ثلاثيّة سلمان ناطور
موسى أبو دويح
كتب سلمان ناطور ثلاثيته، وأخرجها مجموعة في كتاب واحد سنة 2009، وأسماها:
ستون عاما
رحلة الصحراء
ذاكرة.. سفر على سفر.. انتظار
أما ذاكرة فصدر لأول مرة في بيت لحم سنة 2006 عن مركز"بديل" وأما سفر على سفر فصدر لأول مرة عن مؤسسة ثامر/ رام الله سنة2008. وأما انتظار فصدر لأول مرة مع سابقيه عن دار الشروق سنة 2009.
والستون عاما هي ما مضى من عمر الكاتب حتى خروج الثلاثية هذا العام 2009.
أم رحلة الصحراء فقد وفق الكاتب في اختيار العنوان أيما توفيق. فالارتحال في الصحراء فحفوف بالمخاطر، وغالبا ما يلقى مرتحل الصحراء حتفه فيها: ضياعا أو عطشا أو جوعا أو افتراسا. وسماها العرب مفازة لعل داخلها يفوز بالنجاة، كما سموا لديغ الأفعى بالسليم عله يسلم من موت مؤكد.
جاء في لسان العرب:" وأصل المفازة مهلكة، فتفاءلوا بالسلامة والفوز. والمفازة أيضا: واحدة المفاوز، وسميت بذلك لأنها مهلكة من فوّزأي هلك وقيل سمّيت تفاؤلا من الفوز بالنجاة".
أما العيش في فلسطين وعلى الأخص منذ سنة 1948 وإلى الآن، فأي مفازة أو صحراء أو بيداء أشد هلاكا وقتلا وأكثر سجنا واعتقالا وأمرّ طردا وتشريدا وأسوأ قهرا وعذابا مما جرى ويجري في فلسطبن على أيدي يهود. ففلسطين من هذه الزاوية صحراء بلقع.
وذاكرة الكاتب -التي اتخذ الشيخ المشقق الوجه راوية لها- شاهدة على كل هذا، وفصلته تفصيلا دقيقا، حيث لم يترك مدينة ولا قرية ولا خربة ولا جبلا ولا واديا ولا سهلا ولا وعرا ولا بئرا ولا عينا ولا مرجا ولا تلا، ولا طفلا ولا شيخا ولا صبية ولا عجوزا ولا حاملا ولا مرضعا ولا مختارا ولا ختيارا، إلا وأثبته في ذاكرته، فهي سجل حافل ومرجع قيم ومصدر جيد لأحداث فلسطين خلال هذه الفترة(1948-2009) بل وما قبلها منذ بداية الهجرة اليهودية المشؤومة إلى هذه الأرض الطيّبة المباركة. اسمعه يتحدث عن أسماء الأماكن في الرحلة في صفحة 126:" هنا كانت سكنة الوهّاب. نقطة. هل نبدأ سطر جديد، هل نفتح صفحة جديدة؟ سكنة زبانة، فانوس، حارة النصاره، حارة الجمال، حوش المصري، المارستان، الكافوري، الحنة، الزحاقية، حارة السوق، سكنة المحص، سجل يا عمي، إللي ساكنين خلف الحدود بيعرفوها سبر بشبر وبيت بيت، طمنهم إنّا احنا هون، ما نسينا حارات الوطن، وراح نسجله للعايش واللي راح ييجي من بعدنا".
حتى إن الكاتب لم يغفل أسماء الضباط الإنجليز الذين مكنوا يهود من تحقيق ما يريدون بأساليب ملتوية. فقد قال الكاتب قي صفحة 141:" الضباط الكبار يفرغوا بواخر أسلحة لليهود، وعلشان يضحكوا علينا يبعثوا أكم جندي مع أكم قطعة سلاح يعطوها للزعما حتى يصدقوا انها بريطانيا بتساعدهم. كله كان ضحك على الدقون".
وكذلك لم يغفل أسماء خواجات يهود الذين كان لهم دور بارز في تحقيق الحلم اليهودي بإقامة دولة ليهود في فلسطين.
