إقْبال نامِه
هَلْ تَعُودُ لَيْتَ شِعْرِي النغمة التي أرسلها الفضاء؟
وهل تعود النفحة الحجازية؟
ها قد أظلني الموت.. وحضرتني الوفاة
فليت شعري هل حكيمٌ يخلفني؟
محمد إقبال، قبيل وفاته
فاتحة
فجّرْ عيونَ الشّعر يا أمراني،
وتحرّ ممّا يكتبُ الملكانِ
(ثكلتْكَ أمّك يا معاذُ) محجةٌ
لك، فاتّخذ منْها جناك الدّاني
واعطف ركابكَ نحوَ وادي عبْقرٍ
واصرفْ هواك إلى خطا حسّانِ
واذرفْ دماء القلبِ، آية عاشقٍ
تمنحْك صيّبَها يدُ التّبْيانِ
شاهنامةُاسفنْديارَ أو إنياذةُ ال
رومان أو إلياذة اليونان
ساقوا أساطير الحديث وزخرفوا،
من قولهمْ ما حيكَ في الأذهانِ
وأتيتَ بالحقِّ المبين مصلصلا،
كالسيفِ منه يفرّقُ الضدّانِ
إنّ الحقيقة والجمال كليهما
للفنّ صرح حين يجتمعانِ
شُرّدتُ في طول البلاد وعرضها
مثل القطاة وما برحتُ مكاني
أنا ما أرحت على الطريق حقائبي
فكأنّني بيتٌ بلا عنوانِ
قلبي أنا طللٌ تقادم عهدهُ
كم كان بعض مسارح الغزلانِ
لكنَّ نفحة خالقي من روحه
في الطّين شدّتْ للسماء عناني
فابسطْ جناح الشوق يُبْلِغْك المنى
فالروح لا تحيا بلا خفقانِ
إنّي أنا الموعود بالفتح الذي
من نوره قد أشرق الملوانِ
أنا طارقٌ شاقته أزهارُ الربا
فرويتُ غلّتها بدمّي القاني
والباهليّ أنا، بمصباحي اهتدتْ
فرقٌ لدى المهراج والخاقانِ
وأنا "رياض الصالحات" تكشفتْ
عنها النساء بهمّة الفرسانِ
أنا صيحة الحقّ الذي لا يُمترى
لم تَثْنِ عزمي قبضة السجّانِ
وأنا سليلُ الحيدريّ ونوره
وأنا وريث رسالة الأفغاني
لم أشتكي من غربتي؟ أنا غربتي ال
زهراءُ من حججي ومن برهاني
رمت الحوادث مروتي فتقصّدتْ
من دونها كتقصّدِ المُرّان
ترتدّ راياتُ الطغاة كسيرةً
كلمى، وتُكْسرُ شوكةُ الصلبان
هذا أنا.. تدعُ الحوادث صفحتي
مجلوّةً وتزيد من لمعاني
يا صاحبي، إنّ المسالك جمّةٌ
لكنّنا يا صاحبي أخَوَانِ
إن يختلفْ نسبٌ، وتفترقِ الصوى
إنّا على درْب الهدى صنْوانِ
أنا لن أخونكَ، لن أبيعك زائفا
من زخرف الكلمات والألوانِ
إن كنتَ مصباحاً فإن أصابعي
زيتٌ، وحرفي مورِق ولساني
أنا ما رهنتُ الشعْرَ، رغم خصاصتي
يوماً وبي شمَمٌ لذي سلطان
إن الحواة تشعّبت طرقاتهمْ
هذا شآميٌّ وذاك يماني
وبقيتُ مثل السيف فرداً، لا أني
أعلو بفأسي كلّ ذي شيطانِ
والشعر لغوٌ باطلٌ ما لم يكنْ
نَفَساً سرى من دوحة الرّحْمن
إن جاءك الشّهداءُ، ربّ، دماؤهم
قربانهمْ، وحُرمتُ من سلطانِ
فاجعلْ شهيدي ما خططتُ تفضّلا
واجعلْ مدادَ القلبِ من قرباني
واشحذ يراعي، وليكن بين الورى
سيفاً يضرّجُ من دم الطغيانِ
أو فليكنْ بِيَدِ الحَزانى وردةً
فوّاحةً بالعطْر والإيمانِ
لا كان شعري زخرفاً أو نغمةً
يلهو الدعيّ بوحيها الفينانِ
شعْري كضوء الشمسِ وهّاجاً على
الدنيا، ولا يبلى على الأزمان
كم زخرفوا لكنْ هوَى بنيانُهُمْ
لمّا خلا من ريشةِ التِّبْيانِ
دعْ سامريّ العصرِ يصنعْ عجْلَهُ
من أمر فرعونٍ ومن هامانِ
إني عصا موسى، سأبْطِلُ سحْرَهُ
والطورُ ميناءٌ على شطْآني
أسرار خودي
هو من رأى، والمسْلمُ الربّاني
أسرارهُ فيضٌ من الرّحْمنِ
أضحى بإذن الله مفتاحَ القضا
وله بنور الله باصِرَتَانِ
هو من رأى، والعشقُ جَارحةٌ مضتْ
تعْلي على التقوى عُرَى البنيانِ
هيهات، ليس العشْقُ راحةَ ساعةٍ
بين الغواني الغيدِ والغلْمانِ
والرّاحَ بين مطوّقٍ ومزنّرٍ
زعم الترهّبَ وهو في نُكْرانِ
ما العشقُ إلا نارُ موسى أحْرَقَتْ
في اليمّ عجْلاً صيغَ من بهتانِ
إلا حنينُ الجذعِ وهْو متيّمٌ
بمحمّدٍ ، متحرق الوجدانِ
ما العشقُ إلا صبوةٌ أُحُدٌ بها
يزهو على التوبادِ أو ثهلانِ
جبلٌ، وقد قال الرسولُ: (يُحِبُّنا
ونُحِبُّهُ)، أترى له من ثانِ؟
هتفتْ شماريخُ الجوى اجْعَلْني إذَنْ
قُرْبَانَهُ، يا طابَ مِنْ قُرْبَانِ
رموز بيخودي
هو من رأى من أفْقِه الجوّاني
حُللَ التُّقى الدّيباجَ للعُرْيانِ
هو من رأى، والمسلمون تفرّقوا،
أن الضياء مع الظلام الفاني
هذا أويسٌ وهْو في دعواته
من ربّه بُسِطَتْ إليه يدان
هو قال:(نفيُ الذات) أوّل خطْوةٍ
والنّفي كان ركيزة الإيمانِ
(لا) زادُ من قدْ كان مشّاءً إلى
المحرابِ في الظلماتِ دون توانِ
(لا) عدّةٌ للسالكينَ على الونى
يبغون وجه مكوّنِ الأكوانِ
هو من رأى:(لا) زيتُ من يسعى إلى
مَنْ كلَّ يومٍ أمرُهُ في شانِ
قل: لا إله سوى الذي آياتهُ
ظهرتْ، فجلّتْ ظُلْمةَ العمْيانِ
هو من رأى والنّاسُ بين مُوحّدٍ
ومقدّسٍ للعجْل والأوثَانِ
هو من رأى أنّ افتراق التّبْر عن
زبَدٍ رهينُ القِطْر والنِّيرانِ
هو من رأى أنّ الدجى آياتُهُ
دلّتْ على الإصْباحِ في اطمئنانِ
فمضى يُبشِّرُ أمّةً مكْدودةً:
اللّيْلُ ليس سوى قذًى وزؤانِ
قد آذنتْ أسبابُها برحيلِه
فتأهّبي يا أمّة القرآنِ
إن الزمانَ قد استَدار ومن يكنْ
ذا همّةٍ ألقى له بعِنانِ
واستجْمعي أسبابَ قوّتِكِ التي
ليست، وقد جلّتْ، لذي سُلْطَانِ
أوَ مَنْ تحصّنَ بالكتابِ ووحْيهِ
نوراً كسارٍ ما لهُ عيْنانِ؟
العاشق المحزونُ ينفخُ نَايَهُ
فتُؤوّبُ الأطيارُ في الأغْصانِ
فإذا الحقيقةُ فكرةٌ وهّاجةٌ
وإذا سنَاها مِلْءَ كلِّ جَنَانِ
وإذا بها هممُ الرجالِ مَعاولٌ
تهوي، لها رشَدٌ ، على الصّوانِ
وإذا السبيلُ تكشّفتْ أنْوارُهَا
عن مهبطٍ كترابِ "كُلّستانِ"
صلْصلَة الجرَس
لما التفتُّ وقلتُ: من ناداني؟
جاء النداءُ الحقّ من "فارانِ"
يا طيبَ فارانٍ وطيبَ هوائِها
وترابِها وجمالها الرّيّانِ
مِنْ غير ذي زرْعٍ تفيضُ سنابلٌ
ملأى وقد ضرب الهدى بجِرانِ
صوتٌ من الصّحْراء جلجل خاشعاً
فأجابه لمّا دعا الثّقَلانِ
قمرٌ أطلّ على الخلائقِ نورهُ
فعنا لنور جلاله القَمَرانِ
غيث يغارُ المزنُ من وكَفانه
هل لي إلى العينين من وكفان؟
يا نورَ صلصلةٍ قد ارتعدتْ لها
بُصْرى، وهُدّ الركنُ في الإيوانِ
عرقٌ تحدّر من جبينِ محمّدٍ
طيباً فأذكى غيرة الريحانِ
لولا سناه لما استبانتْ أنجمٌ
لولاه لم نبرحْ مع العميانِ
هو رحمةٌ، هو نعمةٌ، هو نسمةٌ
يأوي إليها خائفٌ أو جانِ
مولاي، جئتُ حماكَ مضطربَ القوى
خَلِقاً ثيابي، واهياَ بنياني
قد وطّد العشّاقُ مِن أركانِهِ
وهدمته بالذّنبِ والعصْيانِ
يأتي إليك العاشقون تقَرّحتْ
أكبادهم كتقرّح الأجفانِ
يأتي إليك العاشقونَ تزوّدوا
في ليلهم بالذّكْر والأشجانِ
وأنا أتيتك والفؤادُ بأضلعي
كالصخْر ما فاضت له عينانِ
شطّت بزورقي الرياحُ، مرافئي
مجهولةٌ، وتقطّعت أشْطاني
الويلُ لي، جئتُ الحمى فطردتني
أخشى أكون نفاية الكيرانِ
أو ليس تصقَلُ طيّباً؟ يا طِيَبةً
وإليكِ تأرز طاقةُ الإيمانِ
يا ليتني كنت الترابَ بروضةٍ
أو كنتُ بعْضَ حجارةِ الجدرانِ
أشكو لك اللهمّ ما صنعتْ يدي
هل لي على وقر الجبالِ يدانِ؟
وأنا الضعيف تهزّ جذعي نسمةٌ
أأطيق لسعاً من لظى ودخَانِ؟
ولئن عفوت فأنت أهلٌ للتّقى
ولأنت أهلُ العفْو والغفرانِ
في أرض فلسطين
إقبالُ في الأقصى أسيرُ مَعاني
عيناه بالآمال تتّقدانِ
إني رأيت وإن تباعدَتِ الخطى
فأسَ الأذى تهوي على الأغصانِ
والطير عاكفة على لذّاتها
والشرّ ممدودٌ إلى الأكنانِ
يا أمّةَ الطيرِ الصلاحُ بوحدةٍ
لو تدركين، ونبْهةِ اليقظانِ
لا تجعلوا القنّاصَ فيكمْ ناصحاً
وإن استعار ملابسَ الرّهْبانِ
غضبُ الرياحِ وفورةُ البركانِ
تستنهضان الرّوح، تصطخبانِ
من قصّ أجنحتي وقيّد همتي
ظلماً وبي شوق إلى الطيرانِ؟
وأنا، أنا الأقصى، أنا المسرى، أنا
سرُجُ الليالي، تَاجُ كلّ زمانِ
أنا قِبْلةُ الرّسُلِ الكرامِ، وموئلٌ
للخائفين، ومصرعُ الطغيانِ
