وحش الصحارى..
حياة السجن فريدة من نوعها, والعلاقات فيها مختلفة ولها نظامها وقوانينها, حياة من نمط خاص يصعب شرحها, ولايعرفها إلا من عايشها, والعلاقات بين الأخوة متميزة جداً وصافية, والحياة خليط بين قساوة الصحراء ووحوشها الذين يلبسون ثياب البشر وبين إلفة وتفاني الإخوة في محبتهم وتوحدهم...
في إحدى الليالي كان دوري في الحراسة الليلية.. حضر الغرابُ أسودُ القلب والبصيرة.. نادى من طاقة السقف "حارس ليلي" .. تقدمت إلى تحت طاقة سقف المهجع حيث يراني وأديت التحية العسكرية, وقلت "حاضر".. يبدو أن شيئاً ما لم يعجبه! .. بكل بساطة قال "أنت مُعلّم" وشتمني ومضى.
انتهت مناوبتي وخلدت إلى نومي, ولكن كيف يغمض لي جفنٌ وأنا أفكر بعاصفة الصباح!
عندما سمعت عواء الذئاب في صبيحة الغد استجمعت قواي لكي أواجه قدري ووقفتُ قرب باب المهجع.. وبالفعل فتح الباب وصاحوا "المعلم لبره"..
هممت بالخروج وصرت أمام الباب مباشرة, وإذ برئيس المهجع "أبو أنس" يمسك بي ويردُّني إلى الخلف ويهمس في أذني "خرج مكانك أبو أيوب".
ثوانٍ معدودة وانهالت السياط المجرمة .. واختلط صوت السياط بالصراخ الأليم.. والحقيقة أني شعرت بألم شديد في نفسي, لأنه من المفترض أن أكون أنا الضحية التي في الخارج.. شعرت أن السياط تنهال علي.. وبعد دقائق مديدة وعصيبة فتحوا باب المهجع ودخل البطل أبو أيوب متحاملاً على نفسه يجرُّ آلامه وجراحه... كان ظهره مسلوخاً تماماً ومسوداً من شدة الضرب.. كنت اتأمل ظهره وأتصور أنه هكذا سيكون ظهري لو لم يخرج مكاني أبو أيوب.. تجمعنا حوله, حمد الله وابتسم.. هكذا كانت المحبة في الله.. لا أذكر ماذا قلت له حينذاك..
ولكن أيُّ شكر يفي في هكذا موقف؟.. وتركت الشكر للذي لا يضيع أجر المحسنين.. جزى الله أخي أبا أيوب خير الجزاء.. لقد فداني بنفسه .. لله در إخوتي ما أنبلهم وما أعظمهم, وجمعنا الله في دار رحمته بفضله وكرمه وجعل ثواب تلك الأيام شفيعاً لنا وتطهيراً لذنوبنا وتقصيرنا, وبياضاً في صحائفنا..
وسوم: العدد 665