ويكشف الكاتب في ذاكرته خيانة الدول العربية وتآمرها وتسليمها فلسطين ليهود بردا وسلاما ، مع أنهم يظهرون لأهل فلسطين أنهم جاؤوا لانقاذ فلسطين، حتى إنهم سمّوا "جيش الانقاذ". استمع إلى الكاتب يقول في صفحة 73-74:"وصل القاوقجي ومعه أربعة ضباط بنجمتين أو ثلاث نجمات، وتطلع في الناظور وأمعن النظر وقال: تحرير البلد لا يكلفني سوى شهيدين ولا أكثر.. خلال ثلاثة أيام تصل المدافع والمصفحات ونحررها – والحديث عن البروة – ومنها نحرر المكر والجديدة وعكا. والله ما صدقنا هالحكي.. كنا نعرف قوة جيش الانقاذ.. لا هم انقاذ ولا هم جيش منظم.. هالحكي إللي بيحكوا اليوم عن سبع جيوش عربية كله دعاية بدعاية، لا سبع جيوش ولا سبع فرق. صوروا الحرب كأنها طوشة عمومية أو بين عائلتين. كنا نعرف هالحقيقة المرة. اجتمعنا وقررنا نحرر بلدنا بأنفسنا. وخصوصا بعدما انتظرنا 3 أيام وأربعة وخمسة واسبوع.. وما وصلت مجنزرات ولا مصفحات بعدما يئسنا تجمعنا ورحنا طريق الوعر وهجمنا على القرية بقيادة شاب من شعب اسمه ابو اسعاف، واجهنا مقاومة عنيفة لكن ارادتنا كانت قوية.. وتمكنا نحرر بلدنا.. سقط منا شهيد و3 جرحى. كان يوم عرس في حياتنا. وكان درس تعلمناه.. هالأرض ما بحررها إلا أصحابها.. لا ملوك ولا خواجات.. ولا الشعارات الرنانة".
ويكشف الكاتب خيانة جيش الملك عبدالله بقوله صفحة 128: "في نفس الليلة جنود عبدالله بدأوا ينسحبوا. شفناهم خارجين من بين البيوت، جيش اسرائيل فتح لهم الطريق من جهة الشرق ليطلعوا على الضفة.. تركوا البلد وهم يضحكوا على الناس ويقولوا: النجدة جاي، النجدة جاي. الصبح مع طلوع الفجر دخل الجيش الاسرائيلي.. كنا منهكين من الجوع والعطش.. دخلوا يقوسوا في الشوارع".
ويبين لنا الكاتب جرائم يهود فيقول في صفحة 121: "شوي ولا جندي حمل رشاش ووقف على باب الجامع وصار يرش في الناس.. طيخ.. طاخ.. طيخ.. طاخ.. شفتها في عيني.. قتلوا 65 واحد.. غير الناس اللي انجرحوا.. جثثهم غطت أرض الجامع.. تركوهم سبع أيام في الجامع.. حتى الناس تشوف وترتعب".
وتظهر دعوة الكاتب إلى التمسك بالأرض والوطن قوية صريحة مدوية في قوله في صفحة 76: "لن نرحل من وطنا..
راح نبقى في وطنا لو منموت
واذا بقينا بوطنا مش راح نموت
كل واحد بيرحل ما بيرجع للبلد إلا سائح.."
ويقول في صفحة 77: "استعدينا للرجوع لبلدنا قلنا: اذا كان هون موت وهناك موت.. لأ، نموت على ترابك يا بلدنا.. راح ييجي يوم وأولادنا.. وأولاد أولادنا يرجعوا للأرض ويعمروا بيوت البلد ويزرعوا، ويذكروا دم أجدادهم.. أحسن ما نموت في الغربة، على أرض مش إلنا، وعلى تراب ما عمره حملنا، وما عمرنا زرعناه".
أما لغة ذاكرة سلمان ناطور فجاءت باللغة المحكية، لغة أهل فلسطين، ويشفع له أنه جعل راويها شيخا عجوزا طاعنا في السن ومثل هذا لا يناسبه إلا اللغة العامية، فلو جاءت لغة الذاكرة بالفصيحة لجاءت نشازا. وان كان ذلك مقبولا ومفهوما عند أهل فلسطين، إلا أنه ليس كذلك في بقية الأقطار العربية.