أُسُس الحلِّ الإسلامي للقضية الفلسطينية

أُسُس الحلِّ الإسلامي

للقضية الفلسطينية

د. محمود النجيري

[email protected]

بعد فترة من الزمان- طالت، أو قصرت- لن يكون هناك شيءٌ اسمه إسرائيل، فإسرائيل نبْتٌ شيطاني، زرَعه الغرب في رحم أمة الإسلام؛ حتى لا تقوم للإسلام قائمة، ولكن الزمن لا يجري لصالح إسرائيل، فهي الماضي الذاهب، ونحن المستقبل الباسم؛ إذ تُعد فلسطين قضية الأمة المركزية التي تستفز قواها، وتوحِّد صفوفها، وترأب صدعها، وتذيب خلافاتها من أجل تحرير الأرض المقدسة.

والباطل قد يكسب جولة، ولكنه لا ينتصر على الحقِّ أبدًا، قال تعالى: ]وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[ (الصافات: 173). وقال سبحانه: ]وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[ (النساء: 141). وبرغم كثرة عَدَد العدو الإسرائيلي وعُدده، إلا أن الخوف يَعْمُر قلبَه، فالإسرائيليون قومٌ يُحبون الدنيا، ويكرهون القتال، وخصوصًا إذا لقوا مسلمين لا يخافون الموت، ولا يتعلقون بالدنيا. وهذا الرعب الذي يلقيه الله في قلوبهم، يُعد نصرًا للمسلمين. فلو لقيناهم، لَوَلَوا الأدبار ثم لا يُنصَرون، ولشفَى الله صدور المؤمنين، وأذهَبَ غيظ قلوبهم.

وبرغم معاهدات السلام، إلا أن اليهود في خوف وقلق وهمٍّ مقيم؛ لأنهم يُدركون أنهم يعيشون في بحر من الكراهية والبغض المحيط بهم من كل جانب، وأن بغض المسلمين والعرب لهم أصيلٌ مستقرٌ في العقيدة الإسلامية، ونابعٌ من الصراع التاريخي الطويل. ويَسعى  الإسرائيليون من وراء معاهدات السلام إلى تطمين أنفسهم، ومعانقة وهْم إمكان تقبُّلهم في المنطقة التي لا ينتمون إليها. والحالة النفسية للمواطن الإسرائيلي غير مستقرة، بل هو يعيش في رعب وتوجُّس وحذر، يتوقع كل يوم هجومًا عربيًا، أو عملا فدائيًا، يَحسَبون كلَّ صيحة عليهم، ولا يمرُّ أيام كثيرة دون أن يسقط من الإسرائيليين قتيل أو جريح؛ ولذا همْ لا يضعون السلاح، بل هم في استنفار دائم، وتحفزٍ مستمر، برغم كل ترساناتهم من الأسلحة والعتاد المتقدم، وهم في ذلك كما قال أحد كتابهم: "نحن نحاول أن نزرع شجرة في داخل دبابة"!

أمَّا المسلمون من شباب الصحوة، فجيلٌ لا يبيع دينه بدنياه، ولا يستبدل آخرته، ولا يرضى بعَرَض حقير، وليس له مطمح بعد الجنة.

جيلٌ يقاتل بالكلمات والحجارة، وبكل ما يجد من قوة واستطاعة، لأنه يعِي أن الإيمان لا يجتمع مع المذلة، وأن الكفر والاستسلام سواء، وأن ركن الله الشديد، آمَنُ من أركان النظام العالمي الجديد.

جيل لنصرة دين محمد. فدينه حيٌ، وأمته باقية، وأبناؤها رجال لا يخافون في الله لومة لائم. رُهبان بالليل، وفرسان بالنهار، لا يأوون إلى حضن مشرك أو ملحد، بل الاعتصام بحبل الله وحده.

