سوريا مزرعة الأسد 4
سوريا مزرعة الأسد
الفصل الرابع
الطليعة المقاتلة
د. عبد الله الدهامشة
لابد من الإشارة إلى أن الطليعة المقاتلة، وكل المجازر في سوريا، إفـراز طبيعي لسياسة حافظ الأسد، فمنذ (1963م) وهو يدفع حسب خطة مرسومة الشباب المسلم إلى الاصطدام معـه، ورفع السلاح ضده، كي يتخذ ذلك مبرراً لضرب الحركة الإسلامية في بلاد الشام، وهي المهمة التي وظف من أجلها ملكاً على سوريا...
وليس جميع أبناء الطليعة من شباب الإخوان المسلمين، بل هم من بعض شباب الإخوان الذين استطاع مروان يرحمه الله جذبهم من الإخوان، أو ممن كان لهم ولاء مزدوج، مع مروان، ومع الإخوان، ومنهم من شباب الحركات الإسلامية الأخرى من غير الإخوان، وقد مر معنا أن الفصائل الإسلامية الأخرى (غير الإخوان) رفعوا السلاح ضد النظام الأسدي قبل الإخوان، ومنهم من الشباب المسلم السوري العادي، الذي دفعه ظلم حافظ الأسد إلى رفع السلاح (ومنهم البعثي النقيب إبراهيم اليوسف يرحمه الله)، لقد كان الشباب السوري يتسابق إلى اللحاق بركب الطليعة، بشكل متوالية هندسية، وخاصة في الأعوام (1979، 1980، 1981) ، وبعد أن اعتقل مروان حديد يرحمه الله من مسجد السلطان الذي اعتصم فيه عام (1964) ليقوم بعمل سياسي، وهو الاعتصام، ليشجع على الإضراب، ولكن هدمته دبابات الأسديين، وبعد أن رأى بعينيه مالم يخطر على بال مواطن سوري، عندما رأى الجيش العقائدي يهدم المسجد، وهناك في الزنزانة المنفردة فكر مروان ملياً، ووصل إلى قناعة مؤداها أن هذا العدو لايجدي معه الجهاد السياسي،كما هو منهج الإخوان المسلمين الحالي، بل لابد من الجهاد المسلح، وحاولت جماعة الإخوان تغيير هذه القناعة عنده، ولكنها أخفقت(1)، وشاء الله عزوجل أن يفرج عن مروان ويظل طليقاً من (صيف 1964م)، (وحتى شتاء 1966م) ثم من (صيف 1967وحتى شتاء 1973م)، ثم اختبأ في دمشق حتى اعتقاله بعد معركة شرسة شاركت فيها طائرة عمودية في صيف (1975م )، ثم استشهاده في صيف (1976م) في السجن يرحمه الله. وكانت هذه الفترات كافية لبناء الطليعة المقاتلة، وقيل إن مروان أراد تشكيل ألف مجموعة، تتكون المجموعة من ثلاثة عناصر مقاتلة، منتشرة في سائر أرجاء سوريا، وتقوم هذه المجموعات بحرب عصابات ترهق النظام الأسدي، وتشجع الشعب على الثورة ضده في النهاية. وتمكن مروان يرحمه الله من استثمار الشباب الصغار، الذين رباهم الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية الأخرى،كجماعة زيد في دمشق وكثير من تلاميذ العلماء في حلب، فهؤلاء الشباب زرع في عقولهم أن الجهاد في سبيل الله طريقنا، وأن الموت في سبيل الله أسـمى أمانينا، وها هـو مروان يحقق لهم ما تربوا عليه نظرياً.
وقد أقام مروان يرحمه الله عدة مخيمات للشباب على الساحل السوري في البدروسية، وعند دوار الجاجية قرب حماة، كانت تهدف إلى تربية الناشئة على الخشونة وشظف العيش وتقوية أرواحهم وأبدانهم، كما كان المخيم الدائم على شاطئ العاصي قبل دخول النهر مدينة حماة بالقرب من قرية (الجاجية). فقد كان يرحمه الله مهتماً بتربية الناشئة، وكان الناس يعجبون من ذلك المنظر الغريب عندما يرون مروان يرحمه الله وحوله مجموعة من الأشبال الصغار يمشون حوله ذاهبين إلى المسجد أو عائدين منه.
