يا بلدي

قصة هذه القصيدة

أعترف بادئ ذي بدء بأني تَعَجَّلْت بكتابة هذه القصيدة التي لم تجئ على النحو الذي كنت أتمناه، ويتمناه معي من سيطّلع عليها، في حين أنني أزعم أن هذه القصيدة كانت مكتوبة في ضميري وعلى صفحة خلدي قبل أن أسطّرها على الورق، وجاءت حميميّة الأهل والأصدقاء مطالبة بإنجازها، ونقلها من صفحة القلب إلى الورق، فجاءت كما ستراها قارئي الكريم، وما كان ذلك مني إلا لرهبة تملؤني كلما وقفت أمام جمال بلدي الذي نَمتْني خيراتُه، وغذّتني طيباته، وأمدتني روعتُه بأضعاف ما كان مأمولاً مني أن أقدر على ردِّه له، فقلبي، ولحمي، ومخي، وعظامي، وحتى أحلامي مجبولة فيه ومنه، وروحي مفطورة على حبِّه، وأنا متَّقد الحنين أبداً إليه... وما أحسب أنني وُفّقتُ في الكتابة يوماً كما وُفّقت حين قلت عن مرابعه الجميلة الساحرة وطفولتي فيها:

حتى لكأنني عيونٌ لم تُطْبقْ عليها الجفونُ وهي تتملى روعة ذلك الجمال المتجدد أبداً.

وعلى امتداد عقود البعدِ عنه، برغم الانشغال بهموم الحياة اليوميَّة المُلهية المُعطِّلة عن زيارته كما أحب، أو الإقامة فيه كما أتمنى، لم تغب عن عيني روعةُ جماله، ولم تخفَّ عليَّ وطأة الحنين إليه، دعْ عنك وقفتي برهبةٍ أشدَّ أمام عظمة تاريخه، وشموخ أولئك الرجال الذين صنعوا له مع أندادهم من الغيارى المؤمنين المخلصين ذلك التاريخ المجيد.

تراني قلتُ تاريخه؟!

عفوَ تاريخه الذي طوِيَ، وربما سيظل مطوياً، وقد لا يرى النور ـ لا سمح الله ـ إذا لم تنهض له، وتتحرك باتجاهــه همَّةٌ عاليةٌ، وجهودٌ مقتدرة، وإخلاصٌ عنيدٌ للتاريخ، والأهل والتراب.. هذا التاريخ الذي يبدو لي ـ ويا للأسف الشديد ــ أنه مجهولٌ حتى ممن يُفترض أن يكونوا ورثته وحماته.. وأعترف أني واحد من أولئك، وإن تكن الأمور نسبية.

كثيراً ما عشت متسائلاً، ووقفت سائلاً أولئك الرجال الذين أحسب أن الله قد هيأهم ليكونوا رجال ذلك البلد بكل ما تعنيه وما تتطلبه هذه الكلمة حينما كنت أعيش مصغياً إلى خفقات قلوبهم، وترقرق دموعهم، وابتسامات ثغورهم، وتهدج نبراتهم وهم يتحدثون بكل البساطة والعفوية البريئتين عن ذكرياتِ جهادهم العنيد:

ــ   لماذا تُبقون صفحات جهادكم مطوية، ولديكم ما تملؤون به أسفاراً وأسفاراً؟

     ولم تكن الإجابات جديدةً عليَّ.. فلقد أصبحتْ مألوفةً لأنها واحدةٌ عند الجميع..

ــ   أوليست الحقيقة التي عاشوها واحدة؟

ــ   أوليست العقيدة التي نشؤوا عليها واحدة؟

ــ   أوليس الهدف والغاية والآمال واحدة أيضاً؟

إنهم لم يجاهدوا لِيُذكروا، ولا ليُحْمَدوا.. إنهم مقتنعون أن ما فعلوه، وما ضحوا به ليس إلا أقل الواجب عندهم، والواجب يجب أن يستحيي فاعله من ذكره.. فكيف إذا ذكرَه مُعَظِّماً له، مُفاخراً به؟

ذلك ما يتنافى مع طباعهم التي فُطروا عليها.

وعندما كنت أقول لهم:

ــ   لكن غيركم قد فعل.. وربما ليس عنده إلا أقل مما عندكم؟ سرعان ما كانت تأتي الإجابة واحدة أيضاً:

ــ   ليس يهُمنا ما فعل غيرنا، وكيف فعل، ولماذا فعل.. ثم يردفون قائلين:

ــ   أتريدنا أن نضيّع ما كنا نبتغيه من مثوبة عند الله الذي أمدنا، على ندرة ما في أيدينا وقلة عددنا، بذكرِ هذا الذي تطالبنا به وهو لا يُقدِّم ولا يُؤَخِّرْ؟

حسبنا أننا ابتغينا به وجه الله، ثم حب هذه الأرض الغالية.