سل بخْتَنَصْرَ وسلْ رماحاً أشرعتْ
باسم الصلاح لنصرِة الصلبانِ
لكنّ مسجدي المباركَ دُنّستْ
ساحاتُهُ من بعدِ طول أمانِ
يا رُبّ مؤتمرٍ يُجَمّعُ قادةً
ليفرّقوا، ويضاعفوا أشجاني
أخذتْ بمعصمي القيود وليتها
زُبَر الحديدِ، ووطْأة القضبانِ
صور القيودِ كثيرةٌ وأشدّها
ما صيغَ من ذنبٍ ومن عصْيانِ
إن الذنوبَ على العيونِ غشاوةٌ
فاصقلْ عيونَ القلْب بالإحْسانِ
قال المعري، وهْو أحكم شاعرٍ
قد أنجبته معرّة النّعمانِ:
(مُلّ المقامُ فكمْ أعاشر أمّةً)
سلكتْ طريقَ غوايةٍ وهوانِ
(أمرتْ بغير صلاحها أمراؤها)
فتدثرتْ بمباذل الإذعانِ
(ظلموا الرعيّةَ واستجَازوا كيْدَها)
نشروا شراع الزور والبهتانِ
(فعَدَوْا مصالحها وهم أجراؤها)
هل تستقيم قوائم الأركانِ؟
ذرْ ساسةً تلعبْ بها أهواؤها
ما بين سمْسارٍ وميْس غواني
وأعرْ سماعكَ صِبْيةً في مهدهمْ
رضعوا من الأقصى أعزّ لِبانِ
جعلوا الحجارة في اللقاء أسنّةً
يا طيبَ أفئدةٍ وطولَ سنانِ
إنّ الحجارةَ إن توضّأ ربّها
من خشيةٍ نطقتْ بغير لسانِ
(يا موت زر إنّ الحياة ذميمةٌ )
ظهر الفسادُ فسادَ كلّ مكانِ
يا ربّ فأْذن بالصلاح وبالتقى
أو عجّلنْ يا ربّ بالطوفانِ
جناح جبريل
الأرض قد أعيتْ على الكتمانِ
والنّور رفَّ، فآذنتْ ببيانِ
والغارُ فاضَ بما تكنُّ ضلوعهُ:
هل لي على حجْب الضياء يدانِ؟
من ذا الذي اخترق الفضاءَ مسبّحاً
وعلى الشفاه سحائبُ الرحمنِ؟
بسط الجناحَ رضاً فما من روضة
إلا ازدهت ببشائر الإحسان
فكأنها مزهوّةً مكسوةٌ
من نشوةٍ بشقائق النّعمانِ
كم مرّت الأجيالُ وهي كسيفةٌ
من صولةِ الشركاءِ بالبهتانِ
كمْ مرّ من فرعونَ وهو يقودُها
للنّار، بئسَ مواردُ الطغْيانِ
كمْ ساسها بالذبحِ، كمْ من أمّةٍ
منكوبةٍ تبعتْ خُطَى هامانِ
قابيلُ، وابنُ أبيكَ رهْنٌ للثرى
أوَ ما ارتوتْ كفّاكَ من إدمانِ؟
نفثتْ دماً تلك الجموع ولم تزلْ
يغْذوك حقْد ليس في الثعبانِ
ولكم لبستَ ثيابَ قسٍّ ناصحٍ
والشّرُّ تحت الثوب كالبركانِ
نيرونُ كانَكَ أو كأنّك كنتَهُ
ويزيدُ كم ولغا وكم يلغانِ
روما إذا احترقتْ فألفُ ذريعةٍ
يأتي بهنّ أكابر الرومانِ
ودمُ الحسينِ إذا جرَى، فمؤوّلُ
الأخبار لا ساهٍ ولا متوانِ
قابيلُ، مهلاً، لست وحدك حاملاً
في الأرض رفش الغدر للإخوانِ
أضحى أكاسرةُ الزمانِ تألّهُوا
لمّا لها النّصحاءُ بالألحانِ
قابيلُ يزعمُه نبيا مرسلا
قابيل يلبس ثوبَ بوش الثاني
كم منْ مسيلمةٍ طغى فتكسّرت
آياته، وهوى إلى الأذقانِ
كم سادهمْ هُبَلٌ، وكمْ عزّى غدتْ
معبودةً، والوقْر في الآذانِ
وأتى الصّباحُ، فيا سحائبُ أمطري
وتدفّقي خيراً على الإنسانِ
من هؤلاء السائرون على الونى
الحاملون مشاعل الفرقانِ
الموقدون على الطوى نار القرى
الباذلون الناس خير جفانِ
الحاملون على الأكف نفوسهمْ
الفائزون ببيعة الرضوان
الصابرون وقد تُنقّص فيئهم
القائدون أعنّة الفرسانِ
الحاملو الرايات إن حمي الحمى
الضاربون مجامع الأضغان
الراقصات إلى مِنى رُكْبانهمْ
والسّلم ثوبُهمُ على الأبدانِ
ظمئت عيونُ الأرض فانفطرت دماً
أسيافهم من بعد طول ليانِ
زُبَرُ الحديد إذا تعذّر طيّها
فدواؤها في الكيّ والنّيران
قال:(انتصر)،فتفجّرَتْ عين القضا
للسائل المغلوبِ والعطْشانِ
ربّاه، تلك عصابة ما أقبلت
أشراً ولا بطراً إلى الميدانِ
حيزومُ أقدمْ، هذه أسيافهمْ
جاءت تمدُّ حبائل الشيطانِ
يبغون بالمستضعفينَ نكايةً
من بعد حَمْلهم على الهجْرانِ
تركوا الأحبة والديار وهاجروا
شوقاً، وبعض الشوق غير مُعانِ
حيزومُ أقدمْ، لا تغادرْ منهمُ
إلا وقد كبُوا إلى الأذقانِ
والبغي مرتعُه وخيمٌ لو دروا
لكنْ قلوبهمُ من الصّوّانِ
ومصارع القوم اعتدوا محسوبةٌ
حقاً، وما حسبوه في الحسبان
الهاربون من الجحيم مخافةً
والخوف زاد العاشق الجوعانِ
والخوف أمن للفتى يرجو به
ما قد أعدّ لهُ من الغفْرانِ
والخوف ردء للحسير تقطّعتْ
منْ دونهُ درعٌ على الأبدانِ
لا تخزنا يوم القيامة ربّنا
هذا الدعاء فجُدْ لنا بأمانِ
السالكون إلى الصليب طريقَهَمْ
في غير ما وجل ولا إذعان
هذا خبيبٌ حالهُ بمراده
نطقتْ، وكانَ القلبُ في اطمئنانِ
هذا غلامكِ، أمّ عبدٍ، رتّلتْ
شفتاه آياتٍ من القرآنِ
فإذا الحبيب المصطفى من بعدها
عينان دامعتانِ خاشعتانِ
هذا غلامكِ، أمَّ عبدٍ، قد بدتْ
ساقاه عنْد النخل تشتبكانِ
أوَ تضحكون؟ هما أشدّ.. أشدّ في
الرّجحانِ من أحُدٍ لدى الميزانِ
ليس التفاوتُ بينكمْ من كثرةٍ
أو قوّةٍ تأتي من الأبدانِ
إن التّفاوتَ لو علمتمْ من تقىً
ومن الهدى والعلم والإيمانِ
صَوْلة الشِّعر
(إن من الشعر لحُكما)
حديث شريف
للشعر صولته بكلّ زمانِ
باني المكارم، هادمُ الطُّغيانِ
يسعى رويدا وهو يخترق السما
يحيي الموات بصيّب هتّانِ
قد سطّرتْ (إقبال نامه) أنفسٌ
قدسيةٌ نطقت بكلّ لسان
للفرْسِ إقبالٌ على آياته
والهند تتلو (زندكي بوستانِ)
والعربُ تهتف: يا لدعوة طارق
يدعو جحافله إلى الفرقان
أحببتُه وكأنّني أُشْربْتهُ
حبّاً تمازج في الصبا بلِباني
هو في الورى قيثارةٌ مشبوبةٌ
وأنا بها ترنيمةُ الألحانِ
هو وردةٌ عُلْويّةٌ وأنا الشذا
يسري بقلب شقائق النّعمانِ
كم سرتُ في محرابهِ مستبطناً
فإذا أنا ناديته لبّاني
وإذا رأى أنّي غفوتُ سويعةً
عنْ سرّهِ أو سحْرهِ ناداني
حتّى إذا اقتَربَ الحِمامُ من الحِمى
نطقتْ بأسرارِ الجوى الشّفتانِ
واللفظةُ الغراءُ إن ينطقْ بها
ذو حكمةٍ تأبى على الذوبانِ:
هلْ من حكيمٍ وارثٍ حُللي إذا
ما أطبقتْ شفَتي يدُ الحدَثان؟
* * *
(إن كان لي نغم الهنُود ولحنُها
لكنّ هذا الصوت من عدنانِ)
إقبالُ، جئتكَ حاملاً قلْبي على
كفّي، تراه يلام في الخفقانِ؟
إقبالُ قد حوّلتَ طيني جوهراً
يعلو على الياقوت والعقْيان
ومنحتَ كفي صيقلا متوهّجا
لولا بيانك كان من عيدان
أُرْسِلتُ في الآفاق نجما ثاقباً
فمشى على آثاريَ القمران
إن كنتُ من خَزَفٍ فمن قيثارتي
عادَ النديم (بقصة الإيمان)
وتزوّدَ (الموزون) منّي زفرةً
منها استضاءت خطوة (الحيرانِ)
شرب الهوى قيسٌ، ولولا ظبيةٌ
نفرتْ لما ملأ الوجود أغاني
ولوامقٍ عذراؤهُ، ولعروةٍ
عفراؤهُ، ما للخليّ لَحَاني؟
طاغورُ حين نطقتَ جاء مبايعاً
تسقي يداه الوردَ في البستانِ
والشاعر الغربيّ أسلم صوته
للمشرقين وحكمة القرآن
يسبي (كتابُ الكُتْبِ) حبّةَ قلبهِ
فإذا به متوقّد الوجْدانِ
و(كتاب زوليخا) بذلك ناطقٌ
سحراً (وللساقي) بيانُ الحان
والعشق ما لم تقتبس من نوره
ناراً كنار الطور محض دخان
فكن الخليل إذا تجلّى آزرٌ
في قومه يدعو إلى الأوثان
إقبالُ كم صنمٍ غدا في أرضنا
بعد انصرام العهد ذا سلطانِ
ما كان نفي الذات إلا صرعة
خرساء تحت معاول الشيطان
(لا) غاب فيض بريقها فذوتْ على
رغم الربيع نضارة الأغصانِ
فانفخ بطينِ المسلمين عساهمُ
يسترجعون نداوة الخفقانِ
الشهيدان
(قصة فاتح السّند محمد بن القاسم الثقفي)
كشف الغطاء وأشرقت بعيان
أرض الجزيرة موئل الفرسان
عن همّة تطأ الثريّا عن فتى
سمح المكارم، راجح الميزان
وسمت عزيمته عن الدنيا التي
أغرت أحبته من الصبيانِ
هو من ثقيف غير أن قناته
كالدهر بين شراسة وليان
أمحمّد بن القاسم اجتمع الألى
قد سوّدوك على فتى الفتيانِ
تلقي بك الأيام في غمراتها
فترى سماء النصر كالعقبانِ
إن أُدْرِكتْ مرضاة ربّك في الوغى
ما همّ ما تلقى من النكرانِ
قطّعت ليلك، واللدات تجمعوا
لهوا، مع التسبيح والقرآنِ
وتظل (نائلة) وأنت جنينها
تأوي لرحمة ربّها المنّانِ
مولاي، إنّي قد نذرت لك الذي
