي أن يتنجسَ من دمِّ الأعداءْ
وأنا الملك الطاهر من بيت الأطهارْ
أجنح للسلمْ
ما أبشعَ في نظري لون الدم"
(8)
وتركت السيف المخنوق بقصر المنصورْ
يجود بآخر أنفاسِهْ
ورأيت "الخيل السلطانية"
في مِضمارِ القصر " المعمورْ "
تتثاءب
تتمطط
تتمرغ في أعشاب الذل
تُثـقِلها أسرابُ ذبابٍ
ترتعُ في أعينِها
تمتص الباقي من لمعانٍ وبريقْ
ورثـتْـهُ من خيل الخندق واليرموكْ
ما عادت تشهد صبحًا
أو تضبح ضبحا
أو توري قدحا
أو تبعث نقعا
أو تتوسط جمعا
(9)
وأعود بمصباحي للجسد المرفوع المصلوبْ
جسدِ " الرجلِ الإنسانْ "
أبكيه بماءِ القلبِ .. وأبكيني
علَّ دموعي
تطفئُ ما يجتاح ضلوعي
من أوجاعي..
أبكي سيفًا يستصرخُ
مخنوقًا .. محروقًا
في زنزانة غمدْ
أبكي خيلاً ذبلتْ منها الصَّهَواتْ
نسيتْ معنى الكر
ومعنى الفر
ومعنى الأمر
ومعنى النهضةِ للنجداتْ
نسيت شكل القائدِ والفرسانْ
في زمن الذلة والغثيانْ
زمنَ القيعانِ الغربانْ
والخِصيان
(10)
ويعود صدى الصوتِ يناديني
ويهز كياني
"يامن تحمل مصباحك في أرض القاتْ
والفقاعات
والمعتقلات
والنكبات
والآهات
أطفئ مصباحك
وفر زيتك
وتوكلْ
واهتف بالصوت "الحياني"
"عاش السلطانُ المنصورْ
المكسورْ
طويل العمرْ ".