والجهاد اليوم فرضُ عينٍ على كل مسلم قادر، بالنفس والمال، واللسان والقلم، في مواجهة أعداء بُغاة ظالمين متجبِّرين. وكلُّ مسلم واجبٌ عليه أن يعد نفسه ليكون جنديًا، يجاهد بروحه ودمه وماله في سبيل تحرير بلاده، التي هي كل بلاد الإسلام. وعلى كل قادر أن يُنفق من ماله في سبيل الله؛ إعدادًا لمتطلبات الجهاد، من عُدَّة وعتاد، ومعدات وذخائر على أحدث ما أنتج العصر. وعلى كل مواطن أن يبذل جهده؛ لتقدُّم هذه البلاد، وتحررها من الضعف والفقر والتخلف، وإعدادها للجهاد والكفاح، ولتكون على قدم المساواة مع أرقى الأمم المعاصرة.

إن القرآن قد حسم الصراع بيننا وبين اليهود بقوله تعالى: ]لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ[ (آل عمران: 111-112)، وقوله سبحانه: ]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ[ (الأعراف: 167). وسيكون من ذلك ما شاء الله تعالى.

ونرى أن تحرير فلسطين يكون بتحرير أنفسنا أولا، وتحرير إرادتنا السياسية، ولن يكون ذلك إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، ونظام الحكم الإسلامي كاملا في ديار المسلمين. ولابد لذلك من إنهاء تحكم المنافقين والملحدين والعلمانيين في المؤسسات السياسية والإدارية، والثقافية والاقتصادية، والعسكرية في العالم الإسلامي. فلن يكون تحريرٌ حقًّا لفلسطين إلا بعد أن نتحرر نحن أولا من قبضة الغرب وربقة أذنابه، الذين يعوقون تقدمنا وصلاحنا، وهم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ولكنهم دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها، قذفوه فيها.

لابد أن نتحرر من يهودنا أولا، ومن أهل النفاق والإلحاد، حتى نتمكن من أن ندير صراعًا دينيًا، لا وطنيًا، ولا قوميًا فقط. وهذا التحرير الذاتي، سيؤدي تلقائيًا إلى الوحدة الإسلامية، والقوة التي ستدفع إلى تحرير ما اغتُصِبَ من بلاد المسلمين. ولذا تعلن إسرائيل صراحة أن عدوَّها الحقيقي ليس العلمانيين، ولكن "الأصوليين"؛ لأن لهم مبادئ تزول الجبال ولا تزول، وأفكارَهم عصية الترويض، ومستحيلة الاختراق.

وتمُرُّ قضية فلسطين عبر عودة الخلافة الإسلامية، وكذلك علاج غيرها من المشكلات الأساسية في العالم الإسلامي. فهذه القضية وغيرها عَرَض للخطر المُحِيق بنا من كل جانب؛ نتيجة لسقوط الخلافة الإسلامية منذ عام 1924م. وقد أريدَ بالقضية الفلسطينية- فيما أريدَ- أن تشغلنا عن التطلع إلى القضية الأساسية، وهي عودة الخلافة، وأن تلهينا عن أمِّ الداء في واقعنا المعاصر، وهو تشرذم المسلمين شيعًا وأحزابًا، وتمزُّقهم إلى دويلات.

وإذا كانت فلسطين أرضًا إسلامية اغتُصِبت، فهناك أراضٍ إسلامية كثيرة مغتصبة ومضيَّعة، وبتقادم الزمان هي معرضة للمحو من خارطة الإسلام، أو معرَّضة لغزو صليبي، يريد ألا يُبقي ولا يذر من الإسلام شيئًا. وصحيح أن لفلسطين خصوصية من ناحية أنها أرضٌ بها مقدسات الإسلام، إلا أن هذا ينبغي ألا يجعلنا ننسى مشكلاتنا الأخرى في العراق، وأفغانستان، والشيشان، ومقدونيا، وكشمير، وقبرص، والصومال، وكوسوفو، والفلبين، والجمهوريات الإسلامية السابقة، التي لم تتخلص من نير الاتحاد السوفيتي، إلا لتُقيَّد بحكام لا يزالون على الشيوعية، والحبشة ذات الأغلبية المسلمة والأقلية النصرانية المسيطرة، والجمهوريات المسلمة ذات الحكم الذاتي في روسيا الاتحادية، والمقاطعات الإسلامية في الصين... وهلمَّ جرًّا.