أما التدريب العسكري فقد نفذ بعضه في بساتين حماة، وأما الأهم فقد دُرب عددٌ من شباب الإخوان في معسكرات فتح في الضفة الغربية عام (1969م)، وشاركوا في معركة الكرامة واستشهد عدد منهم يرحمهم الله تعالى، وقد اشتهرت قاعدة الشيوخ التي ضمت مروان يرحمه الله مع عبد الستار الزعيم، وهشام جنباظ وغيرهم، مع الشيخ الشهيد عبد الله عزام يرحمهم الله رحمة واسعة، وخاضوا عدة معارك ضد الصهاينة، وقد أحاط الإخوان ذلك بسرية بالغة، وبعد عودتهم كان لهم صلة قوية بمروان، وكان مروان لا يزال (من الناحية الشكلية) عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وبعد انتهاء مدة التدريب وعودة المجموعـة، أوفـد مـروان بعضها إلى حلب (ليؤسس نواة لتنظيمه الذي سماه (الطليعة) كما أبقى بعضه في مدينة حماة، وتوجه بنفسه إلى دمشق ليبدأ هناك تأسيس نواة تنظيمه الجهادي).
وقد أعلن رسمياً عن التسمية، ولأول مرة فيما يبدو لي بعد مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، التي نفذها النقيب إبراهيم اليوسف يرحمه الله (البعثي)، حيث أعلنت الطليعة بيانها الأول على جدار مدرسة المدفعية باسم (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين)،كتيبة الشهيد مروان حديد.
السـلطة تبـدأ مـسلـسل الـدم
في عام (1975م) كانت المخابرات السورية تتابع الموضوع بجد، وتمكنت من إلقاء القبض على بعض الشباب الحمويين في بساتين حماة، معهم أسلحة وقد حفروا خنادق دفاعية، وإزاء ذلك استخدمت المخابرات أقسى أنواع التعذيب وحشية لمعرفة أسرار ذلك، واستشهد الأخ (حسن عصفور والأخ زلف يرحمهما الله)، تحت التعذيب وسلموا جثثهم لأهلهم، وشاع الخبر في حماة عن استشهاد الأخوين: عصفور وزلف تحت التعذيب، وفهم الشباب الذين لهم صلة بالأخ عصفور أنهم اكتشفوا، وأن المخابرات ستلقي عليهم القبض وسيحقق معهم بنفس الطريقة ليموتوا تحت التعذيب، أو يصبحوا عملاء للمخابرات ويعطونها كل ما يعرفون، ومن أجل ذلك قرر هؤلاء الأخوة أن يتواروا عن الأنظار، وأن لا يفارقوا سلاحهم (الكلاشن)، حتى إذا ما داهمتهم سلطات الأمن قاتلوها، وماتوا في ميدان المعركة لأنه أشرف وأسهل من الموت تحت سياط التعذيب(2).
وهكذا بدأت المعركة المسلحة بين النظام الأسدي والحركة الإسلامية ممثلة بشباب الطليعة ثم امتد الأمر ليشمل الإخوان المسلمين، ودامت هذه المأساة حتى (1986م) عندما نفذت عملية الباصات المشهورة، وخسرت سوريا آلاف الشباب من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والضباط وطلاب الضباط والجنود، وشردت آلاف الأسر من خيرة أبناء سوريا في دول الخليج العربي واليمن والعراق والأردن وأوربا وأمريكا وأفغانستان وغيرها. وكان السبب الأول والأهم هو تطرف أجهزة المخابرات في تعذيب الشباب بأصناف من العذاب لا تخطر على ذهن الإنسان العادي، أساليب تنم عن حقد تاريخي دفين، مما جعل الشباب يضطرون إلى الدفاع عن أنفسهم عندما تطلبهم قوات الأمن ليموتوا في الميدان قبل أن يصلوا إلى أقبية المخابرات. واتضح الآن غباء وحقد الرائد العلوي محمد غـرة، الذي قتل اثنين من شباب الإخوان (عصفور و زلف) أثناء التعذيب، ومن غبائه أنه سـلم الجثث لذويهم، وآثار الضرب والحرق بالسجاير والصعق الكهربائي واضحة في أجسادهم، (أو كان ذلك ضمن مخطط بالتفاهم مع حافظ الأسد لدفع الشباب المسلم إلى حمل السلاح)، ولو لم يكن غبياً؛ لما سـلم الجثث إلى ذويهم، ولو أخفى هذه الجثث كما أخفوا بعد ذلك بضعة عشر ألف جثة من جثث الإخوة الذين أعدموهم في تـدمر، لما وقعت الكارثة. والله أعلم.