في البطن، فاجعله رفيع الشانِ
وترقرقت أيّامه في الطائف الميمون
مثل ترقرق الغدران
هل من سبيلٍ اِليك يا أرض الصبا؟
فأرود بين مسارح الغزلان؟
لكنّها الأيّام باعد بيننا
ناقوسها، وتفرّق الإلْفانِ
فيم التحسّر يا خليل وهذه
أرض العراق ونخلها دعواني؟
آه على أرض العراق وأهلها
ما بين مجنيّ عليه وجانِ
فكأنّما هي للبلايا مخزنٌ
وكأنّ لم يدرجْ بها خلّانِ
هذا شبيبٌ ليس يفتأ ثائراً
فاسأله فيم خرجت يا شيباني؟
طوي الزمان وقام أحمد منشدا:
(هذا وأوفى من ترى أخوان)
حمي الوطيس فللأزارق هبّةٌ
وعلى المشارف راية الرومانِ
كم طَفْلةٍ حسناءَ رُمّل زوجُها
كم طِفلةٍ ذبحتْ مع الصبيانِ
كم ساجدٍ خُضِبتْ محاسنُ وجْههِ
بدمائه لا من خضاب بنانِ
كم منْ مساجِدَ هُدّمتْ رُوّادها
ما بين تسبيحٍ ورجعِ قُرانِ
وغدا الوليد بواسطٍ، وفؤاده
يعدو ليقطع دامي البحرانِ
أوَ بَعْدَ عَشْرٍ أستكين إلى الهوى
والهمة القعساء في غليان؟
أو ينهض ابن الأشعث الْتَحَفَ الردى
للمجد، ثم أنوء بالبطلانِ؟
هيهات ما أنا من ثقيف إن أنا
أرسلت خيلي خارج الميدان
وابن الفجاءة ما يزال كعهده
يجري سنان الموت بعد سنان
ويحي، استحرّ القتْل بين بني أبي
أأجيل كفّي من بني حِطّانِ؟
أوَ أُطْعِمُ الصّمصامَ لحم مُوحّدٍ
كي يرتضي فعلي بنو مروان؟
آليت ربي، لستُ أقْتُلُ مسلماً
أو تشربنّ الطيرُ من شرياني
أنا سيفك المسلول، ربّ، فصد به
ما شئت من فُتْخٍ ومن عقبانِ
وقني دماء المسلمين كرامةً
ما بين ضرب موجع وطعانِ
ربِّ ارْمِ بي بُرْج الأعادي رميةً
تصدعْ بها ما شِيدَ من طغْيانِ
أو فاجعلنّي ريشةً عربيّةً
في سهم قائدك الفتى حسانِ
ويلٌ لكاهنةٍ رمت عن قوسها
ما استعظمته جماعة الرّهبانِ
لكنّ ربّك قد أذلّ ثيابها
بفتى تجلّى من بني النّعمانِ
أهلَ العراقِ، كفى فإن عَدوّكم
أهدى لكمْ ما شاء من أكفانِ
ودعوا التفرّق والتنازع بينكم
أو أنتم دون الورى الخصمانِ؟
أوليس دينُكمُ وقد أُنسيتمُ
دينَ التوحد والهدى الربّاني؟
واهاً لقومٍ ضيّعوا من رشدهم
ومضوا إلى الهيجا بغير سنان
هو يزدجردُ أزلتمُ بزواله
ملْكاً تعاظم من بني ساسانِ
أو ترجعون إلى الضلالة بعده
وتقدّسون مآثر الدهقان
أسْوار السّنْد
قالوا سيوف الحادثات تجرّدتْ
والموت يرصدكم على (مكْران)
فأجبت والخرساء يبرق بيضها
بين السيوف البيض والمرّان:
من ذا يخوّفني بموت عاجلٍ
أو آجلٍ؟ الموتُ من فرساني.
و(جزيرة الياقوت) تذكر أنّها
ساقت إلى بغداد كلّ حَصانِ
من مسلماتٍ مثل أقمار الدجى
أُهدين في سفنٍ إلى ذي الشانِ
فعدا عليهنّ القراصنة الألى
جاروا، وقد قدروا، على النسوانِ
وإذا حصانٌ تستغيث بلهفة
فيقال: لن تبقى النساء عواني
لبّيكِ يا أخت العقيدة والهدى
ولطالما لبّيتُ من ناداني
أنا سيفُ أمّتيَ الجريحةِ فانهضي
أختاه واتّشحي بدمّي القاني
ولقد دعوت مليكَهم، يا ويحهم،
لحماية الضعفاء من قُرصانِ
فأجابني: ما لي عليهم من يدٍ
خرج اللصوص على ذوي التيجانِ
وأتاهمُ نبهانُ يحملُ رايةً
خفّاقةً ما دون بحْر عمانِ
لكنّه انكسرتْ به راياتهُ
عظُمَ المصاب اليوم في نبهانِ
فإذا الفتى المنشُودُ جرّده القضا
كالسّيفِ في حدٍّ وفي لمعانِ
قال: ابنَ عمّي، يا اتّخذني قائداً
للسند، لا ...لا تنتقص من شاني
إن كنتُ في شرخ الشباب فإن بي
عزماً يفلّ كتائب الشجعانِ
ألأنّ سنّي غضّةٌ أخّرتني؟
أو لستَ تذكر قصّة الغلمانِ؟
هذا ابن عفراءٍ معاذُ مدجّجٌ
ومعوّذٌ عند الوغى أخوَانِ
وكلاهما يرجو الشهادة باسماً
وكلاهما أسَدانِ، بل صقْرانِ
وكلاهما سأل ابنَ عوفٍ: أينه؟
من ذا؟
أبو جهلٍ،
- ألا تريانِ؟
ما يبتغي الفَتَيَانِ؟
سبَّ رسولَنا.
أيسير فوق الأرض في تيهانِ؟
هيهاتَ،
شُدّا، قد بدا ..
..... .فإذا هما
صقرانِ نحو فريسةٍ يثبانِ
وتكشفتْ عن ساقِها في لحْظة
حربٌ عوانٌ، فانثنى الأسدانِ
كلّ يقول: قتلتهُ بالسْيفِ،
واحتكما إلى هادي الورى العدناني
قال الحبيب المصطفى: أمسحتما سيفيكما؟
كلا،
إذن أرِياني.
ورأى النبيّ المصطفى السيفين،ِ
قال: (كلاكما). فاستبشر الولَدَانِ
وعُمَيرُ، يا ابن العَمّ، كيف نسيتَه؟
في مثل سنّي كان حدّ يمانِ
قد كان يخشى أن يُردّ عن الوغى
ويظلّ محبوساً مع الغلمانِ
لا، لم يحنْ سنّ القتال، يقولها
من رحمةٍ، وعميرُ في الأحزانِ
أيفوتني فضل الجهاد؟ وإذ بكى
أمضاه خيرُ الخلْق للميدانِ
ولرافعٍ ذكرٌ رفيعٌ إذ مضى
طفلا إلى أحُدٍ مع الفرسان
إنّ الرماية قدّمَتْهُ وقدْ غدا
ذكْرٌ لهُ يسري مع الرّكبانِ
ومضى ابن جندبٍ الصبيّ مصارعاً
فأجيز للجلّى مع الفتيانِ
رُحْماك يا ابن العمّ، إنّي ظامئٌ
من ذا سواك لغلّة الظمآنِ؟
قال الأمير: أليس قبلك منْ همُ
أحرى بسوق الجيشِ للميدانِ؟
سنّ، وتجربةٌ، وسابقةٌ فلا
تعجلْ، فبئس عواقب العجلانِ
مولاي، جرّبني،
اتّئدْ فيما ترى
أو تحسب الأقوام كالفئرانِ؟
أنا ليس لي غير الشهادة مطلباً
أنا ثالث الشهداء، سوف تراني
هذا (بديلٌ) بعد (نبهانٍ) قضى
أفلا أصيّر ثالثَ الإخوان؟
هبني فدتك النّفسُ أسباب الردى
لا تعجبنْ ممّا يقول لساني
أنا لست أطلبُ منصبا أو مغنماً
غيري يريد الغنْم بعد طعانِ
أنا لا أريد سوى الشهادة والرضا
والموتُ مفتاح إلى الرّضوانِ
يا طالبَ الموتِ استعدّ إذن له
كنْ للعدوّ نيازك المرّانِ
ومشى الفتى، والموت في أحداقه
متأجّجٌ ، والقلبُ في غليانِ
يبغي بلاد السّند، سيفاً لاهباً
ويسوق جيش الفتح دون توانِ
يا فتح (إرمائيل) يومك موعدٌ
بالنصر جاء إذ التقى الجمعانِ
نصب (العروسَ) فكان نحلة مَهرها
صنمٌ، وكم منحوه من قُربانِ
بُدٌّ تحصّنَ فوق هيكل وهمهم
والراية الحمراء في دورانِ
بدّ يطلّ من السماء كأنه
جبلٌ، وقد مدّوا له بعنانِ
كم زاحم الأقمار حول مدارها
فاغتاظ من دورانه القمرانِ
يا أيها المعبود، هل نحميك أم
نحمي منازلنا من النيران؟
ما تنفع الجدرانُ، وهْيَ منيعةٌ
إن خار عنها صاحب الجدرانِ؟
والنّاس في الأوهامِ، كالأنعامِ،
بل أخزى من الجاموس والخرفانِ
هذا صريع حجارة منحوتة
هذا قتيل زمازم الكهّانِ
ذكّرْ بذي النقْبِ المراديّ الذي
ينقضّ مثل الصقر غير مُعان
ينقضّ للأعلى، وعهدي من علٍ
تنقضّ للأدنى صقور عُمانِ
يسعى لهدْم الحصن، وهو ملثّمٌ
فرداً صليتاً، مثل حدّ يمانِ
فكأنّ يوم القادسيّة ماثلٌ
فاعجبْ، ولا تسألْ: مَنِ الفتيان؟
من كان يبغي وجه ربّك لم يزلْ
يسعى بأثوابٍ من الكتمانِ
قل للمليك وقدْ تولّى هارباً
(يا داهراً) لن تنجي القدمانِ
معبودك الحجريّ أضحى روسماً
من بعدما نصّبته لعيانِ
(اللهُ أكبرُ) ضمّخت من طيبها
تلك الرّبوع، وزيّنت بأذانِ
الفارس الميمون سار وأصبحت
(بيرون) قد نادت فتى الفتيانِ
الصلحُ خيرٌ، أغمدوا أسيافكمْ
وتزوّدوا بالبرّ والإحسانِ
كونوا السّحاب لأهلها، كونوا النّدى
كونوا وقد غُلبوا رسولَ أمانِ
وإذا نزلتم في حمى (سربيدسٍ)
لا تأخذوا الخالي بفعل الجاني
العفو مكرمةُ...ولكنْ أدّبوا
أهل الضلالة من ذوي (سهبانِ)
ظمئوا إلى دمنا.. سنسقيهمْ دماً
دمهُمْ يُروّي غّلة العطشانِ
من هؤلاء؟
ذوو (سدوستانٍ) أتوا
يستمطرون العفو في إذْعان
مرحى، فما خُلِقَتْ سيوفُ بني أبي
للمعتفي المستضعف الحيرانِ
إن المليك غدا إلى أمواله
فيما وراء النهر من (مهران)
شغلته عن نصر الضعيف همومُهُ
من جارياتٍ حلّيتْ وغواني
أمسى يُمنّي النّفس بالأمر الذي
من دونه يغدو المماتُ أماني
يا نهر (مهرانٍ) أتحمي من غدا
والفيلُ عُدّته مع الفرسانِ؟
تصهالُ خيلٍ في صئيٍّ زاحفٍ
لكأنّ هذي الحربَ حربُ الجانِ
