قافلــة الجياع

د. هاشم عبود الموسوي

إلى أرواح العراقيين الذين ماتوا بداية تسعينات القرن الماضي في صحراء السودان في محاولة لعبورها، بحثاً عن عمل في ليبيا ..

من أجل أن تقرأ أجيالنا القادمة المآسي التي لاحقت آبائهم بتراجيديا إسطورية .. لم تنته سطورها لحد اليوم .

لم يكن في الأرض دودٌ 

يأكل الموتى على طول الطريق 

ليس بالصحراء ماءٌ 

ليس فيها غير رملٍ وسماء 

يلهث الموت ويجري خلف قافلة 

الضياع 

في هذه الصحراء تختلط الخطى 

وتضيع آثار المُطارِد والمُطارَد 

لا يكتب الموتى سوى سطرٍ جديد

كم مرةً بالأمس قد هبط الأصيل

ومرّ بالأفق الموشّح بالرمال

الأفق أصفر والوجوه الكالحات

لا لون فيها .. غير لون الملح

في الشفتين والعينين

والقلب المعفّر بالخطايا والذنوب

وبقايا حالمين

هل كان خط الأفق

يوماً واقفاً

ثم استوى مستلقياً

من بعد جهدٍ وعناء

لا شيء في الصحراء يطلع للغريب

لا شيء يأتي من بعيدٍ أو قريب

تظل تستلقي على الأرض السماء

أي رعبٍ يعتريه التائه

في صحراء من طول انطباق

يُغلق الرؤيا على كل الجهات

ولا تبدّل في الشعور

دمعٌ وآهاتٌ ..

ستشربها الرمال

لم نجد في البر من عشب

ولا حتى طحالب

ليس من ذئبٍ أبحْ

أو طنينٍ لذبابة

يؤنس الراحل في غيبوبة

.. الحلم الطويل

قالوا لنا:

في الأرض ماء

لا شيء في الدنيا

يُبشّر أننا يوماً

نعود إلى الوراء

فنرى الحقول الباسقات

والقباب العاليات

من سيبقى آخر الأحياء فينا

يدفن الدفان من بعد الرحيل

هل ستأتيه غمامةْ

وتغطّيه برفقٍ كغريب

ما له إسمٌ ولا لوحٌ ولا قبر

ولا يأتي إليه الزائرون

ليس من أملٍ سوى يوم القيامةْ

رحم الله بلاداً

كانت الأنهار فيها والسواقي

وصياح الديك يأتي من تهامه

في مسجد الكوفة أعذاق النخيل

أسقطت في الأرض ظلاً

ظلّ يمتد ويمتد

وحتى ضفّة النهر

إلى يوم القيامة

ليتني أشنم من عشب المقابر

في بلادي - أي رائحةٌ تفوح

لا شيء في الصحراء يأتي

من بعيدٍ أو قريب

لا شيء غير الموت

يقفز مثل شيطانٍ رهيب

ونُحسُّ من هلعٍ

بتنّينٍ يُطاردُ ظلّنا

وعيوننا التعبى .. تقلب في الفراغ

أجفاننا منفوخة

كأنها قدّيسةٌ مغتصبة

وإذا أتى ليلٌ

سيغرسُ في الصدور مخالباً

وتواصل الأرض السكون

وهي تلهثُ بانتظار

هذا دواري في الصحاري والقفار

رأسي وذاكرتي تدور

الأرض ما زالت تدور

قبل آلافٍ من الأعوام

قد رحلت قوافل في الصحاري

جاءها ريحٌ وغطّاها الضياع

أضحى دمي، كالخيل جامحةً، يفور

صار امتداداً للصحاري

منّي تحجّرتِ المآقي والسواقي

ليس في عيني دموع

الموت يركض خلف قافلة الجياع

يدنو، يصيح

هذي قبور الراحلين

من قبلكم تصطفّ في طول

الطريق

وتظلّ تلحقنا المصيبة

مثل دقّات القلوب

من أين تأتينا الصواعق

تغرس في الجسد الشظايا

جاءني صوتٌ حزين

مثل طفلٍ يائسٍ

أفجعه موت أبيه

كان ذاك الصوت يأتي من مسافر

ثملاً من يأسه.. هزءاً يُغنّي

قلبي تغضّن بالجفاف

ودمي صار يفور

طُحنت حبّاته مثل الزجاج

وهو يجتاح العروق

في صحارى جسدي

صدح الصوت كنافورة دم

ومع الإيقاع في لحنٍ شجيّ

رحتُ أهتزّ من الرأس وحتى قدمي

صرتُ أشتاق

إلى لحنٍ جنوبي أُذوّبُ فيه حزني:

"أريد أشرد من البصرة.. ولا أعود

كمنجة ما تسلّيني ولا عود

جيكارة ما تسلّيني ولا عود"

إنّنا من بين آلافٍ من الأشلاء جئنا

همّنا أن نُنقذ المدن البعيدة

من شقاء

ما وجدنا غير صوت الريح

تذروه الصحارى في خواء

لم نكن نطمح يوماً في ثراء

كلّما غنّى مُسافر

راح يسقيني سراباً من سعير

صار قلبي زهرةً ذابلة

ودّعها مطرٌ قديم

ما سقى البل التراب

لم أزل في شعر أمي من بعيد

أشم رائحة الفرات وذلك العطر القديم

لكنني دفنتُ أيامي هناك

وسمتُ روحي كعصفورٍ صغير

باحثاً فوق البراري

عن شتات الذكريات

منذ أن كنّا صغاراً

كان بالعشار(*) عرسٌ وغناء

وشموعٌ.. وإضاءات عيون

تحتسي القهوة

والسكّر، واللوز، وحناء العروس

هي أفراح صبايا وعذارى يرقصون

وعلى مرّ السنين

عيد نوروز وأفراح الحصاد

ومشينا بالدفوف

نطرق الأبواب في رمضان

"ما جينا وما جينا ..

فك الكيس واعطينا"(**)

حتى يبح الصوت ينبلج الصباح

عندما يثقل عيني السهاد

يزعق الكابح، والسيارة الرعناء

تغرز بالرمال

إنّني أصحو على حزنٍ عميق

ويكَ يا مجنون تجتاز البراري

صارت الأرض من البلوي

بلون القار

سوداء رهيبة

كيف للعابر ظلاً ودموعاً

أين.. أين هو الجنوب

متيمماً بالدمع والبركان في صدري

يثور .. يا ربّي

يا ربّ المجرّة هل لديك إشارة

للتائهين

كيف ألقي قبلتي وهماً

أُصارع عزرائيل أدفعه

ويدفعني إلى وادٍ سحيق

وأُقاتل الأشباح في طول الطريق

في وحشة الملل الطويل

تتوقف الساعات ساعات

وأياماً وأحياناً سنين

والموت يهزأ ماكراً منّا

أُنادي يا شيوخ البلد المفجوع

يا كلّ الثكالى، واليتامى

والجياع.. اعذروني

خربشاتي فوق رملٍ هائج

لا يستكين

سوف تمحوها خُطاي اليائسة

أشكّ في يومٍ أعود

وصيّتي هذي ستنقلها الرياح

وتحطّ في مدنٍ تُعانق حلمها

وتظلّ تسأل عن بنيها

وأتمتم نصّها حرفاً.. فحرفاً

كيف تُتلى في الجنوب؟

بيني وبين عنترة

المُقارع بالحماسة والسياسة

ألف ثأر

بعتُ ما عندي بمحض إرادتي

ونويتُ يا ربّي أتوب

موتي يسجّل أن فقري لا يموت

من يشتري بؤسي.. ويغتسل

الذنوب

وأغصّ بالكلمات أتلوها

وأذوي في مفاصلها .. وأحلم

إنّني يوماً سيذكرني الجنوب

                                                             بداية تسعينات القرن الماضي

(*) العشار: هو المركز التجاري والنواة التي نشأت حولها مدينة البصرة.

(**) في إحدى الليالي الدينية من ليالي شهر رمضان المجيد يخرج فيها الأطفال ويُنشدون أنشودة وهم يطوفون على بيوت الحارة ليجمعوا المكسّرات والحلوى التي تم الاستعداد لتوزيعها من قبل مجيء المناسبة.

وسوم: العدد 667