ويبدو لي أن الرصاصة الأولى التي أطلقتها الطليعة المقاتلة؛كانت تلك الرصاصة التي قتلت الرائد محمد غرة قائد الأمن القومي في حماة يوم (16/2/1976م)، عندما مرت دراجة نارية بالقرب منه وهو خارج من بيته صباحاً، وعلى الدراجة شابان من شباب الطليعة، الأول يقود الدراجة والثاني يده في جيبه على زناد المسدس عيار (7ملم)، ولما صاروا على بعد متر واحد منه أطلقوا عليه رصاصة واحدة في قلبه. ثم فرت الدراجة ومن عليها، لذلك قررت الدولة منع ركوب الدراجات النارية داخل المدن من ذلك الحين وربما لازال القرار ساري المفعول حتى الآن.
الــسلطة تتـهـم العــراق
ومرت عدة اغتيالات لشخصيات بعثية علويـة في الغالب خلال الأعوام (76، 77، 78) وتفجيرات بعض مواقع قوات الأمن،كانت السلطة تتهم البعث اليميني المساند من قبل العراق بها، حتى أنها أعدمت مواطنين أحدهما من آل تركاوي من حماة بعد محاكمات صورية، واتهم بالصلة مع العراق وتنفيذ بعض هذه الحوادث. وفي حقيقة الأمر كانت الطليعة المقاتلة هي التي تنفذ هذه العمليات، ولم تشأ السلطة أن تعلن ذلك، إما لجهلها بتنظيم الطليعة، وإما لهدف أمني كانت تراه كي تتابع أفراد الطليعة وتعتقلهم قبل أن يفروا ـ وهو الأرجح ـ.
كما أن السلطة ما كانت تصدق بسهولة أن الشباب المسلم الذي عاش في المسجد؛ ينفذ مثل هذه العمليات المتقنة من حرب العصابات، وما أرادت أن تعلن ذلك للشعب لأنه يرفع من شأن الحركة الإسلامية في قلوب المواطنين، خاصة وأن هذه العمليات تشـفي غليل الشـعب المضطهد والمظلوم، وهذا ما حصل فعلاً بعد انكشـاف الأمر وبعد أن عرف أن هذه العمليات نفذها الشباب المسلم.
حتى المعركة الأخيرة التي خاضها مروان حديد يرحمه الله في (29/5/1975م) في حي المزرعة بدمشق، بعد أن كشف أحد عملاء المخابرات مكانه وهو (مصطفى جيرو) الذي كانوا يحضرونه من إدلب ليحلق له لأنه من الثقات، ويبدو أن الأمن استطاع الوصول إليه، أو أنه أصلاً من رجال المخابرات، وبعد انكشاف العمارة التي يقيم فيها مروان يرحمه الله، حاصرتها كتيبة من قوات الجيش، ودارت معركة استمرت معظم النهار، وانتهت المعركة بعد أن هبطت طائرة عمودية على سطوح العمارة، ونزل منها عدة مغاوير، في حين انتهت الذخيرة الموجودة عند مروان ومرافقيه، وكلهم جرحى، بعد استشهاد الأخ زكي الصفدي يرحمه الله، فألقت السلطة القبض على البطل الشيخ مروان حديد يرحمه الله، وهو جريح وفي غيبوبة، وتمكن أحد مرافقيه من الفرار (3).