برقت كتائب واستطال غبارها
نحو السماء، وبشّرتْ بعَنَانِ
لمّا رأى المغلوبُ سوء فعاله
والتفّت السيقانُ بالسيقانِ
قالت حدائده، غدتْ مفلولة ً:
(الرأي قبل شجاعة الشجعانِ)
وإذا فتى غضّ الإهاب مدجّجٌ
يهوي بميسمه على السلطانِ
ويقول، والأشعارُ حكمٌ بالغٌ
أو نفثة المصدور وهْو يعاني
(الخيلُ تشهدُ يوم داهر والقنا
أنّي علوتُ عظيمهم بسناني
فتركته تحت العجاجِ مجندلا
حيرانَ، منه عُفِّر الخدّانِ)
تلك الجموعُ تفرّقت من بعده
لا نصر بعْد اليوم للأوثانِ
لكنّ ربّة قصره ونساءها
أطعَمْنَ أنفسهنّ للنّيرانِ
إلا فتاةً مثل ضوء الشّمْسِ إن
عَرضتْ، ضياء جبينها الفتّانِ
ربّاه، دينك رحْمةٌ وعدالةٌ
زهراءُ، دينُ كرامة الإنسانِ
ربّاه، كيف يزلّ منْ كرّمتهُ
ويسير نحو حبائل الشيطانِ؟
يهوي إذا حمي الوطيس رجالها
بعْد القتال المرّ للأذقانِ
فبأي دستورٍ، وأي شريعةٍ
تصْلى النساء حرارة النيرانِ؟
أيصحّ في الأذهانِ قولةُ فارسٍ:
المجْدُ لي، والعَارُ للنسْوانِ؟
وتهبّ من بين النساء غزالةٌ
رجحت بعفّتها على الأقْرانِ
(سيتا) ابنة الملك العظيم تعرّضتْ
كسحابةٍ سحّاءَ للعطشانِ
وكوردةٍ فوّاحةٍ مزهوّةٍ
بجمالها تختال في البستانِ
يا ربّة الحسنِ البديع تأنّقي
وتألّقي وتدفّقي بأمانِ
ردّي وشاح الحزنْ عنكِ، وما عسى
تجدي الأميرةَ سطوة الأحزان؟
هذا فتاكِ تأججتْ أحشاؤهُ
حبّاً، ولجّ القلبُ في الخفقانِ
(سيتا)، أسيرك قد أتاكِ مقيّداً
وهو الأمير، مدوّخ البلْدانِ
عجباً، أتخطئه السنانُ تقصّدتْ
وتناله في غفْلةٍ عينانِ؟
لا، لست جاريةً ولا محظيّةً
في القصر، لست أسيرة لسناني
أنت المحكّمة التي ملّكْتها
قلبي، وهذا العرْشُ من وجداني
يا درّة الهند المصونةَ ليس لي
إلاك في حَلّي وفي إظعاني
طوّفتُ في الدنيا كطيف مملّكٍ
خلى وراءً سطوة السلطانِ
ومضى يفتّش عن منارته التي
في القلب تنقشها يد الإحسان
حتى طلعتِ على الطريق منارة
تهدي ركاب العاشق الحيران
من قبل أن ألقاكِ كنتُ محيّرا
بجمالك المتورّد الفتّانِ
كحمامةٍ حنّتْ لأيك أليفها
وهو الأسير على البعاد العاني
فإذا بهاؤك للمحيّر نعمةٌ
جادتْ برونقها يدُ الرّحمنِ
يا نعمة الرحمنِ روضك مونقٌ
أكرم بروضٍ فاضَ بالإيمانِ
الشمس يشرق من جبينك ضوؤها
وتغيب في خديك كالرّمان
لا تاج من تاجيك أبهى منظرا
تاج الحياء، وخلعة القرآن
فمن الذي أغراك بي ففتكت بي
يا ظبية تاهت على الغزلان؟
إيهاً مهاة الهند! رفقاً فالفتى
من حبّه المجنون في جيَشَانِ
ربّاه، هذا الحسْن قد أبدعتهُ
ليكون فتنة ريشة الفنّانِ
ربّاهُ، هذا الحسْنُ قد خبّأته
زمناً ليصبِح خمرةً بدناني
ربّاه، جلّ الحسْنُ، أنت جعلتهُ
سرّ الحياة، وجوهر الأكوانِ
لكنّه أودى بما حمل الفتى
وهو المقدّم، معْلمُ الفرسانِ
لو أنّ هذا الحسْن عنّ لراهبٍ
لغوى، وغادر سيرة الرهبان
سيتا، أحبّيني، فأنت هدايتي
وغوايتي، هل يجمع الضدّانِ؟
سيتا، أحبّيني، وزيديني هوىً
وهدىً، وصبّي الزيت في نيراني
النّاسكة المسلحة
قالت له، والعين خير لسان:
أنت الأمير علي لا الأبوانِ
إني فديتك، من سواك يجيرني
من غربتي ونذيرها العريانِ؟
ملّكْتُكَ القلب الحزينَ وأضلعي
فملَكْتَه فانقاد دون عنانِ
ما عدت أملك أيّ شيء بعدما
أضنيتني والشوق قَد أبلاني
إني جُعلت فداكَ ما في الهند من
صفراءَ، يا ملِكي ونبض جناني
أعطيك من قلبي ومن روحي ومنْ
أجَلي ومن سرّ الجوَى أضناني
فارشفْ فديتك ليس من حَرَجٍ ولا
إثمٍ، فإنكَ ما أعشْ سلْطاني
ضع فوق صدري مسمعيك موسّدا
يخْبرْ بما في القلب من خفقانِ
وأساوري الخجلى لمن أعددتها؟
ولمن تُزيَّنُ يا ترى الشفَتانِ؟
ومراود الكحل التي علّمتها
أن تستريح بشطّها العينانِ
أوليس من أجل الحبيب وطِيبِه ؟
دع عنك ما قال العذول الجاني
ما نعمةٌ إلا وفيها حاسدٌ
ذا قولكم يا معْشر العربانِ
حسدوك بي، حسدوك، فاحذر كيدهمْ
واسمع نداء القلبِ فهو يعاني
يا أقحوانتي البديعةَ أقبلي
وتزوّدي من بحري الريّانِ
أنا ما خرجت على حصاني أبتغي
عَرَضاً، سلي ينبئْكِ حالُ حصاني
يا ليتنا كالنخلتينِ بواحةٍ
خضراءَ في الصحراءِ تعتنقانِ
وإذا النّسائم حرّكتْ جذعيهما
فهما معاً للأرض تنحنيانِ
الثّلْج عانقني وأيّ غزالة
لم ترتشفْ من قهوتي ودناني؟
الثلج سامرني وكلُّ حرارةٍ
من عشقه ِ تنسي لظى النيرانِ
ثلجُ الهمالايا يذكّرني هنا
ثلجاً تسامقَ في ذرى عمّانِ
(وعقابُ لبنانٍ وكيف بقطعها؟)
لو تدركينَ الثلج في لبْنانِ
يا أقحوانتي الجميلة قبّلي
سيفي يفضْ بنداوة وحنَانِ
هو رحمة ومحبّة وعدالةٍ
لو تفقهين عدالة الإيمانِ
كُشف الحجاب به ولولا حدّه
لم تخْلُص الدنيا من الأوثانِ
أنا ما تركتُ أحبّتي بطراً ولا
صلفاً، ولا غرّبت عن أوطاني
أنا لمْ أهاجرْ، واللآلئ في يدي
إلا لأنقذهمْ، بني الإنسانِ
بالله مولاتي، أيسعد خاطرٌ
والناسُ أسرى الوهْمِ والأوثانِ؟
هذا صريع حجارةٍ منحوتةٍ
هذا قتيلُ زمازم الكهّانِ
والمصطفى الهادي الإمام مسدّدٌ
ومؤيّد بالوحيِ والفرقانِ
جُعلت لي الأرض الفسيحة مسجداً
لا تحبسوني من ورا الجدرانِ
لا تسكنوني الجوف من قارورة
هل يسكن القارورةَ البحران؟
الشمس لا تجري بغير مدارها
لا تسكنْنها موطن الدَّبَرَانِ
إني أنا الغيث الذي بنقية
وأجادبٍ والبعض في القيعانِ
نمْ، نمْ على صدْري، حبيبي، إنّني
مفتونةٌ من أخْمصي لعَناني
نمْ، نمْ على صدْري، حبيبي، واقتبسْ
من نُوره، فالنّور ملء كياني
نمْ، نمْ على صدْري، حبيبي، واغترفْ
حتى الرضا من صيّبي الهتّانِ
واقطفْ أطايبَ من كرومٍ هيئتْ
لك من حديقةِ عمري الريّانِ
كانت تقول إذا تأجّجت النّوى
وتدجّجتْ أسيافها لعيانِ:
مولاي طيفك زارني، أنعم به
أكرم به من زائر يغشاني
أفديك يا مولاي، هل حذّرته
سيف البعاد وسطوة الهجران؟
الماءُ عانقَنا معاً، وسريرُنا
كالزّهْرِ حين يلوحُ في البستانِ
يعطيكِ من طيبٍ، ويحرسُ شوكُه
من أن تنال حماهُ كفّ الجاني
مولاي، هل ألبسته حلل التقى
من قبل أن تسري به القدمانِ؟
سخّرته لك فاستجاب تطوّعاً
ومنعتِ طيفَك أن يَرى إيواني
أرسلتِ طيفكِ عاجلا متوسّماً
هل من قِرىً لمسافرٍ عجلانِ؟
ما بالهُ لما فرحتُ به انطوى
هلاّ أقام ولو لبعض ثوان؟
ماذا سيحْدث لو أقام دقائقا؟
أتكفّ أقمارٌ عن الدوران؟
هو لو أقام ثوانياً لتفجّرتْ
عيْنُ الحياة لمصبحٍ غبقانِ
سلواي إن حنّت لقومي ناقتي
واشتاق للبلد البعيد حصاني
أبراجُ حبّكِ من يطيقُ علوّها؟
قد جاورت (إفرست) ذا الطّوَلانِ
بيتونيا، وشذاكِ بشرى بالنّدى
والنخْلِ والأعنابِ والرمّانِ
بيتونيا، أو تذكرين موانئاً
كانت لمركبنا أجلّ مواني؟
وعلى ضفافك وردة عربيّة
مائيةٌ تنمى إلى كنعانِ
البحْرُ من قُدّامها، ووراءها
بحرٌ، مضت تزهو على الخلجانِ
بيتونيا! الصيفُ عاد، فما له
متَدثّر بسنابل الحرْمانِ؟
بيتونيا يا وردة عربية
حملت إلي الطيب من بيسان
ممتاز لما آنست رياك في
حجراتها أفضت إلى جاهانِ
سيتا، أيا بنت الملوك، ترفّقي
فأسيرك العَربيّ بات يعاني
كلّ المدائن في يدي تُفّاحَةٌ
أهْديكِها يا درّة الأزمانِ
هل تقبلين يدي؟ أنا البعْل الذي
تزهو العروس بحبّه الفينانِ
تطوى لي الأرضُ الفسيحةُ منّةُ
ما أرضُ (رورٍ) أو ذرى (ملتانِ)؟
والبدّ فيها قائمٌ من حولهِ
يرتجّ آلافٌ من الكهّانِ
طال الحصارٌ بها، وكيف صمودها؟
والماء لا يبقى على الخزّانِ؟
ما دلّهمْ إلا فتىً عن نبعهِ
ماذا صمودُ المتعبِ العطشانِ؟
هل ينفع الذهبُ المكدّسُ عندهمْ
من عهد عادِ؟ يا لظى الحرمانِ.