وكل ذلك وغيره، يجب ألا يُعمي بصائرنا وأبصارنا عن الحقيقة المؤلمة المعلقة فوق رءوسنا، وهي أن سقوط الخلافة يُعَدُّ أروْمة لكل أعراض المرض المتمكن من الجسد الإسلامي. وقد كان العالم الإسلامي تحت الخلافة العثمانية رجلا مريضًا في آخر سنيها- يترَنَح، فأرادت الدول الكبرى له الموت، وتم كيدها سنة 1924م.

فكل هذه المشكلات المؤسفة، أولُ الطريق إلى حلها، هو في استعادة إرادتنا السياسية، وتحقيق الاستقلال الحقيقي عن نفوذ الدول الكبرى، والتخلص من سيطرة دعاة التغريب على مقدراتنا. وجميعُ ذلك لن يُؤتي أكله إلا بعودة الخلافة الإسلامية بوجه يُناسِب العصر. وهذا ما يعمل الغرب باستمرار لتعويقه، فكل المشكلات التي يغصُّ بها العالم الإسلامي اليوم ومنها فلسطين، لا يجب أن تستغرقنا لتنسينا الحقيقة الأساسية، وهي أن المسلمين على مسرح السياسة الدولية كالأيتام على مائدة اللئام: لا سياسة تجمعهم، ولا إرادة ترفعهم، ولا قيادة توحدهم.

والخلافة الإسلامية، هي الطريق لحلٍّ جذري لجميع مشكلات العالم الإسلامي، فعلينا ونحن نسعى لتلمُّس حلول لهذه المشكلات، أن نضعَ هذا الأمر نصْب أعيننا، حتى لا نذهب بعيدًا عن الأهداف الاستراتيجية، التي يتعلق بها وجودنا وفاعليتنا في العالم المعاصر.

ويجب ألا ننسى، أن الخلافة الإسلامية هي التي حافظت على فلسطين، وبسقوطها وُضِعت فلسطين على طريق الضياع. ومن المفيد هنا أن نورد ما كان بين الخليفة العثماني عبد الحميد وزعماء اليهود. فقد ذهب اليهودي "قره صو" إلى السلطان، يرجوه أن يوافق على بيع القدس لليهود قائلا: "إنني قادم مندوبًا عن الجمعية الماسونية، لرجاء جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية لخزانتكم الخاصة، ومئة مليون قرضًا لخزينة الدولة، على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين. وعندما سمع السلطان عبد الحميد هذا الكلام، وكان رجلَ دولة، يفهمُ ما وراءه- استشاط غضبًا، والتفَتَ إلى مُرافق "قره صو"- وهو عارف بك- وقال: "أفما كنتَ تعلم ما يريد هذا الخنزير؟ ثم نظر إلى "قره صو" وصاح في وجهه: اخرجْ من وجهي يا سافل".

وفِعْلا، خرج هذا اليهودي الدنيء، واتجه إلى إيطاليا، ليرسل إلى السلطان عبد الحميد هذه البرقية: "أنتَ رفضتَ عرْضنا، ولكن هذا الرفض سيكلفك أنت شخصيًا، ويكلف مملكتك الكثير".

وفي هذه الأثناء، قابل السلطان عبد الحميد زعيمٌ يهودي آخر، هو "هرتزل" برفقة الحاخام "موسى ليفي". وظل "هرتزل"- يرجو السلطان أن يبيع أراضي فلسطين بالثمن الذي يريد، فقال له السلطان: "إن هذه الأراضي قد امتلكها المسلمون بالدماء، وهي لا تباع إلا بنفس الثمن".

