الكوكبان

شعر: عمر إدلبي/ سوريا

أمّـــي

سبُحانَ منْ أوحى لجنَّتهِ

بأن كوني لها ظلاً ،

ومدّي راحةَ الرّيحانِ

تحت خطى قداستها

إذا زارتْكِ آياتُ المطرْ !!

سبحانَهُ !!

أَسْرى بها نوراً على عرشِ الضياءِ

فطاف حول رحيقها سربُ الزَهَرْ .

لجلالِ مبسمها يشعُّ الصبحُ

يشتعل الفضاءُ مواسماً خضراً ،

ويسجد عند طلعتها القمرْ .

هل وزَّعتْ في ليلِنا عطرَ الهدى

حتّى تَهاطَلَ من دِمَانا

ياسمينُ العشقِ في محرَابِها ؟

أم أنّها خَلَعتْ على أطلالِ غُرْبَتِنا

بذورَ القمحِ

فاشتعلتْ بيادرُنا

مدائنَ من شجرْ ؟

أمـّي

وتأتلق القصائدُ

والســنابلُ والسماءْ .

إنْ غَافَلَتْني دمعةٌ من حزْنِها

لا كوثرُ الفردوسِ يدعوني لكأسِ عبيرِهِ ،

لا الدربُ يحمل خطوتي ،

لا عين تحفلُ بالضّياءْ.

وإذا امتزجَتُ بظلِّها القدسيِّ

تبتهلُ المآذنُ

يَصْطفِيني الأنبياءْ.

تمشينَ في شُرُفاتِ ذاكرتي

فيخضرُّ الهواءُ

ويَنْثَني غصنُ الطفولةِ في دمي ،

 وتزفُّني سفنُ الحنينِ

إلى مرافئ صدركِ الينبوع ِ

ينسُجُ من رحيق ِ حنانِهِ

خبزاً وأجنحةً

وأوراداً تقاسمني السَّريرْ.

وتنامُ أجفانُ العنادِ برعشةٍ

تهمي من الكفّ المطيرْ.

والرَّعدُ يدفعُني إلى حِجْرِ النُّبوَّة

خائفاً

 فتسيلُ باسمِ اللهِ في وديانِ صمتيَ

أنهرٌ من عذبِ همسكِ ،

ثمَ أبدأُ رحلةَ المعراج ِ للأحلامِ

 حينَ تُمَشِّطِينَ مخاوفي

بأصابعِ الآياتِ

حتَّى يهدأَ القلبُ الصَّغيرْ.

أمـي

أحبُّ شذى صباحكِ في ثيابي المدرسيَّةِ ،

أعشق الأزرارَ في القمصانِ

أغمرُها بقلبي

حين تخطفُ من أصابعكِ العبيرَ

وأنت تخشَين التأخّرَ

عن كؤوس الأبجديةِ،

كم هي الغيماتُ

حانيةٌ على العصفورِ !

ترسل برقَها ليقولَ :

عُدْ قبل البرودةِ ،

ها أنا الولدُ الصغيرُ

معذِّبُ الجاراتِ ،

صرت كشجرة الزيتونِ

أعلى من تطاولِ راحتيكِ

لشَعريَ المسكونِ باللَّمساتِ ،

لكني أرى الغيماتِ

من كفيكِ، من رمشيكِ

من آهاتِ صوتكِ والصّدى .

أمـّي

وتبتدئُ الحروفُ إذا أقولُ

وتنتهي ،

أَبْصَرْتُ ملءَ العينِ صدركِ

والمَدَى .

فكأنني

وأنا أنوس براحتيك مدللاً

أبدو كما قمرٍ

تؤرجحه ثرياتٌ على كتف السماءِ ،

أَعُدُّ نجماتٍ

 يعلّقها بساطُ الليل من أغصانها

فتخوّفين براءتي.

أيقونةً تبقينَ

في زمنِ القناديلِ القتيلةِ

تشرقينَ على جفونِ نقاوتي.

عبثاً تمدّدُني السّنونُ

على سُطورِ الشّيْبِ

هل أنساكِ والرّوحُ ارتوتْ

من غيمةِ الحبَّ الهتونْ  ؟

 طفلاً أظلُّ،

وصدرُكِ الزّيتونُ

يغمرني بعنبرهِ الحنونْ.

