محمد أسد والطريق إلى مكة

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

"لبيك اللهم لبيك" لم أعد أسمع شيئاً سوى صوت "لبيك" في عقلي، ودويّ الدم وهديره في أذني وتقدمت أطوف، وأصبحت جزءاً من سيل دائري! لقد أصبحت جزءاً من حركة في مدار ! وتلاشت الدقائق .. وهدأ الزمن نفسه .. وكان هذا المكان محور العالم"

بهذه الكلمات الرقيقة كان محمد أسد يسجل خواطره حاجا، خواطر تخرج من القلب، لتصادف قلوبا عطشى تتكلم بألسن مختلفة، تتفق على صدق الرجل في مشاعره، والتقدير لأحاسيسه وخواطره.

إنه محمد أسد مسلم الذي عاش اثنتين وتسعين سنة ما بين (1900) و(1992)، قضى من هذه المدة ستة وعشرين عاما يهوديا، من أسرة يهودية عمل بعض أفرادها حاخامات، وشاء الله أن يذهب إلى القدس وهي تحت الانتداب البريطاني، ويسلم هناك؛ ليبدأ مسيرة عطاء في الإسلام جعلته يزور بلادا إسلامية كثيرة كمصر والسعودية وغيرها.

سافر محمد أسد إلى الهند والتقى بشاعر الإسلام محمد إقبال، وظل في الهند وفكر في إقامة دولة إسلامية هناك، فكان له الفضل في تأسيس دولة باكستان التي اعترفت بفضله ومنحته جنسيتها وقلدته مناصب في وزارة خارجيتها وكان مندوبها في الأمم المتحدة، ولكنه سرعان ما صدف عنها واتجه إلى الدعوة الإسلامية والكتابة والتأليف.

ومن كتب محمد أسد (الطريق إلى مكة) الذي ترجم بلغات أخرى تحت عنوان: (الطريق إلى الإسلام)، وفي هذا الكتاب يتحدث المؤلف عن رحلته إلى مكة وإقامته فيها، وصداقته بالملك سعود والأمير فيصل، ويعرض لأحوال المسلمين بصفة عامة، وأحوال شبه الجزيرة العربية، دارسا أخلاقهم وطباعهم، وما وجده منهم، ويصف ذلك الدكتور عبد الوهاب عزام الذي قرأ الكتاب فور صدروه باللغة الإنجليزية بقوله: "لبث أسد بين المسلمين يرى ما يسر وما يحزن، وما يعجب وما لا يعجب، ولكنه لبث مسرورا بإسلامه، معجبا بأخلاق العرب" انظر: الطريق إلى الإسلام ص10.

ويؤكد على ذلك الدكتور عزام في موضع آخر فيقول: "إن كتاب أسد ليفيض على قارئه في كل فصل حبا للعرب، وإكبارا لأخلاقهم، وإعجابا بالإسلام وقدرا لعقائده وشرائعه، وسننه وآدابه، ولا يتهم أسد بعصبية للعرب والمسلمين، فما نشأ عربيا ولا مسلما، ولكنه أحب العرب وآثرهم وفضل الإسلام واختاره دينا بعقله المستقل، وفكره الحر، ونفسه التي تكبر الأخلاق أنى وجدتها، وتقوم الفضائل حيث شهدتها"  انظر: الطريق إلى الإسلام ص10.

في ثنايا الكتاب يعرض محمد أسد لبعض خواطره عن حجه لبيت الله الحرام يصف إفاضته مع الحجيج من عرفات فيقول: "ها نحن أولاء نمضي عجلين، مستسلمين لغبطة لا حد لها، والريح تعصف في أذني صيحة الفرح. لن تعود بعدُ غريباً، لن تعود إخواني عن اليمين، وإخواني عن الشمال، ليس بينهم من أعرفه، وليس فيهم من غريب ! فنحن في التيار المُصطخِب جسد واحد، يسير إلى غاية واحدة، وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتقد في قلوب أصحاب رسول الله يعلم إخواني أنهم قصّروا، ولكنهم لا يزالون على العهد، سينجزون الوعد.

وحاد واحد منهم من شعار القبيلة إلى شعار الإيمان صائحا: نحن إخوان من يشري نفسه في سبيل الله؟ وتلاه آخر يصيح الله أكبر.

اجتمعت فرق القبائل على هذا الشعار الواحد، ليسوا هم الآن بداة نجديين، يتفاخرون بعصبيات القبائل، بل هم أناس يوقنون أن لله أمورا في الغيب تنتظرهم. في غابة من أرجل الإبل المتسابقة، وبين خفوق مئات من الرايات ترتفع أصواتهم: الله أكبر

تفيض في موجات عاتية فوق رؤوس آلاف الركبان الراكضين، فوق السهل الفسيح إلى أقاصي الأرض: الله أكبر.

فيم يخفى الحنين بعد أو يتضاءل؟ لقد لقي يقظته، لقي إشراق الظفر يكاد سناه يغشى الأبصار، في هذا الظفر يوفض السائر، يوفض بكل ما وهبه الله، والإيفاض غبطته، والحرية معرفته، وعالمه فلك لا حدود له" الطريق إلى الإسلام ص3.

تلك كانت بعض خواطر هذا العلم الكبير الذي بهمته استطاع أن يؤسس دولة باكستان، وسخر مواهبه وعلاقته السامية لخدمة الإسلام والمسلمين، وهو في هذه الخواطر يلتمس العذر للمسلمين الذين رأى منهما تخلفا، ولكنه في المقابل رأى تخلقا، ولعل حسن الخلق يدفعهم إلى نبذ التخلف والرجعية، ليكون في مقدمة الركب لا في ذيله.

إن عرضنا لخواطر محمد أسد دون تدخل كثير وتحليل لما قال يأتي انطلاقا من سرد هذه الخواطر من أكثر من شخصية لنرى مظاهر الالتقاء والافتراق في تلك الخواطر، وترجع أهميتها أيضا؛ لأن الذي يحج بعد دخوله إلى الإسلام مباشرة كمحمد أسد الذي أسلم وعمره 26 عاما ثم ذهب بعد ذلك إلى مكة بأشهر قليلة حاجا ومقيما بمكة والرياض بضع سنوات لا بد وأنه قد وقف على حقائق ورقائق، مثل النصوص التي عرضناها وترجمت إلى لغات عدة قبل أن تنقل إلى العربية، وحقا لا يعرف الشوق إلى من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.