وجاء في مذكرات هرتزل نفسه: أن السلطان عبد الحميد رَدَّ عليه بما يلي: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطواتٍ جدية في هذا الموضوع، إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض، ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزقتْ إمبراطوريتي يومًا، فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أمَّا وأنا حي، فإن عمل المِبْضع في بدني، لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من إمبراطوريتي، وهذا لا يكون. إنني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".

وكان من رأي السلطان عبد الحميد، أنه إذا ما سمح لليهود بالتوطن في فلسطين، فإنهم سيستطيعون في وقت قليل جدًا أن يجمعوا في أيديهم وسائل القوة في المكان الذي يستقرون فيه. وفي هذه الحالة "نكون قد وقعنا قرارًا بالموت على إخواننا في الدين". ويقصد الفلسطينيين[1].

إن العالم الإسلامي كله معنيٌ بفلسطين، وإسرائيل معنية بالعالم الإسلامي، فأمن إسرائيل مُهدد من ثلاث دوائر كما يُبيِّن المجرم "إيريل شارون" (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق): حيث تتأثر مصالح وأمن إسرائيل بتطورات وأحداث، تتجاوز منطقة المواجهة المباشرة، التي ركزت عليها إسرائيل انتباهها في الماضي. وفيما وراء الدائرة الأولى التقليدية لدول المواجهة المحيطة بإسرائيل، ينبغي أن تتسع اهتمامات إسرائيل الاستراتيجية، لتشملَ مجالين جغرافيين آخرين لهما أهمية أمنية: الدائرة الثانية تتعلق بالدول العربية الواقعة وراء دول المواجهة، التي تضيف قدرتها العسكرية المتزايدة بُعْدًا أكثر خطورة إلى الخطر المباشر الماثل أمام إسرائيل، سواء بواسطة إرسال قوات مقاتلة إلى منطقة المجابهة، أو بواسطة عمليات جوية وبحرية مباشرة، تستطيع تنفيذها ضد خطوط المواصلات الجوية والبحرية لإسرائيل.

والمجال الجغرافي الثالث للمصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية، يشمل تلك الدول الخارجية، التي قد تؤثر مكانتها وتوجيهاتها السياسية الاستراتيجية بمقدار خطر على أمن إسرائيل القومي.

ويضيف شارون: "بكلمات أخرى ما وراء الدول العربية في الشرق الأوسط، وعلى سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر، ينبغي أن نوَّسع مجال الاهتمام الاستراتيجي والأمني لإسرائيل، بحيث يشمل في الثمانينات دولا مثل تركيا وإيران وباكستان، ومناطق الخليج الفارسي وأفريقيا، وبشكل خاص دول أفريقيا الشمالية والوسطى"[2].

ويَعرض أحمد ديدات (رحمه الله) فكرة جديرة بالدراسة- على طريق حلِّ القضية الفلسطينية- مضمونها مقابلة اللوبي اليهودي في أمريكا بلوبي إسلامي- أمريكي، وذلك بالعمل على هداية ستة ملايين أمريكي من أصل أفريقي، وتسليحهم بالعلم والمال؛ لمعاونتهم على "أسلمة أمريكا". ويذكر أن ما سَيُنفَق في هذا سيكون أقل من ثمن طائرة إنذار مبكر (أواكس)، أو طائرة مقاتلة، فضلا عن كونه عملا يُرضي الله ورسوله r. وكلُّ هذا بدون إراقة دماء[3].