 فتباركَ الصُّبحُ الَّذي

تأتينَ في موجاتهِ خيرَاً

فتبتسمُ الغصونْ .

  *   *   *

والدي يقرأ المطر

 تضيق العبارةُ

حين أطوف بجناتهِ،

غيمةٌ  ليس إلا .

لمن يسألُ الآنَ قطرَ الندى عن ينابيعهِ ،

والدي غيمةٌ ليس إلا .

سيغدو الكلامُ إذا ما وصفتُ

جداولَ سحرٍ ،

وقد لا تؤوبُ النجومُ

إلى غرفة النومِ عند الصباح ِ ،

ولا يدركُ النهرُ شلالَهُ

فيظلُّ لدهشته عالقاً

في شفاه الضفافِ

كصفصافةٍ لا تريمُ.

وقد لا يعود لمنزله قمرٌ

قبل أن تشربَ الشمسُ قهوتَها

تحتَ شرفتنا ،

فتصيرُ السماءُ ثرياتِ ضوءٍ

معلقةً كحدائق بابلَ ،

والنورُ محتشداً في مدى الكونِ ،

والوردُ بين الجفونِ يقيمُ.

سموتُ بشمعة آمالهِ

وغدوت عصياً على الريحِ ،

لا تستطيع مع العطر صبراً ، 

لأني بزغتُ مع الزهرِ

إذ والدي هزَّ غصنَ الهدايةِ

فوقَ سريري ،

وغطى زنابقَ عمريَ

عن عصف طيشي ،

سموت غداة

قرأتُ بكفِّ القداسةِ بوحاً شفيفاً

كما قطفةٍ من كلام الغيومِ

على راحتيهْ.

وكنتُ قرأتُ :

سمواً إلى نجمة الخلد أمضي

كهيئة سوسنةٍ

كلّما مسَّ نورُ رضاه سنابل شَعري ،

سمواً إلى ظلِّ عرشٍ من النورِ

يحنو على غربتي

يوم لا ظلَّ إلا أصابعهُ

ورضا وجنتيهْ .

 وأذكرُ ،

 كان رذاذُ الهدى

يتهاطل فوق اشتعال دمي

كلما عصفت ثورةُ الشّاربِ الغضِّ

في هدهدات الطفولةِ

ساحبةً خلف أحلامها باقةً

من ربيعِ صبايْ.

وأوشكُ أُفتَنُ

حتى أرى وجهَ برهانهِ

قمراً في رؤايْ.

لوجهِ أبي يهدأ الموجُ ،

يصغي لضمَّةِ شِعرٍ

تفكُّ حصارَ الملوحةِ عن طعمهِ

وبمحرابه أذرفُ الصلوات ِ

فرادى

وسربَ كواكبَ ساجدةٍ ،

فترى الشمسَ تنسلُّ عاطرةً

من وراءِ المساءِ ،

تعلِّق في ثوبِ أنوارها إخوتي

قمراً … قمراً ،

أنحلَتني البرودةُ يا والدي !

كم أنا غصنُ حزنٍ

مدلّى على الرملِ ،

لا شالَ يستلُّ برديَ منّي ،

وصوتُكَ أيقونة النهاوندِ

أعلّقُها حين أبدو سوايْ .

لصوتِ أبي تسرعُ الرّوحُ ،

تأوي لبسمتهِ

آن تعصرُ طاحونةُ الحزنِ

زهراً تفتَّحَ في لوز عمري ،

وآوي إلى دفءِ أهدابهِ ،

 أتهجّى كتابَ الفرادةِ فيهِ

فيدهشُ وحيي رحيقُ السورْ.

هو اليوم أقربُ للقلبِ

من دفقةِ الروح ِ،

أُفرِغُ نبضَ غدي في يديهِ

عسى يدخلُ الوردُ بيت غنائي

وأغدو كما أشتهي

أن أسيرَ على غرةِ الماءِ ،

أقرأُ في الريحِ

صوتَ المطرْ.