(دوهرا) المليك مصاول في (كيرجٍ)
يدعو جيوش الفتح للإذعانِ
وتقلّد ابنُ القاسم الأمرَ الذي
قدْ ناءَ من أوزاره الجبلانِ
فمضى إلى المستضعفين يمدّهمْ
بعطائه، ويمدّ كلّ خوانِ
يا أيّها الجوعى ، هلمّوا واطعموا
لا يبق بعد اليوم من خمصانِ
وتزوّدوا ما شئتمُ من كسوةٍ
لا يبق بعد اليوم من عرْيانِ
قد صار يعطي قاعداً أو قائماً
أيّانَ منه المكْرمُ ابن سنانِ؟
وأتى الأميرَ من العراق رسالةٌ
تهتزّ منها أضلعٌ ويدانِ
قدْ مات ركنك...والبناء تقطّعتْ
أسبابهُ، وا حسرة الأركانِ !
مات ابن يوسف وهْو ردؤكَ حيثما
سارت بهنّ أزمّة الرّكْبانِ
أو ليس من ولاّك في شرخ الصبا
سيفاً يُقِضّ مضاجع العدوانِ؟
أو ليس من أعلاك فوق سريره
غضّاً فأحنقَ أكبد الخلاّنِ؟
أو ليس من أهداك من أسراره
فغدوت مثوى الحزم غير جبانِ؟
مات ابن يوسف، ما الذي خبّأتهِ
يا دورة الأيّامِ في الدوران؟
أيطيب عيشٌ بعدهُ؟ أم يا ترى
مَنْ بعْدَهُ يرميكَ بالخذلانِ؟
(سيتا) تعاليْ يا منارة مركبي
وفنار هديٍ ضاء للرّبّانِ
وسفينة العشّاقِ توشك أن تُرى
مكسورةً، والبحْرُ في هيجانِ
(سيتا) تعاليْ، إن حضنك موئلٌ،
والطّفلُ محتاجٌ إلى الأحضانِ
(سيتا) تعاليْ، إن طفْلك شاردٌ
ويداك دفءُ الشّارد البردانِ
(سيتا) أعينيني، فإني موهنٌ
قدْ عضّ قلبي الدّهرُ بعد أمانِ
ضاقت بنا (ملتانُ) يا نوّارتي
غارتْ عيون السّعد من (ملتانِ)
لكنّ في كنف (الوليد) لفاتحٍ
ظلاّ وريفاً مونق الأغصانِ
وترفّ عيناها، ويلمع حدّها
كشرارة، والموت في اللمعانِ
اهنأ حبيبي، إنّني أسقيك من
كأسٍ دهاقٍ ذاقها الأبوانِ
اهنأ، حبيبي، اهنأ، فإنك مرفئي
البحْر أنت يغصّ بالمرجانِ
واهدأ، فما يجْدي الفتى حَزَنٌ إذا
كلّتْ مضاربه من الحدثانِ
أين الهدايا الغاليات حملتها
نحو العراق بأبخس الأثمان؟
أين الجواميس التي سيّرتها
في البحر؟ أين مراكب الأقنان؟
ولربّ مأسدةٍ وقد أتحفتها
تختال مونقة من الغزلانِ
لولا دماء أبي، وقد جدّلته،
ورماد أمّي ، زنته بدخانِ
لمحضتك الودّ الذي أوتيته
غضّاً من القلب الحزين الحاني
لكنّ جذوتك التي أوقدتها
للثأر لم تبرحْ على غليانِ
أنا موئل الحبّ العظيم ونبعه
وأنا ملاذ العطف والتَّحنانِ
وأنا بلاد الهند وهْي فسيحةٌ
نهر صغير في بحار جناني
لكنّني الغضب المقدّس لاهباً
إن جرّحتْ قلبي الصغيرَ يدانِ
عودة السيف الملتهب
مات (الوليدُ) ومن يرجّى سيفُهُ
لمصارع الطغيان والعدوانِ
وأتى سليمانٌ فأصبح شغله
أن تملأ اللذاتُ خير جفانِ
وبنو ثقيفٍ أصبحوا غرضاً لهُ
من شيبةٍ ضعفوا ومن شبّانِ
ما منهمُ إلا وأصبح مقصداً
يرمى بكلّ مفوّق مرنانِ
وأتاك يا ابن القاسم الأمْرُ الذي
صعقتْ له الأنفاسُ والأذنانِ
جاء الكتاب بعزل أعظم فاتحٍ
في الشرقِ، والدنيا إلى دورانِ
فأجاب في ثقةٍ: حسامي في يدي
أنا ما خرجت لمغنمٍ أغراني
مرحى، يزيدُ. أنا بجيشك مفردٌ
ماضٍ إلى الهيجا..أشرْ ببنانِ
ترني كما قد كنتُ أفرسَ ضيغمٍ
وأجلّ مسلولٍ، فخذْ بعناني
ثم ارمِ بي ما شئتَ منْ بلدٍ تجدْ
ما قد تقرّ بفعْله العينانِ
أنا طوع أمرك يا أميرُ، وإنني
سيفٌ بكفّ المتّقين يمانِ
حربٌ عوانٌ ما يغيضُ أوارها
للكافرين، ووردةُ للعاني
ويحي؟ وما الأغلال تأكل من يدي؟
وبأي ذنبٍ صرتُ في القضبانِ؟
غيري جنى، وأنا المعذبُ فيكمُ
فكأنّني سبّابةُ النّدمانِ
يأسى أهالي السند ممّا سامني
من ذلّة وتقرّحِ الأجفانِ
أولم يكنْ غيثاً لهمْ في عسْرهمْ
وأجلّ غيثٍ دعوة الإيمانِ
ويحي، أُشرّدُ في البلادِ كأنّني
لصٌّ، وكم أدّبتُ من قرصانِ
سُيّرتُ نحو الشام تأكل معصمي
أنياب صلّ فاتكٍ من آنِ
عمّي أشار ببيعةٍ، وأنا الذي
حُمّلْتها، هل بعدُ من عدوانِ؟
أبغير ما كسبت يدي تغدو يدي
مغلولةً؟ أيصحّ في الأذهانِ؟
أيكون من جرمي، وقد غيظ العدى
أنّي بسطتُ الدّينَ في البلدانِ؟
هذا، لعَمرُ أبيك، ظلْمٌ فادحٌ
يا دهْرُ من أغراك بي ورماني؟
* * *
يا من حملتَ النّور للهند التي
شرُفتْ بنور الله والفرقانِ
من زيتك الوهّاج كم أوقدت من
علمٍ، وكم رفّعْتَ من بنيانِ
هذا أبو الأعلى بدتْ آياته
من محكم الآياتِ والتِّبْيانِ
هذا أبو حسنٍ تجلّل بالتّقى
والعلم والآداب والعرفانِ
هذا حكيم الهند، إقبالٌ وقدْ
صبغتْ يداه الفنّ بالإيمانِ
هذا جناحٌ ما يزالُ محلّقاً
وسواه مشلولٌ عن الطيّرانِ
أوّاهُ، ثار الحقدُ دون جريرةٍ
فإذا الفتى المخذول في القضبانِ
اللهَ يا ابن القاسمِ اجتمعوا وقدْ
ألقَوْك في قبْرٍ بلا أكفانِ
لو أنّهم نصبوكَ تمْثالاً على
باب المدائنِ ما وفَوْا بقِرانِ
الليثُ في الأصفادِ من بعد الوغى
كم جدّل الأقران بالأقرانِ
كم ذاد، كم ساق الجيوش مرابطاً
بالحقّ تحت عجاجةٍ ودخانِ
وهمى على شفتيه ماء بيانه
والشعر للمحزونِ خير لسانِ:
(فلئن ثويت بواسط وبأرضها
رهن الحديد، تجرّه القدمانِ
فلربّ قينة فارسٍ قد رعتها
وقتلتُ عنها سيّد الأقرانِ)
لو كنتُ أزمعت الفرارَ لوطّئتْ
خيلٌ يُدلُّ بها على الفرسانِ
ومنعتُ عِرْسي أن تكونَ أسيرةً
يلقي بها السّجّانُ للسّجّانِ
لكنّني أسلمتُ أمري طائعاً
لله ربّ العرش، غير مدانِ
* * *
(سيتا) الأميرة أصبحتْ ممهورةً
ما بين عودٍ نائحٍ وقيانِ
هي في بساتين الإمارة وردةٌ
تزهو بظلّ أميرها صفْوانِ
لكنّ طيف الأمس يسري هامساً:
أدمشق، إنّ سناك ما أنساني
ألقت بيَ الدنْيا إليكِ أسيرةً
بعد الإمارة، واستبيح جناني
جسمي بظل الغوطتين منعّمٌ
لكنّ قلب الصبّ في (مهرانِ)
(صفوانُ) ظلّك مورفٌ لكنّ بي
ظمأً يفوق لواعِج الحرّانِ
ويحي، أرى في النفْسَ شعْلةَ حاقِدٍ
مسعُورةً كتَسَعُّرِ المرّانِ
والقلبُ ينكِرُ ما يرى.. ماذا أنا؟
أأنا اللظى؟ أم واحةٌ للعاني؟
أمري يحيّرني... سيوفُ هواجسي
مسلولةٌ، وعواطفي تلحاني
* * *
ماذا أصابك؟ جمرةٌ تقْتاتني
والثلجُ يا لشقاوتي يغشاني
جابي الخراجِ أتى إلى صفوانِ
وهو الموكّل من ذوي السلطان
يمشي رويدا كي ينال مراده:
يا سيّدي، يا أكرم الإخوانِ
لي عند بابك حاجةٌ فامننْ بها
خبّأتها من سالف الأزمانِ
امنُنْ بجاريةٍ أريدُ سماعها
هي من بلاد السند، من (مهران)
(سيتا) الأميرة تبتغي يا سيّدي؟
هي لم تكنْ يوماً قرينَ قيانِ
هي ليس ترقص، ليس تعزف مزهراً
إن كنت ترجو رائق الألحانِ
أنا لا أريد سوى حديث عابرٍ
لا أبتغي منها لحون غواني
وأتتْ يبرقعها الحياءُ عفيفةً
كغزالةٍ ترعى خمائل بانِ
ما أنت سيّدتي؟ بأكرم منزلٍ
عرفتْ جداه منازل العرْبانِ
ثوبي السكينة، والتهجّدُ ديدني
صفوان أرحمُ من شفيقٍ حانِ
ناشدْتُك الرحمن سيّدتي لما
حدّثتني عن دورة الحدثانِ
لا تنكأ الجرْح القديمَ..