مرحلة المجد العسكري للطليعة المقاتلة
كانت الطليعة المقاتلة تحت إمرة مؤسسها الشيخ مروان حديد يرحمه الله حتى اعتقاله في صيف (1975م)، فانتقلت إلى الدكتور عبدالستار الزعيم يرحمه الله، من الأسر المعروفة في حماة، ومن الرعيل الأول الذين تربوا في مدرسة الإخوان المسلمين، طبيب أسنان لم يعمل في مهنته، وإنما لازم الشيخ مروان يرحمه الله، وتدرب معه مع فدائيي فتح، وكان الرجل الثاني في الطليعة المقاتلة، وأكثر صلة وتفاهماً مع الإخوان المسلمين.
كان عبدالستار حكيماً شجاعاً تقياً ورعاً يرحمه الله، لذلك بدأت العمليات خلال فترته منذ الرصاصة الأولى في قلب الرائد محمد غرة، واستمرت خلال عام (76-77-78-79) بإيقاع منتظم، وانتقاء جيد، ومركزية إلى حد بعيد، وتنفيذ دقيق، حتى استشهاده يرحمه الله في صيف (1979م)، بعد مجزرة مدرسة المدفعية التي نفذها عدنان عقلة نائبه في حلب دون موافقته يرحمه الله، وبعد مجزرة المدفعية بقليل نصبت المخابرات له كميناً على الطريق العام دمشق - حمص، واضطر إلى الاشتباك مع كمين المخابرات، بعد أن نزل من الباص وابتعد عن المدنيين ونال الشهادة يرحمه الله. وبعد وفاته ساءت أحوال الطليعة كثيراً. وصارت عبارة عن عدة تنظيمات محلية، وعجزت عن التعاون أو التنسيق بينها.
وخلال فترته لم تستطع السلطة أن تعلن عن المنفذ الحقيقي لعمليات الاغتيال، التي أوجعت السلطة جداً، مع أنها تعلم الحقيقة، واستطاع يرحمه الله أن يزرع الرعب والهلع في قلوب المسؤولين، من العسكريين والحزبيين ورجال المخابرات، واضطرت الدولة إلى تأمين حماية كبيرة جداً، لكل مسؤول كبير مثل قادة فروع الحزب، وقادة فروع المخابرات، وقادة ألوية الجيش، ناهيك عن قادة الفرق، وأعضاء القيادتين القطرية والقومية، حماية لهم في العمل وفي البيت، وعند التنقل والسفر. وكان شباب الطليعة يتقنون التمويه، وراء الشعور الطويلة والشوارب المفتولة، وحلق اللحى، والسراويل الحديثة...إلخ.
وقد رأيت مرة أمين فرع الحزب في محافظة (...) يخرج من بيته في الثامنة صباحاً، وكي يجتاز المسافة التي تفصل باب العمارة إلى موقف السيارة، التي لا تزيد على خمسين متراً، يُقطَع السيرُ في الشارع فتقف سيارتا أمن (لاندروفر) فيهما مسلحون لإيقاف السير في الشارع، كما يقف بضعة عناصر مسلحين في هذه الأمتار الخمسين، ومع ذلك يخرج ويده على زناد المسدس يتلفت يمنة ويسرة، والرعب يلمح منه على مسافة مائة متر أو تزيد، حتى يدخل في السيارة فيتنفس الصعداء ويطمئن إلى سلامته هذا اليوم. وهو يعلم أن معظم الاغتيالات تمت عند خروج المسؤول من بيته إلى وظيفته.