الحل الإسلامي للقضية الفلسطينية كما نراه يمر عبر طريق واضح، ويبدأ هذا الطريق بدعوة اليهود إلى الإسلام، ]فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[ (آل عمران: 20). وليس هذا من باب الافتراض المجرَّد، أو الأماني الكاذبة، والخيالات الجامحة. بل هو أمرٌ إلهي، وتشريع رباني: أن ندعو كل إنسان إلى الإسلام، مهما كانت العداوة قائمة، وأن ندعو أعداءنا إلى الإسلام ثلاثة أيام قبل قتالهم، ]فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[ (البقرة: 137).

ويتوجب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال إذا كانت الدعوة لم تبلغ الأعداء، فلا قتال ولا قتل لمن لم تبلغه دعوة الإسلام. ولا يُبَرِر ترك هذه الدعوة يأسٌ من العدو أن يُسلم، فالدعوة حقٌّ له، قرَّره الشرع، ويجب علينا ألا نتجاوزه بتبريرات، مهما بلغ كفر الخصوم، وعتوهم وطغيانهم.

وإننا أكثر تسامحًا مما يظنون، وأكثر حرصًا على الحفاظ على حياة الإنسان التي هي هبة من الله تعالى. وليس القتال عندنا إلا لرد المظالم، والحفاظ على الحقوق، والدفاع عن الحرمات.

وأمام اليهود إذا لم يُسلموا أن يكونوا معاهَدين، كما كان أسلافهم يعيشون في ظل دار الإسلام رعايا آمنين، وكما احتضنهم تاريخ الإسلام بحقوق مواطنة كاملة، وأمَّنهم على معابدهم وأموالهم وممتلكاتهم، فلا يزال أمامهم هذه الفرصة ليعيشوا مطمئنين بلا خوف، بشرط أن يُفككوا سلطتهم الباغية في فلسطين، ولهم بعد ذلك، ليس فلسطين وحدها، ولكن العالم الإسلامي كله، لينعموا بالحياة فيه على العهد والذمة.

أمَّا العداء المعلن، ونقض العهود، والاعتداء المستمر على مقدسات المسلمين وبلادهم، فهذا عار يأمرنا ديننا ألا نرضاه، وأن نقاتل مَن يرضاه.

وبَعْد عرض الإسلام، وعرْض العهْد على عدونا، لا يَبْقى بعد رفضهم إلا عَرْض السيف، لأنهم الذين اختاروه، ويُمكن للعالم الإسلامي حشد جيش يبلغ تعداده ملايين لتحرير فلسطين، ومِن ورائهم مَدَدٌ آخر من الرجال والاتساع الاستراتيجي الهائل.

ونحن لا ندَّعي أن حربًا بيننا وبين اليهود ستكون نزهة قصيرة، ولكن يمكن أن يكون فيها جروح وكبوات، وآلام وتضحيات، وخسائر بالغة. ولذلك لا ندعو إلى شن حربٍ في التوِّ، وإنما نريد توافر روح الفداء أولا، وإرادة القتال، والاستعداد للجهاد، حتى نكون مؤهَلين لحرب طويلة، على أسس علمية قويمة، تخضع لسياسة مستقلة، وعلم عسكري، وتقنية حربية، وتخطيط سليم، وتنظيم للإمكانات والمهارات التي تمتلكها الأمة.

إن في الأمة اليوم ملايين الأرواح الظامئة إلى الجهاد، والشهادة في سبيل الله؛ تحريرًا لفلسطين، وغيرها من أراضي الإسلام المحتلة. وهناك ملايين الصالحين والأتقياء، المتطلعين لبذل الغالي والنفيس؛ لإرواء المقدسات الإسلامية؛ وتخليصها من دنس اليهود وغيرهم من المعتدين.

