بين الفينة والأخرى كانت تداعبني ذكريات الماضي, فأعود بخيالي إلى الوراء, وأتذكر أيام الهناء ... أمي ودفء حنانها وتفانيها في رعايتنا, وأتذكر والدي وحسنَ توجيهه وارشاده ومتابعته لنا, وثناءه علينا تارة, وتوبيخه تارة أخرى ... أتذكر أخي صلاح .. الشهيد .. البطل ... أتذكره رفيقاً في طفولتي وأتذكر معاناته وصبره في سجنه.. أما أخي الصغير فقد تركته طفلاً, وصار الآن رجلاً, ولكن بقيت صورة ذلك الطفل الصغير في مخيلتي, لم يستطع أن يكبر... أو تذكر أخواتي البنات الرقيقات كالأزهار.. كل هذا كان يهبُّ علي في رياح حنونة تحمل أشواق الأحباب وذكرياتهم, في سجن تنبعث منه رائحة الموت في كل دقيقة..
رياحُ الشوق تعصِفُ في فؤادي=تهبُّ عليَّ من أقصى البلادِ
تهبُّ عليَّ من طرف الأحبَّا=فتصرعُني بأطراف البوادي
رياحُ الشوق تَلْفَحُني بذكرى=مُلهَّبةٍ وتعبَثُ بالزِنادِ
وتطلقُ في ضلوعي نارَ حبِّ=فيصلى الضلعُ من نار البُعاد
رياحُ الشوق في صدري حنينٌ=تُهِيِّجُ في أشجان الوداد
تذكِّرُني سِنِيْ عهدٍ تولَّى=وغادرني إلى غيرِ ارتداد
وتُسْمِعُني صدى صوتٍ حزين=يثيرُ بشَدْوهِ مُقَلَ الجماد
فيعتصرُ الفؤادُ أسىً وحزناً=وحُبي واشتياقي في ازديادِ
ربيعُ العمر قد أمسى خريفاً=وأوراقي عليها الحزنُ باد
شبابي يقتفي آثارَ شيخٍ=أُقارِبُهُ ويجري في ابتعادِ
بياضُ الرأسِ يزدادُ اتساعاً=وظلمُ السجن يُمْعِنُ في اسوداد
فأين اليوم أحبابٌ لقلبي بنظرة=وُدِّهِم ألقى مُرادي
يجودُ الخلقُ أحسبُهُم شحاحاً=بجود الآل عيبَ ندى الجواد
بليلِهُمُ السكينةَ أجْتبيها=فتغشاني ويحلو لي سُهادي
بلحنِهُمُ الوجودُ غدا طروباً=يُراقصُني على ألحان شادي
بقربِهُمُ اللهيبُ غدا سلاما=وطاب العيش في بِرَك الغِماد
همُ الأهلون في قلبي هواهم=بهم وصَّى الإلهُ وخيرُ هَادِ
أأنسى من تَعَهَّدني صغيراً=ودرَّجَني على درب الرشَاد
أأنسى الدفءَ من حضنٍ رحيمٍ= يُزوِّدُني الحنانَ .... وأيُّ زاد
وهل أنسى البراءة حين أرنو=فراشاتٍ بأجنحةٍ وِراد
بأُنسِ "سهى" الهمومُ تزول عني=وفي تَحنانِها ألقى ضمادي
ب"غالية" يفيضُ البيت بِشراً=وتبتسمُ الزهور على الوِهاد
"سهى" عيني و"غاليةٌ" بأخرى=وبالسيفين يشتدُّ اعتمادي
وفي الرؤيا "مؤيدُ" كم أتاني=ليَرفعَ غَمَّ أوشحةَ الحِداد
أقبِّلُهُ وفي نفسي اشتياقٌ=فأصحو ثم يُؤرِقُني سُهادي
وأذكرُ إذ أداعبُهُ صغيراً=بعهدٍ كنتُ أدعوهُ "إيادي"
يوافيني على الأطراف يحبو=فيُشغِلُني الحبيبُ عن اجتهادي
أقول له إلى الأكتاف هيَّا=ألا واصمدْ على ظهرِ الجوادِ
أصارعُهُ فيأسرُني بحُبٍ=ولا إفلاتَ من بعد اصطيادِ
ترددُ حُبَّهُ همساتُ قلبي=فهل ألقاهُ مُكتَمِل العمادِ؟
وهل أنسى "صلاحاً" حيث مالتْ=عليه نصالُ غادرةِ العَوادي
أعاصيرُ الدجى هبَّت فأطفتْ=شموعَ النور في ظُلَم الفسادِ
وطاشتْ سهمُ موتورٍ فأدمتْ=عُيوناً لم تزِغْ في لهوِ نادِ
وحقاً كان في البلوى صبوراً=يعلِّمُني دروساً في السداد
رياحَ الشوق يكفي وارحميني=فقد هَيَّجْتِ بالماضي احتدادي
دعي التذكيرَ تكفيني همومي=فإني اليَوم مَقطوعُ المِدادِ
رياحَ الشوق عودي واحمليها=قَصيداً شاكياً ظلمَ العبادِ
وصُبّي الويلَ بل كوني جحيماً=على الأعداء واشتَدي اشتدادي
مظالِمُهم بآذاني دويٌّ=تُحرِّضُني لثاراتٍ تُنادي
جرائمُهم صواعقُ في كياني=تُفجِّرُ فيَّ بركانَ الجهادِ
رياحَ الشوق عودي واعزفيها=لأهْل الدار في حَزَنِ الحوادِ
فمن يدري لعلِّي لا أراهم=بُعَيْدَ الهَجر في ظَلماء واد
رياحَ الشوق عودي وانثريها=على العَتَباتِ من أرضِ الوداد
وحَيِّي الدارَ عني خبِّريها=بأنَّ البُعْدَ قد أردى فؤادي