مجزرة مدرسـة المدفعيـة بحلب
تعتبر مجزرة مدرسة المدفعية بحلب بداية الفوضى في الطليعة المقاتلة، وقد نفذها عدنان عقلة بالتعاون مع النقيب البعثي إبراهيم اليوسف ضابط الأمن في المدرسة، دون موافقة الدكتور عبدالستار الزعيم وهو القائد العام لمجاهدي الطليعة يومذاك، كما أن حسني عابو في حلب لم يوافق عليها، ومما لاشك فيه أن حكومة البعثيين صارت طائفية إلى درجـة (90) بالمائة، ويؤكد ذلك أن عدد طلاب مدرسة المدفعية حوالي (300) طالب بينهم (30) فقط من غير العلويين فقط أي (10) بالمائة، كانت اغتيالات الطليعة لعناصر النظام ناجحة ويرحب بها الشعب لأن المغتالين من عملاء المخابرات، أو ضباط المخابرات وكلهم ممقوتون لأنهم يذبحون الشعب ويدنسون كرامته أمثال الرائد المجرم محمد غرة، واللواء عميل إسرائيل المكشوف عبد الكريم رزوق(4)، لذلك كان الشعب بجميع فئاته حتى بعض العلويين يفرحون لسقوط هؤلاء الرموز الذين باعوا أنفسهم للشيطان. وصارت السلطة تقتل المواطنين على الهوية، فقتلت الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع عدداً من الحمويين البعثيين عام (1982م)، بعد أن أظهروا بطاقاتهم الحزبية التي لم تنفعهم. مما دل على كره وحقد دفين على الحمويين، حتى لو كانوا بعثيين. وهذا هو أسلوب السلطة الذي رفضه الشعب عندما بارك الثورة الجهادية المسلمة.
وشاء الله أن يقدم النقيب إبراهيم اليوسـف بالتنسيق مع عدنان عقلة، فجمع طلاب المدرسة في النادي بحجة إلقاء محاضرة عليهم، بعد إخراج غير العلويين وهم ثلاثون طالباً فقط، وضع بعضهم في السجن وأجاز بعضهم الآخر، ثم وصل شباب الطليعة فطوقو النادي وفتحوا نيران أسلحتهم الرشاشة من النوافذ، وقذفوا رماناتهم اليدوية داخل النادي، فسقط (255) طالب ضابط علوي كما يقول عمر عبد الحكيم (ص33). ووزعت الطليعة يومئذ بيانها الأول باسم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين كتيبة الشهيد مروان حديد، ولأول مرة يعلن التلفزيون السوري هذا النبأ وتعترف السلطة السورية بأن الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين ارتكبت هذه المجزرة. وهذا اعتراف أيضاً بأن مسلسل الاغتيالات الذي تعيشه البلاد منذ أربع سنوات من تنفيذها.
السلطة تعدم (17) أخـاً من قياديي الإخوان المسلمين
طاشت السلطة وفقدت صوابها، وقابلت مجزرة مدرسة المدفعية بإعدام سبعة عشر أخاً من قياديي جماعة الإخوان المسلمين، سبق وأن اعتقلتهم خلال العامين الماضيين. منهم الدكتور حسين خلوف يرحمه الله، بعد أن توقعت السلطة أنهم من قيادة التنظيم، ويلاحظ أن النظام لم يفرق بين شباب الإخوان والطليعة المقاتلة، لأن حقد السلطة على الحركة الإسلامية أعماها عن التوصل إلى حقيقة الموقف،ولأنها تهدف إلى القضاء على الحركة الإسلامية، فأعلنت حربها على الإخوان المسلمين قاطبة، ومن ثم على سائر الحركات الإسلامية، وتجمعات العلماء وتلاميذهم، وحلقات المتصوفة ومريديهم، ثم طوروها حتى صارت حرباً على الإسلام عندما دمرت المساجد في مدينة حماة، وذبح العلماء وذبح الحمويون حتى البعثيون منهم.
على الرغم من أن قيادة الإخوان المسلمين سارعت إلى نفي علاقتها بمجزرة مدرسة المدفعية بحلب، ببيان نشرته مجلة المجتمع في العدد (452، شعبان 1399هـ، الموافق تموز 1979م). ونص البيان على أن الجماعة لا علاقة لها بحادثة مدرسة المدفعية، ونفت كذلك علاقتها بالأحداث الجارية، ونفت أنها حملت السلاح ضد الدولة. ورغم ذلك كله فقد اعتقلت السلطة أعداداً من قيادات الإخوان، وفر من تمكن إلى الأردن، وزجت السلطة بمئات وربما ألوف الإخوان في السجون. ومن الملاحظ أن الطليعة تركت منشوراً تنسب حادثة المدفعية لها، ووزير الداخلية يعلن الحرب ضد الإخوان المسلمين وهذا يؤيد النظرية القائلة أن حافظ الأسد يريد القضاء على الحركة الإسلامية في بلاد الشام.