أإنّهُ جرحٌ؟، إذنْ، ألقي إليك عناني
قصّي فديتكِ.. - ما أقولُ وقصّتي
يا سيّدي، أدنى إلى الهذيانِ
ما كان أمرك في بلاد السّندِ؟ ما
صنعتْ سيوف أميرك العدناني؟
أمحمّد الثقفي تعني؟ سيّدي
ووليّ نعمتي التي أسداني
أوليس من هتك الحجاب سفاهةً
فتضرجتْ من سيفه الشفتانِ؟
قالت ولفح النّار ملء حديثها
وبمقلتيها جمْرة الغضبان:
حاشاه، نعم فتى الجزيرة كان لي
عفّ، كريمٌ ، ليس بالخوّانِ
يرعى الأمانة، لا يخون، ولا يُرى
أبداً يُدمِّنُ عرصة الإخوانِ
وذووك أهل الملك؟ كيف نسيتهم؟
أيُعَقُّ من بعد الردى الأبوان؟
والملكُ والأستارُ دونك والظبى
مسنونةً، وحدائق الريحانِ
وفتى يُمنّي بالأحبّة نفْسهُ
بهواك، لم تزللْ به قدَمَانِ
هو من كرام السّنْدِ، كيف نسيته؟
هو زهرة الأحباب والأوطانِ
ذكّرتني ابنَ العمّ، ويحك، لا تزدْ
فالنّار من تحت الرماد تعاني
أنت الأميرة، أنت (سيتا) ربّة الحُس
نِ البديعِ، وأنت سلوى العاني
أنت المجلّلة المكلّلة التي
ما زال ذكْرك فوق كلّ لسانِ
هل تشتهين بأن تزوري برّةً
مغنى الشباب ومسرح الغزلانِ؟
من أنت؟ بشرى من ملاكٍ راحمٍ؟
أم مقلتاك غواية الشيطانِ؟
حاشاك، سيّدتي، تظنّين الخنا
بمن ابتغى لك عزّة السلطانِ
يكفيك..ما هذا الحديثُ؟ أثرتني
أيقظت من حزَني ومن أشجاني
وجعلتني عصفورَ حُزنٍ شاقه
طيبُ الحمى...ويداه موثقتانِ
أترى يعودُ إلى الحمى؟ أتراه من
بعد البعاد يعود للأكنان؟
كيف السبيلُ إلى الأحبّة بعدما
قطعت حبالي عضّة الغيلانِ؟
(سيتا) فداك النّاس، أمرك في يدي
وإليك آلت عزّة السلطانِ
تزهو بطلعتك البلاد وتزدهي
بالصولجانِ أسرّة الإيوانِ
أوجعت قلبي بالأماني بعدما
أطفأت في قلبي شموع أماني
(سيتا) الحقيقة في يديك.
وسعرها؟
فلتطمئني، أبخس الأثمانِ
هي كلْمةٌ..
- أعطيك عشْراً..
فاصبري
أو كلمتان بحضرة السلطانِ
انطقْ..
تقولين الفتى الثقفيّ قدْ
هتك الحجابَ وخانَ كلّ أمانِ
وأذلّ عزّتك المنيعةَ بالذي
يأتي منَ الفُجّار والمُجّانِ
لكنّه إفكٌ..
ألم يقتلْ ؟
ألمْ يسفكْ دماء أبيك والندمانِ؟
لا، ليس من قتلَ المليكَ، فقاتلي
نَقَشَتْهُ فوق جوارحي الكفّانِ
ذاك ابن ثعلبةٍ، ولن أنسى اسمهُ
إلا إذا أُلْبِسْتُ من أكفاني
لكنّ سيف بني عقيلٍ جرّد الراياتِ
لو تدرين للميدانِ
الإفك ما ترجوه..
لا، ما همّني.. إن نلتُ ثأرَ أخي..
قطعتَ لساني
أو أكسب الدّنيا وأخسر جنّتي؟
هذا لعمري أعظم الخسرانِ
أأبيع ديني لاكتساب معيشةٍ
وأنا بظلٍّ وارف ومغانِ؟
بنتُ الملوك أنا. .وأربأ أن أُرى
في ساحة الغدرات والعصيانِ
وترفّ أحْلامٌ كأطياف الكرى
وكنجمةٍ تهدى خُطى الحيرانِ:
من لي بعهدٍ بالنضارة وارفٍ
يسري إلى الأعماق فيض حنانِ
قد كان يدعوني إذا غاضبتهُ:
يا أمّ زرعٍ، إنّنا إلفانِ
هل يهرب الإلفان من قدريهما
وهما بثوب الحبّ مشتملانِ؟
بنتَ الملوك، تدبّري لا شيء كانَ
أجلّ من حرّيّة الإنسانِ
مازال ملتمساً سبيل ضلالها
حتى تبدّى الحقدُ كالبركانِ:
(أنت الحبيب، وأنت وحدك سيّدي)
قالت له في نطقها الشفتانِ
لكنّ أوردة الردى قالت له
إنّي أنا الرقطاء للثعبانِ
شرّدتني وفجعتني في والدي
وهدمت ملكي وانتزعت لساني
عطْشى أنا.. عطشي تقدّسَ، باسمه
رويّت بالدم غلّة العطْشانِ
عطْشى أنا، وبأي جارحة ترى
سأفكّ قيدي، أستردّ بناني؟
عطشي جبالُ النارِ، كيف أردّه
عنّي وكلّ ملمّة تغشاني ؟
بطْشي أنا غضبُ القضاءِ وبطشهُ
لا تتّقيهِ إذا رماك يدانِ
أبتاه، ثأرك في دمي متأصّلٌ
واحرّ قلبٍ صائمٍ حرّانِ
مهلاً أمير الهند، يا أسطورة
عزّتْ بهيبتها على الأزمانِ
أنا حتفك الساعي إليك، وفي يدي
ما سوف يهلك سيّد الفرسانِ
ولسوف أطعمك الذي أطعمتني
ولسوف أسقيك الذي أسقاني
يا ثأر (داهر) لا تغضْ، وتأجّجي
يا نار حقدي وانعمي بدخانِ
جابي الخراج، أجبتُ فيما تبتغي
فكنِ الوفيّ، إليكَ، خذْ بعناني
* * *
بي لهفةٌ، دارَ الخلافةِ إنّني
أقبلتُ ساعيةً إليك....تداني
قُتِلَ الأمير محمّدٌ من فرية
قد حاكها الموتور في إتقانِ
وكأنّ ساكن واسط متمثّلٌ:
(المشرقان عليك ينتحبان)
لم تبقَ عينٌ في مرابض واسطٍ
إلا اكتوتْ من حرقة الأجفانِ
ويقول شاعرهم، وينطق بالوفا
شعر الفتى: رحماك يا أحزاني
إنّ المروءة والسماحةَ والنّدى
لمحمّد بن القاسم المتفاني
* * *
ساس الجيوش لسبع عشرة حجّةً
والقوم بين الغيد والغلمانِ
(سيتا) أرى الجابي تأخّر وعده
أين العهودُ؟ وأغلظُ الأيْمانِ؟
لم يبق في نفس الفتى من حاجةٍ
ودم القتيل يصيح: (يا للجاني)
(سيتا) وعود الظالمين سحابةٌ
ما أمطرت إلا على القيعانِ
(سيتا) بكفّكِ مات أكرم عاشقٍ
فلتندبي ولتلطم الكفّانِ
(سيتا) لقدْ ولّى شهيداً شاهداً
ما تنْفعُ العينانِ إذ تكفانِ؟
لا تندبيه، فهْو في أكفانهِ
جسداً، وليس الروح في الأكفانِ
هو طاهر الأثوابِ لم يعلقْ به
حتى وإن ذبحوه من أدرانِ
شقّي الثياب على طهارتك التي
دنّستها بالإفك والبهتانِ
قومي اتبعيه للشهادة، وانطقي
بالحقّ، وانطلقي إلى الغفرانِ
مهلا أمير المؤمنين فإنّني
أعدمت خير الناس بالبطلانِ
إنّي افتريت على الفتى وهو الذي
قد صان عِرضي ساعة الخذلانِ
كنّا إذا أرخى الظلام سدوله
آتي أخي وأبثه أشجاني
والثالث الجاسوس كان يُمِدّنا
كنّا الثلاثة من ذوي الأعيانِ
حتى إذا انكشفَ الحجابُ وجُلّيتْ
منّا الأمور بواضح البُرهانِ
عفّ الأميرُ عن الجناة وساقني
نحو الشآم عفيفة الأردانِ
لكنه الحقدُ اللعينُ أثاره
جابيك يا مولاي كالثّعبانِ
(سيتا) القِصاصُ إذنْ..
ألا هو مطلبي، مولاي طهّرني فقد ناداني
حسبي إذا قبل المهيمِن توبتي
وعساه يجمعنا معاً بجنانِ
مولايَ طهّرني...