وهناك وسائل كثيرة إذا فكرنا- لتحرير الأرض، وهناك طرُق متعددة معروفة لشلِّ فعاليات العدو، يَعْرفها العسكريون، وتبتدعها الشعوب المجاهدة، ويَدريها أهل الاختصاص، الذين قضوا حياتهم في دراستها وتدبرها وتطويرها. وحتى الأسلحة النووية والكيماوية وما إليها، يمكن اتباع أساليب قتالية تُحيَّد فيها هذه الأسلحة. وليست الحرب دائمًا التحامَ جيوش ضخمة، وقيام حروب ظاهرة مكشوفة، بل أساليب القتال والنكاية في العدو أكثر من أن يُحدها حصْر، ولو أخلصنا في النكاية في العدو، لأورثناه الجنون والارتياع، ولترَك الأرض، وولى من حيث أتى، فهو لا صبْر له على المواجهة كصبر المؤمنين، ولا رغبة له إلا في الحياة الدنيا الرخيصة: ]وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[ (البقرة: 96). ولو أحسَّ باليأس لاستسلم، أو لفرَّ وترك كل شيء خلفه.

إن للحرب أشكالا عديدة غير محصورة، يمكن أن تنهك العدو، وتفجِّر الأرض تحت قدميه، وتشعِل السماء فوق رأسه. ومن هذه الأشكال ما كان يقوم به حزب الله في جنوب لبنان من جهاد يومي، خارج عن النطاق الرسمي للدولة اللبنانية، ومنها ما تقوم به حركة حماس ومنظمة الجهاد الإسلامي من عمليات استشهادية ضد جنود الاحتلال، ومنها ما كان يقوم به الفدائيون الفلسطينيون من اختراق لأعماق العدو، ومباغتته بضربات موجعة، ومنها ما كان بيننا وبين هذا العدو من حرب استنزاف طويلة ومتصلة... إلخ.

والانتفاضة الفلسطينية صورة حيَّة من صور الجهاد الشعبي، فجَّرها الشعب بجميع فئاته، فأقضتْ مضاجع الاحتلال الإسرائيلي، وحرَّكت الوضع الفلسطيني الذي أصيب بالخمول لسنوات، وأحيَتْ القضية التي كانت على وشك الموت، وجذبت الاهتمام العالمي إلى أبعاد إنسانية كانت مفقودة في التعامل مع الشعب الفلسطيني وقضيته المأساوية. والعالم عادة يحترم الأقوياء، الذين يُضحون في سبيل حقوقهم.

وقد كلفت فترة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان ألف قتيل من الجيش الإسرائيلي، ومئتي مليار دولار، ستظل تؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي ردحًا من الزمن.

وقد كلفت الانتفاضة الاقتصاد الإسرائيلي مليارات الدولارات، ودفعت العدو إلى مراجعةٍ استراتيجية بشأن الفلسطينيين، ودعم هذا الاتجاه، أن المحرك الأساسي للانتفاضة كان هو الحركة الإسلامية المتألقة، التي أنشأت تنظيماتها وهياكلها ومؤسساتها الشعبية، وهي التي عبَّأت الجماهير في مواجهة يومية لقوات الاحتلال.

إن رجال التخطيط والاستراتيجية العسكرية، لديهم من الوسائل والأساليب المتجددة، ما يمكن أن يُدوِّخ الخصم، ويفقده توازنه. وعندنا منهم أصحاب مهارة وكفاية نادرة بما يكفي.

هذا هو الطريق لتحرير فلسطين، وإلا فإن التاريخ سيحكم علينا حُكْمًا قاسيًا بأننا كنا أذلاء جُبناء، لا ضعفاء، ولا فقراء- كما ندَّعي. فالتاريخ لا يُحابي، والأجيال القادمة لا يمكن الكذب عليها.

              

[1] انظر مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة محمد حرب، دار الأنصار، القاهرة، 1978، ص10-11، 65.

[2] صحيفة معاريف 28/12/1981- عن الأمن القومي العربي: عبد الله بلقزيز، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، ص60.

[3] أحمد ديدات: العرب وإسرائيل- صراع أم صلح؟ ترجمة: محمد مختار، مكتبة النور، القاهرة، 1411هـ /1991، ص88 وما بعدها.