ذروة الهلــع عنـد السـلطة
استمر العمل الجهادي بعد استشهاد القائد العام الدكتور عبدالستار الزعيم يرحمه الله، استمر بشكل لا مركزي، حيث صارت حلب تحت قيادة المهندس عدنان عقلة، وحماة تحت قيادة الأخ هشام جنباظ يرحمه الله، وحمص تحت قيادة الأخ عبدالمعين السيد يرحمه الله، ودمشق تحت قيادة الأخ أيمن شوربجي، وتشكلت خلايا صغيرة أيضاً في الساحل وجسر الشغور وإدلب ودير الزور ودرعا، وارتفعت وتيرة الاغتيالات حتى وصلت في حلب أوائل عام (1980م) إلى عشرة أشخاص يومياً أحياناً، من أزلام السلطة وأعوانها، وفي حماة كان بسام الأرناؤوط يرحمه الله يقتل عميلاً للسلطة يومياً على مدار أكثر من شهر ونصف، حتى استشهد على يد شرطي مرور يرحمه الله، فخرجت المدينـة ممثلة بطلاب وطالبات المدارس يهتفون بحياة الشهيد بسام الأرناؤوط وموت أعدائه، وبيعت صوره لدى محلات التصوير.
وفي (أواخر 1979، وأوائل 1980م) سيطرت قيادة الطليعة في حلب وحماة تقريباً على الوضع، وصارت تبعث رسائل إلى بعض الحزبيين تطلب منهم إعلان براءتهم من الحزب والتوبة إلى الله في مسجد يعين له، ومعظم هؤلاء كانوا ينفذون ما يؤمرون به، حيث يقف بعد تسليمة الإمام من صلاة الجمعة ويقول: أنا فلان ابن فلان أشهد الله وأشهدكم أني انسحبت من حزب البعث وأتوب إلى الله من ذلك.
وكانت قيادة المجاهدين تأمر المدارس بإقامة صلاة الظهر والعصر جماعة في المدرسة، وتخصيص قاعة مناسبة للصلاة، ومنعت المدارس من ترديد شعار الحزب في الصباح، وقد نفذت المدارس في حلب وحماة هذه التعليمات ومئات السوريين يشهدون على ذلك.
ومثل عجز السلطة أصدق تمثيل خطاب الرئيس حافظ الأسد في عيد ثورة الثامن من آذار عام (1980م ) ومما قاله بعد أن ترك المكتوب على الورق وصار يتكلم بلهجة شبه عامية ويقول:
أتمنى أن أعرف ماذا يريد الإخوان المسلمون(5)، لو يأتوا إلي ويقولون ماذا يريدون، أنا والله مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، وأنا مواظب على الصلاة منذ ثلاثين عاماً، وأنا أعرف أنه يوجد ناس عاقلون في الإخوان المسلمين، يأتوا إلي ويقولوا ماذا يريدون، هل يجوز قتل المسلم؟ هل يجوز قتل المواطن البريء؟ من هو المستفيد من حوادث القتل هذه؟ إنهم أعداء هذا البلد وأولهم الإمبريالية والصهيونية وإسرائيل(6).
هوامش الفصل الرابع
(1) انظر منير الغضبان، سوريا في قرن (2/508). يقول: [أخيراً اقتنع الشيخ مروان بعدم جدوى محاولاته لحمل قيادة التنظيم – جماعة الإخوان - على أن تنهج نهجاً عسكرياً، فقرر إنشاء جماعـة خاصـة من شباب المسلمين... سماه (الطليعة)] والدكتور منير من قيادات الجماعة آنذاك ومازال...
(2) وهذا يدعم نظرية أن النظام الأسدي دفع الشباب المسلم لحمل السلاح، كي يجعل ذلك مبرراً له للقضاء على الحركة الإسلامية في بلاد الشام... وقد نفذ ذلك.