عليّ بصالحٍ.. شدّوا الوثاقَ...وتمتمتْ شفتانِ
هي كلمة التّوحيد عنها أسفرتْ
شمسُ الصباحِ، وأسبل الجفنانِ
إنّ الشهيدينِ استوى أمراهُما
لولا الشهادة ما استوى الأمْرانِ
فإذا مررتَ غداً على قبريهما
فارفعْ دعاءكَ، وانصرِفْ بأمانِ
العندليب والوردة
يا عندليبَ الشرقِ، هاك محبّةً
من عندليب الأطلس الهيمانِ
هو مغربيّ الفرعِ لكنْ أصْلُهُ
من طِيبةِ الأرواحِ والأبدانِ
وتمسّ نارُ العشقِ أعواداً لهُ
فإذا اللهيبُ ندى على الأردانِ
ما شاقه إلا تبسّم وردةٍ
فغمتْ ففاض الطيب من كنعانِ
فارانُ تقبسُ من شذاها نفحةً
أوجدت أطيب من شذا فاران؟
درج الحبيبُ بها، وأشرقَ نوره
منها، فعمّ الكون بالفُرْقان
يا طيبَ أحمدَ، والزمانُ مقيّدٌ
من بعده، والأرضُ والثقَلانِ
أنا دون أيْدِكَ يا حبيبي عاجزٌ
مالي إلى فكّ القيُود يدانِ
أنا دون مائك يا حبيبي ظامئٌ
من للمحبِّ الواله الظمآنِ؟
أنا دون نورِكَ في متاهٍ حائرٍ
من يا حبيبي للفتى الحيرانِ ؟
أنت الذي أرشدتني وهديتني
فضلا بإذن الله للبستانِ
فطعمتُ مِنْ أثْمارِهِ، ونهلتُ مِنْ
أسْرارِهِ، وازدان منه خواني
ووهبت للمستضعفين من الذي
أوليتني، فأنا وهُمْ سيّانِ
لولا سناكَ وما حمَلْتَ لأمّتي
من آيةٍ كنّا من العميانِ
فمن الذي أزرى بأمّتي التي
كانت ملاذ الجائع العريانِ؟
أيقظْ غفاة المسلمينَ وأسْقِهمْ
كأس الحياة، وعزّةَ الإيمانِ
يا نسمة السّحَرِ انشري من فوقِهِمْ
ما كان فيه يقظةُ الوسْنانِ
الليل طال فلا تقصّر طوله
بالنّومِ، والزم (سورة الرحمن)
(فيهنّ خيراتٌ حسانٌ) لا تملْ
عنها إلى حلُمٍ وظلّ فانِ
ردّدْ إذا أغراكَ مطرودُ الحِمى:
مولايَ أكرَمَني، فكيف أعاني؟
قَدَرُ الإله أنا، ونورُ بصيرةٍ
للعالمينَ، ومورد الظمآنِ
وطني بلادُ الله، فاستمسكْ بما
يعلو على الأعراق والأوطانِ
نداء قرْطبة
إقبالُ، قرطبةٌ تلبّي دعوةً
من بعدما سُجِنَتْ لدى الرهبانِ
كمْ شوّهوا محرابها صوراً وكمْ
جعلوا حماها كعْبة الصُّلبانِ
واليوم ها هي بعد طول صموتها
سكبتْ على الدّنْيا أرقّ حنانِ
هتفتْ فللتكبير فيها رنّةٌ
قدسيةٌ عُلْويّة الأفنانِ
كم زخرفوا محرابها زمناً فلم
يفضلْ سوى التوحيد للرحمن
نادتك قرطبةٌ فلبّ نداءها
إقبالُ، واركعْ ركعةَ الفرسانِ
كم كنتَ عفّرتَ الجبين بصحنها
وذووكَ في جهلٍ وفي كسلانِ
وذرفت دمعاً كان زيتَ سراجها
فسرى الضياء على ذرى الأغْصانِ
وأتيت باريساً فما بعت الذي
يبقى وإن أغلوا لدى الأثمانِ
وهتفتَ في شممٍ: أهذا دأبكمْ؟
ودمشقُ؟ كيف تسامُ كأسَ هوانِ؟
(جاويدُ) خط المرسلون سبيلَهُ
بالرّشْدِ والإحسانِ للإنسانِ
ما بال أقوامٍ يرون خلودهمْ
في البطش والتّقتيل والعدوان؟
جسرُ الخلُودِ الصالحاتُ فدعْ أذىً
للخلقِ، واحذرْ غضبة الديّانِ
كانت لقلبك آيةٌ (في هرّةٍ)
أتكونُ أثقلَ منك في الميزانِ؟
قل للبراهمة الهنودِ: استيقظوا
قد كان آزر بائع الأوثانِ
لكنّ إبراهيم شيّدَ بعدهُ
ما لم يشِدْ للنّاس فنّ سِنانِ
الكعبة الغراءُ أعظمُ آيةٍ
شهدت له بالحسْنِ والإتقانِ
لولا بهاءُ الرّوحِ فيها لم تسرْ
في المشرقين بطيبها الفتّانِ
كانت صحارى الهند قاعاً صفصفاً
فترقرقتْ بالرّوْحِ والريحانِ
هذا قتيبة شقّ بين ربوعها
نهر الحقيقة مورد العطشانِ
والغزنويّانِ انتشتْ بهما معاً
أرضٌ أوى لجمالها الملوانِ
(محمودُ) موئلُ عدلها وقضائها
و(سناءِ) منبعُ شعرها الهتّانِ
والهند بينهما كطيْر صادحٍ
يزهو من السلوى على الأفنانِ
والبابريُّ على التقى يعْلي بها
صرحاً ترقرقَ بالسلامِ الباني
واسأل جهنكيراً إذا ما جئتهُ
هل شيّدتْ يوماً بِناهُ يدانِ؟
والتّاجُ لولا خفقةٌ من عاشقٍ
لمْ يدر سرّ الفنّ (شاه جهانِ)
هي زفرةُ الإيمان من أعماقهِ
طلعتْ هدى، فطوت بساط توانِ
ما القلعةُ الحمراءُ غيرُ حجارةٍ
لولا (ميانميرٌ ) وذكْرٌ حانِ
يا (قوّة الإسلامِ)، يا صوتَ الهدى
مغنى التقى يزري بكلّ مغانِ
لو كان قطبُ الدين يبغي عسجداً
لغدا لقارون الوريث الثاني
لكنّه الإيمان والحبّ الذي
قد أسكن الطاوي أعزّ مكانِ
دعاء طارق
مَنْ مِنْ وراء الغيب قَد ناداني
فاهتزّ من وقْعِ الشكاة كياني؟
من ذا الذي وأنا بقلب تنعّمي
وتقلّبي في الجنّتين دعاني؟
إقبال، جئتُك من مضاربِ طارقٍ
أرضِ الكماة الصّيد والشُّجعانِ
أرضِ الأمازيغ الذين تمنّعوا
قبلاً على الونْدال والرّومانِ
عزّوا فلم تسجُدْ جباههمُ سوى
للواحد المتفرّد الدّيانِ
قاماتهم موفورةٌ، وسيوفهمْ
مشهورة، تجري بأحمرَ قانِ
هاماتهمْ مرفوعةٌ، جفَنَاتهمْ
موضوعةٌ للضيف والإخوانِ
بيضُ الوجوهِ، فلو رأى حسّانُ ما
صنعوه لم يفْخرْ لدى غسانِ
جعلوا سيوفَ الفتحِ تيجاناً لهمْ
لم يعبؤوا بتوقّد التيجانِ
ساقوا الجياد الصافناتِ إلى الوغى
ثم استخفّوا بالرّدى الهتّانِ
باعوا الإلهَ نفوسَهَمْ وتحصّنوا
ب (الفتح) و(الأنفال)و (الرحمن)
فتفتّحتْ بهمُ القلوب الغُلْفُ منْ
بعد انسدادِ العقْل والآذانِ
فإذا بأندلسٍ تشعّ حضارةً
ونَضارةً كنضارةِ البسْتانِ
وجيادُ عُقْبَةَ لامستْ أعْرافُها
ماءَ المحيطِ فزانها بجُمَانِ
أصغى وقد قال السّلام عليكمُ
يا قومَ يونسَ، وانعموا بأمانِ
لو كان بَعْدكمُ محيطٌ خُضْتُهُ
ولعدتُ منْ أعماقِهِ ببيانِ
وأطلّ إدريسُ المباركُ ظلّهُ
من دوحةٍ حسنيّةِ الأفنانِ
فأقام شرعَ الله، وامتَزجتْ دِماً
لا فرقَ بين الحرّ و(الحرْطاني)
وأعاد تاشفينُ السماحةِ والنّدى
ذكْرَ الأكارمِ من ذوي السُّلطانِ
لمّا تولّى العدوة القصْوى هوتْ
ممّا بناه معاقلُ الصّلبانِ
إقبالُ جئتكَ أبتغي كأسَ المنى
ويداي ضارعتَان ترتعشانِ
فأنا فقيرٌ، ليس في زوّادتي
شيءٌ ألوذُ به سوى أحزاني
إقبالُ، قَدْ دار الزمّانُ وأصبحتْ
آثارُنا رسْماً بُعيْد عيانِ
إقبالُ، قدْ جُرْنا، وليس زمانُنَا
منْ جارَ، أرشدْ موكبَ الحيْرانِ
طال التنازعُ والتفرّقُ بيننا
وتخضّبتْ بدمائنا الكفّانِ
وعلى الشفاهِ دعاية مكذوبةٌ
عجباً، أتكذبُ قلبَها الشفتانِ؟
وأطلّ من خلف الغيوب نداؤه
متوهّجاً، مُتتابع الخفقانِ
يا طالباً حُرّ العلاجِ وجدتَه
وأنا الخبيرُ بدائِك الجوّاني
لا تلتَفِتْ إن كنت من أهل الحجى
واقصد، هُديتَ، إلى حمى القُرآنِ
بلّغ أُهَيْلَ المغرب الأقصى إذا
ما جئتهم: قوموا إلى البنيان
هاتيك "سبتة" صوتُ جرحٍ فاغرٍ
و"مليلةٌ" في القلب جرحٌ ثانِ
أسلافكم فتحوا البلاد منيعةً
أو ترتضون بذلّة وهوانِ؟
شكوى
إقبالُ، ماذا أشتكي من أمرنا
والظلمُ والحرمانُ يعتسفانِ؟
كم قد دعوتَ لوحدةٍ قدسيّةٍ
ليستْ إلى عرقٍ ولا أوطانِ
ولكم نفختَ بطينِ أمتنا هدى
هي نفخةٌ عُلْويّةُ الأردانِ
ولقد نمتْ أرضُ الحجاز بهاءها
فانسب إلى الصدّيقِ أعظم شانِ
وانسبْ إلى الفاروق سرّ عدالةٍ
ولقد يبيت على الطوى ويعاني
أمّا الحياءُ، وهمّة تطأ السهى
فالمعدنُ الصافي إلى عثمان
والحيدريّ حسامُ حقٍّ صارمٌ
وبلالُ يسري في خُطى سلْمانِ
كنّا مدارُ الشّمسِ بعضُ مدارنا
ومجرّةُ القرباتِ والإحسانِ
واليوم يا إقبالُ، ماذا أشتكي
وسفيننا أضحى بلا ربّانِ؟
أنّ العِراقُ وجاء يشكو جرحهُ
فتجيبه الآهاتُ من أفغانِ
والمسجدُ الأقصى أسيرٌ بيننا
متأوهاً يشكو إلى الديّانِ
فكأنّ أمّتي الجريحة كعبةُ
المستضعفينَ، وقبلة الأحزانِ
جواب شكوى
عجباً لمن ملك المفاتحَ كلّها
ويسير بين الناّس كالحيرانِ
أوليس في قول الحبيبِ هدايةٌ:
(كونوا عباد الله كالإخوانِ)
ما أوّل التوحيد إلا قولُ: (لا)
وبها سندحر جحفل الطغيانِ
لمّا أتى ربْعيُّ يحملُ نورهَا
اِنهدّ إيوانٌ وذو إيوانِ
وتفتّحتْ بصرى الشآمِ وأشرقتْ
أكنافُهَا بأبي عُبَيْد الداني
وكسيلةُ انكسرتْ به راياته
ذلاّ، وآثر قبّة الإذعانِ
وأقامها إدريسُ صافيةً على
نهج النبيّ وشرْعة القُرْآنِ
فإذا المشارقُ والمغاربُ كلّها
دنيا سلامٍ سابغِ الأركانِ
والحبُّ معجزة الوجودِ، ونورهُ
فتح القلوبَ بسرّه الربّاني
مناجاة
يا سيّد الإيوان، كأسك لم تزلْ
ممزوجةً بالحبّ والعرفانِ
شوقاً إليها (شمسُ تبريزٍ) سرى
ومشى إليها (العالم الرباني)
هل كان إسماعيل ينحت طينتي
ويحيلني دنّا بجوف الحان؟
أصغي إلى العشّاق، أقبس نارهم
ولقد تعود النار محض جنان
إن كنتَ في شكّ ففي نمرودها
لك آيةٌ يا طالب البرهانِ
أورى الجحيمَ ولجّ في طغيانه
ومصارعُ الطاغوتِ في الطغيانِ
قال الخليل لقومه: أفٍّ لكم
ولما عبدتم من سرابٍ فانِ
قالوا الجحيم، وربّنا، أولى به
ألقوا فتاكم سطوة النيرانِ
فإذا اللظى بَرْدٌ وسلْمٌ رائقٌ
أكرمْ به وبجنّة الرضوانِ
يا طائر الحرمينِ قلبي موثقٌ
وخلاصه في أن يُرى الحَرَمَانِ
ويُذَرّفَ الدمعاتِ من أحزانه
ولربّ منجاةٍ مع الأحزانِ
هذا عديّ جاء يهدي قِطْفه
غبّ العذابِ لسيّد الأكوانِ
من أي أرض يا ترى؟
من نينوى
من أرض يونس؟ إنّنا أخوانِ.