إن الجعجعة لا تُنبت قمحاً، ولا تطحنه.

هؤلاء الرجال الذين استعرتُ من مواقفهم الشامخة قطرة عِطْرٍ واحدة ورششتها في بعض أبيات هذه القصيدة، وقفت وأقف أمام جلال إبائهم وعزتهم أعجزَ ما أكون عن إعطائه ولو أقل الواجب، ولستُ في هذا مبالغاً ولا متواضعاً.. فليس التواضع مقبولاً عند قول الحقيقة.

وإن جهادهم لحقيقة أيضاً..

ألا ترى معي، قارئي العزيز، أن أمر هؤلاء الرجال عجيب حقاً؟

لم أجد بُدّاً وأنا أذكر هذا عنهم من أن أذكر ـ ولو خَطْفاً ـ شيئاً مما فعلوه وألهموه في هذه القصيدة التي لا تعدو أن تكون محاولة للتقرب مما كانوا عليه أو تقريبه.

وَلأَقِفْ معك، قارئي الكريم، عند قصةٍ صغيرةٍ جداً عن رجلٍ أعرفه حقَّ المعرفة لنتبين، بعد هذا الذي حدثتك به، طرفاً من حقيقة هؤلاء الرجال، والقصة أنقلها من غير أن أعلق عليها..

لقد كان المجاهدان الخالدان عز الدين القسام وإبراهيم هنانو ـ رحمهما الله ونفعنا بسيرة جهادهما الحميدة الخالدة ـ كثيراً ما يلجآن إلى بلدي مستنجدين أو مستأنسيْن أو مُسترشديْن لأنهما كانا مطمئنّين إلى أن لهما عندنا ما يريدان.

كان ذلك الرجل صاحب القصة ينثر النقود الفضية، حينما يطالبه بها أولاده صبيحة العيد، عالياً لتتساقط عليهم من حول الصورة الوحيدة التي رفعها فوق مدخل غرفته، وهي صورة المجاهد إبراهيم هنانو رحمه الله فيحسب الأولاد أن «العيدية» جاءتهم من صاحب الصورة.

أليس لنا أن نقول هنا: إنه لا يعرف الفضل إلا أهله، ولا يقدِّرُ الرجال حقَّ قدرهم إلا الرجال!.

تاريخ هؤلاء ا لرجال مطويٌ بإرادتهم حتى الآن، وقد رحل عنّا معظمهم إلى ما قدموه، وما بقيت إلا الذكريات القليلة النادرة المتناثرة هنا وهناك والتي تضغط على أنفاسها اللاهثة لتجهز عليها هذه المسلسلاتُ التي تُقبِل عليها الأجيالُ مسحورةً بعرضها الباهر، مأخوذةً بما بذل في سبيل إخراجها من جهود وأموال ـ مع التحفظ على عدم دقة الكثير مما تقدمه ـ دَعْ عنك هذا الولع الشديد الذي فاق كل مألوف وتصورٍ في التعلق الجنوني بكرة القدم و«أبطالها». على حساب تاريخ أمتنا وأبطاله ورجالاته.

ويقيناً لو أراد هؤلاء الرجال، وتهيأت الجهود، المخلصة لما لديهم من مواد صالحة حقاً لمثل تلك المسلسلات، لكان لكل مشاهدٍ أو مستمعٍ أن يطمئن إلى صحة ما «ألمحت» إليه، ولربما كان بها البديل. وليس لي هنا إلا أن أقول أمام هذه «الحقائق» كلها بكل الصدق..

ليعذرني أهل بلدي الصغير والكبير معاً، وليعذرني تاريخهم المشرِّف، وليعذرني إباؤهم، وليعذرني التاريخ عن كل تقصير أُقِرُّ به سلفاً، فهم بهذه الحقائق ولكل هذه الحقائق أكبر عند الله وأكرم، ويبقى لنا فعل ما نختار فعله.

نَضَّر الله ثرى أموات بلدي، وكل بلاد العرب والمسلمين، وأصلح أحوال أحيائهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

دمشق 1/6/1997

يا بلدي

مهبِط رأس الإنسانِ هو عالَمُه، بل هو العالَم كلُّه فإذا أحبَّه فقد أحبَّ العالَمَ كلَّه، وإن لم يكن وفياً له محباً لترابه فهو أعجز من أن يَفيَ لأحدٍ، أو أن يحبَّ أحداً.. فإلى قريتي «بابنّا»، وإلى تراب منطقة «الحفّة» أقدم هذه القصيدة حباً ووفاءً.

وسوم: العدد 735