(3) حتى هذه المعركة التي سمعت بها دمشق كلها، أذاعت وسائل الإعلام الحكومية أنها من صنع عملاء النظام اليميني في العراق. وهذا يؤكد أن السلطة كانت تعرف الحقيقة ولكنها كانت تخفيها للمصلحة الأمنية والسياسية، ولم تعترف السلطة بذلك حتى وزعت الطليعة بيانها الأول بعد مجزرة مدرسة المدفعية.
(4) كان عبد الكريم رزوق قائد مدرسة المدفعية عندما كانت في قطنا (وكانت في المعسكر الخامس) ـ ومن عادته إقامة عرض عسكري كل خميس، تشارك فيه المدرسة كلها (ضباط عاملون، وطلاب ضباط عاملون، وطلاب ضباط احتياط، وتلاميذ ضباط صف كثيرون)، ومن الدورات المشاركة يومذاك أول دورة صواريخ (مالوتكا) ضد الدبابات؛ وهي أحدث سلاح في الجيش السوري يومذاك ضد الدبابات، وحين العرض ذلك اليوم في بداية صيف 1970م، شوهدت طائرات في سماء منطقة قطنا؛ فأخبروا العميد رزوق قائد المدرسة فقال لهم: طائرت صديقة، واستمر العرض، وقد تجمع جميع الضباط وطلاب الضباط وتلاميذ الرقباء في سـاحة المدرسة للعرض وعندئذ انقضت عليهم الطائرات الإسرائيلية ترميهم بالقنابل والصواريخ وتحصدهم بالرشاشات، وخلال دقائق معدودة قتل مئات الضباط ومعظم أفراد دورة صواريخ (مالوتكا) يرحمهم الله تعالى، هذا المجرم عبد الكريم رزوق اغتاله مجاهدو الطليعة قبل عام (1979م).
(5) إبراهيم اليوسف مسلم بعثي سني من تادف محافظة حلب، ومثل غيره من أبناء المسلمين السنة إذا أراد أحدهم دخول الكلية العسكرية؛ لابد أن يكون بعثياً، لذلك ينتسب عشرات الألوف من أبناء المسلمين السنة لحزب البعث العربي الاشتراكي، من أجل الخبز كالوظيفة أو المنصب، وفيه جذور إسلامية عميقة من التريبة البيتية أو البيئة المحلية، وإيمان عميق جعله يكره أزلام السلطة، ويبدو أن فيه من الذكاء ما مكنه من الوصول إلى منصب ضابط أمن مدرسة المدفعية، ولا يصل هذا المنصب إلا الحزبيون الثقات، وقد عرفت الطليعة كرهه للسلطة فاتصلت به، ونفذ تلك المجزرة الرهيبة.
(6) لم يذكر الطليعة البتة في خطابه الهام هذا وكأنه لا يفرق الإخوان عن الطليعة.
(7) هذا ما أذكر أنني سمعته بأذني من إذاعة دمشق، أما (فان دام) فقد أثبت في دراسته ما يلي: يقول حافظ الأسد: (أريد أن أوضح أمراً يتعلق بحزب الإخوان المسلمين في سوريا، الإخوان المسلمون في سوريا ليسوا جميعاً مع القتلة، بل كثير منهم، القسم الأكبر منهم، ضد القتلة ويدين القتل، وهذا القسم يرى أنه يجب أن يعمل من أجل الدين ورفع شأن الدين، لا من أجل أي هدف آخر، هؤلاء أيها الشباب لا خلاف لنا معهم إطلاقاً، بل نحن نشجعهم، نحن نشجع كل امرئ يعمل من أجل الدين، ومن أجل تعزيز القيم الدينية، ولهؤلاء الحق بل وعليهم واجب أن يقترحوا علينا، وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة هذا الدين ورفع شأن الدين، ونحن لن نقصر، بل لن نسمح لأحد بأن يسبقنا في هذا المجال، ونحن نشجع من يعمل من أجل الدين، ونحارب من يستغل الدين لأهداف غير دينية، ونحارب الرجعيين الذين يحاولون أن يستغلوا المتدينين في بلادنا لمصالحهم وأغراضهم السياسية القذرة ). ص 142.