قد كان يونس يشتكي في حزنه
من ظلمتين: البحر والحيتانِ
فإذا بنور الله يجلو همّه
وإذا بيقطين كِسا العريانِ
جواب المناجاة
ربّاه إني قد حمَلتُ جناني
فاغسله من همّ ومن أحزانِ
(يا أيّها الناس اتقوا) مزجت دمي
فغدوت أعلي راية الإنسانِ
(إنا خلقناكم) شعاعٌ ساطعٌ
يا بن الترابِ، فأنت من إخواني
أنا نفْخةٌ قدسيّةٌ حتّى ولو
آل التراب غداً إلى الديدانِ
كم همت في الصحراء لا زوّادتي
تغني، ومائي زلّ عنْ صفْوانِ
كم تهتُ، كم قدّسْتُ من وثنٍ ومنْ
بشرٍ وقد كانوا من الأقنانِ
البحرُ مضطربٌ، وتلك سفيتي
ثقلت وليس لديّ من أشطانِ
والزّادُ قلّ ويا تطاوُلَ رحلتي
وحسابُ يوم الحشر قد أضناني
ربّاه، أوقدْ نار سينائي فقدْ
أتعبتُ خيلي دونما ميدانِ
والطفْ بعبدٍ قد أتى متضرّعاً
وثيابُهُ علقتْ من الأدرانِ
من ذا أخاطب أو أبث مواجعي؟
لكأنّ وقراً قرّ في الآذان
أأبيع في سوق الكساد لآلئي
والناس في شُغُلٍ عن المرجان؟
هزّت مصاريعي الرياحُ فلم أُبِنْ
وكأنّني وترٌ بلا ألحان
أمشي على الأشواك من عهد الصبا
متعلّلا بالرمل والشطآنِ
أضحى مهاجرُ أمّ قيسٍ جائعاً
صفر اليدين، يبوء بالخسرانِ
ويبوء بالأشجانِ غير موفّقٍ
فطريقه نزْغٌ من الشيطانِ
طلب اللذاذة والسداد سفاهةً
وأحاط دنيا الروح بالعصيانِ
ما هجرة المشتاق إلا أنّةٌ
تهب الجوارح لسعةَ النيرانِ
إن صغتُ ملحمةَ الخلودِ فإنما
هي لي عزاءٌ بيْنَ ناسِ هوانِ
وسيعلم التاريخُ بعد ترحّلي
أنيّ وهبت الدرّ للعميانِ
ونقشت فوق الداليات قصائدي
ما بين ألفاظ وبين معانِ
ساقي نامه
(ولله المشرق والمغرب)
قرآن كريم
(إن الشمال والغرب والجنوب تطير شعاعاً،
والعروش تتصدّع، والممالك تضطرب
فانج بنفسك، وأقبل على الشرق الطهور)
ج.و .غوته
وقف النديمُ مهدّم الأركانِ
متعثّر الخطوات عند الحانِ
يرجو الدخولَ على الكرامِ وما له
إذْنٌ سوى حممٍ كنفخة آنِ
ترك الحضارةَ خلْفهُ وأتى إلى
الشّرْقِ الطّهورِ، مبعثر الأشجانِ
كم شاقه سعدي المتيّمُ فارتوى
من شعره، ولحافظٍ كِفْلانِ
كفْلٌ لسحر بيانهِ ولكأسه
النشوى، وللقرآن كفْلٌ ثانِ
هو حافظٌ، هو عاشقٌ، هو ساحرٌ
فكأن ريشتهُ صنيعُ الجانِ
طال الوقوفُ فأوسِعوا يا سادتي
وتفسّحوا يا معشر النّدمانِ
روحي أنا شرْقِيّةٌ شُرُفَاتُها
أوَ مَا رأيت أصابع الفنّانِ؟
عقلي وقلبي حاكمان كلاهما
وهما على روح الفتى حكمانِ
الغرب عقلٌ ساطعُ البرْهانِ
والشرقُ قلبٌ دائمُ الخفَقَانِ
ما مجمع البحرينِ إلا مكّةٌ
وهما كمصباحين يعتنقانِ
الغرب مصباحٌ به الفكْر اهتدى
والشرق مصباحٌ إلى العرفانِ
فهما وإن غدت الدروب شتيتةً
في حضرة الرحمن معْتكفانِ
والمشرقانِ، المغربانِ لواحدٍ
فرْدٍ، فحاذر أن تكون ل(ماني)
يا صاحبي، إنّ الخلائق كلّها
قد أذعنتْ للواحد الديّانِ
فحقيقة الإسلام إن تك ذا حجى
أن تمنح الإذعان للمنّانِ
وصية الوردة
قالتْ وفوق الوجه فيضُ حنانِ:
قصّرتُ في شرحي وفي تبياني
عذراً إذا عقد الحياءُ لساني
فلقدْ لبستُ عباءة الأحزانِ
زدني هوى، زدني هدى، زدني تقى
زدني من العسل المصفّى الدّاني
واملأ من الحبّ العظيم مشاعري
واسكب مياه الشوق ملء كياني
يا عندليب الغرب إن صَداقنا
غالٍ، فليس تطيقه كفّانِ
هي شوكةٌ في القلبِ تمنحني دماً
هي غَرفةٌ من دفقة الشّريانِ
مائي دماؤك، والحياة بغيره
قفرٌ، وسِفْرٌ ليس فيه معانِ
هل تبتغي روض الجنانِ وأنْسها
ونعيمها الداني بلا قُربانِ؟
قلتُ: اشربي، إنّ الدماءَ رخيصة
في شِرعة العشِق الذي أضْواني
لولا الذبيحُ ومُدْيةُ الأبِ لم نكن
نحصي جمال البذل عن إيمانِ
الحبّ ليس بسلعةٍ معْروضةٍ
لكنّه بذْلٌ بلا حُسْبانِ
حسبي شميمُكِ عن نَوىً يا وردتي
كالبدْر أمسى نوره يغشاني
قالتْ وفي العينين منْها رحمة
زهْراءُ لم تنطقْ بها شفتانِ:
يا بلبلي الغرّيدَ لا تكُ مسْرفاً،
ما أبتغي أنا من نجيعٍ قانِ؟
أنا لست أرجو غير طيبِ قصيدةٍ
أو ليس شعرك من دم الوجْدانِ؟
فاضربْ بمعول شعرك الدامي ثرى
قلبٍ تحجّر، واعتصمْ ب (دُخانِ)
و(النحلِ)و(الإسراءِ) و(الأنعامِ)
و(الأعرافِ) و(الشّعراءِ) و(الإنسانِ)
يا نعم زادُ السائرين بدلجةٍ
وسفينةُ العشّاقِ كلّ أوانِ
واحفظْ كلام السابقين بحكمة:
(إنّ الحياة دقائق وثوانِ)
إن فرّقتْ ما بيننا أيّامُنا
وهوَتْ أماني العمْرِ كالبنيانِ
فاصبرْ فإن الله حسْبُكَ إن بدتْ
في أفقنا شُعَلٌ منَ المرّانِ
فغداً ستشرق شمْسُكَ الأخْرى إذا
ما أرجفوا: لقد انطوى الأمراني
هذي وصيّةُ وردةٍ لا تبتغي
بالعشقِ إلا سُنْدُسَ الرضوانِ
وبهذا تختتم ملحمة إقبال نامه
بحمد الله تعالى في يوم الجمعة 5صفر1428 \الموافق ل23مارس 2007
هوامش
واضح أن الشاهنامه هي للفردوسي، من شعراء الفرس في القرن الرابع الهجري، إلا أنني نسبتها لإسفنديار، لكثرة تمجيد الشاعر لأساطير الأكاسرة من إسفنديار وغيره من ملوك العجم.
عناوين لبعض دواوين إقبال، منها: (أرمغان حجاز)، أي هدية الحجاز، أو هدية المسافر الحجازي.
شاهدت حوالي عام 1970، يوم زيارة مسجد قرطبة، وكان أقيم بداخله كنيسة، أعمال محو للنقوش الإسلامية، ولم يبق منها إلا آية معجزة: (ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه).
رفض إقبال الصلاة في مسجد باريس، عندما أرادوه على ذلك، وقال: (إن هذا ثمن بخس لتدمير دمشق وإحراقها). وكلمة (جاويد) معناها الخلود، وقد سمّى إقبال ابنه (جاويد)، وسمّى باسمه أحد دواوينه، وهو (جاويد نامه).
الغزنويان: محمود الغزنوي، صاحب الفتوحات الكبرى في أرض الهند، والشاعر سنائي الغزنوي، الشاعر الربّاني.
(بابر) (جهنكير) و(شاه جهان)، من ملوك الهند المغول المسلمين.
ميانمير: شيخ جهانكير وشاه جهان من بعده. مزاره في لاهور.
مسجد (قوة الإسلام)، من مساجد دلهي التاريخية، بناه قطب الدين، وقف عنده محمد إقبال ونظم فيه شعرا، ووقفت عنده من بعده، فكتبت قصيدة (قوة الإسلام).
هو أحمد الفاروقي السرهندي، المعروف بالعالم الرباني، مجدد الألف الثانية.
هو محمد إسماعيل، لقيته في عام 1985، في ندوة العلماء بلكنو، الهند، وكان طفلا، من تلاميذ الندوة، أنشدنا، بحضرة العلامة أبي الحسن الندوي رحمه الله، قصيدة محمد إقبال: (دعاء طارق)، بصوت شجي ندي حرك القلوب، وهز الوجدان. وبعد عشرين سنة لقيت أحد علماء ماليزيا، في أبو ظبي، فأخبرني أن محمد إسماعيل هذا صار من كبار الأساتذة.
من أقوال كوته المشهورة: (إذا كان معنى الإسلام هو أن نذعن ونسلم الأمر لله، فإننا جميعا نحيا ونموت مسلمين). ومذهب ماني هو القول بإلهين: إله النور وإله الظلمة.
قصة البلبل والوردة من أكثر القصص الرمزية دورانا عند شعراء المشرق الربانيين، ولها ذكر عند بعض المصلحين في العصر الحديث، مثل بديع الزمان النورسي، وعندليب الكون عند بديع الزمان رمز للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وورد ذكر هذه القصة الرمزية أيضا عند بعض شعراء الغرب، منهم أوسكار ويلد، وقد أدار حولها محمد إقبال كثيرا من شعره.
في القصيدة إشارات أخرى، تركناها لفطنة القارئ تخفيفا عليه من كثرة الحواشي.
وسوم: العدد 744