مقدمة تهذيب تفسير الجلالين
مقدمة تهذيب تفسير الجلالين
د. محمد بن لطفي الصباغ
"صدر هذا الكتاب/التفسير، بحلته الجديدة عن المكتب الإسلامي في بيروت، ونقدم -فيما يلي- مقدمة الكتاب التي كتبها الداعية العالم الدكتور الصباغ، فهذب هذا التفسير".
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد،
فإني قد صحبت "تفسير الجلالين" وقتاً طويلاً، أقرأ فيه وأرجع إليه، كلما أردت الوقوف على معنى آية، وكنت أرجع إلى الحاشيتين المؤلفتين عليه وهما حاشية الجمل وحاشية الصاوي.
وكلما رجعت إليه زاد حبي له وإعجابي به، لما أرى من دقة عباراته، وجمعه لكثير من الفوائد والأحكام التي يحتاج إليها طالب العلم، مع اختصار موفق، وقد نفعني الله به كثيراً كما نفع غيري من الناس الذين تعودوا أن يرجعوا إليه ويقرؤوا فيه، ولعل إخلاص مؤلفيه الإمامين –رحمهما الله- كان من الأسباب التي مكنت له من الذيوع والانتشار، فما أعلم تفسيراً أكثر منه انتشاراً وذيوعاً، وقد انتفع به كثير من الناس.
وكنت أعجب من الذين يهاجمونه أشد العجب، لا سيما إن كانوا من طلاب العلم، وأحسب أنهم كانوا متسرعين في الحكم عليه، وأنهم كانوا يحكمون عليه من خلال عيب فيه؛ فإن هذا الكتاب الجليل القدر لا يخلو من بعض العيوب.
وكل حكم على كتاب أو إنسان من خلال عيب فيه مع إغفال الجوانب الطيبة فيه حكم باطل، لأنه لا يخلو كتاب ولا إنسان من عيب، ورحم الله من قال: (أبى الله أن يصح إلا كتابه).
* ويحسن بنا ونحن نذكر فضل هذا الكتاب أن نشير إلى العيوب التي أخذت عليه، ولكن لا يجوز لنا أن نغمض أعيننا عن مزاياه الكثيرة إذا ذكرنا بعض العيوب.
وأهم المآخذ على هذا الكتاب هي:
1 - التأويل في آيات الصفات؛ فنحن نرى أن الموقف الصحيح من آيات الصفات هو موقف السلف الصالح، ولا نرى أن تؤول، ذلك أن التأويل يعتمد على تخريج هذه الآيات على المجاز، وليس من سبيل إلى قبول ذلك، لأن علماء البلاغة يقولون في تعريف المجاز: إنه استعمال كلمة في غير معناها الأصلي، لعلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
وليست هناك في آيات الصفات قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي؛ لأنه سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء، فكيف يستطيع المؤول أن يقول: إن المعنى الأصلي للكلمة في الآية غير المراد؟
والكلام حول هذه القضية طويل، ولا يتسع المجال هنا للتفصيل.
2- إيراد بعض الإسرائيليات الباطلة، وقد فصلت القول في وجود الإسرائيليات في كتب التفسير عامة في كتابي "لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير".
والإسرائيليات –كما نعلم-: هي الأخبار المروية عند بني إسرائيل عن طريق بعض التابعين الذين كانوا من علماء أهل الكتاب قبل أن يدخلوا في الإسلام.
وهذه الإسرائيليات أنواع:
1- إسرائيليات توافق القرآن، فهذه نحكم بصحتها، ولكن لنا غنية عنها بما جاء في القرآن ولا حاجة بنا إليها، ولا ينبغي أن تدخل في كتب التفسير.
2- إسرائيليات تعارض القرآن أو صحيح السنة، أو تعارض أصلاً إسلامياً مقرراً، فهذه ترد ونجزم بكذبها قال الأستاذ محمد أبو زهرة:
(وإن المستقرئ لكتب التفسير المشتملة على الإسرائيليات يرى أن أكثر ما دس فيها من هذا القبيل)(1).
3- إسرائيليات تعارض العقل، فهذه نردها ولا ينبغي أن تدخل كتب التفسير، قال الإمام ابن كثير:
(وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبة فليس من هذا القبيل)(2).
4- إسرائيليات لا تعارض القرآن ولا صحيح السنة ولا أصلاً من الأصول الإسلامية ولا توافق هذه الأمور فهذه لا نصدقها ولا نكذبها امتثالاً لما جاء عن رسول الله في قوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" رواه البخاري(3).
وهذا النوع لنا أن نحدث به -مع الاحتراس والتحفظ-؛لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" رواه البخاري(4).
ولكن التحديث بها شيء وإدخالها في تفسير كلام الله شيء آخر، فنهيه صلى الله عليه وسلم أن نصدقهم لا يجيز لنا أن ندخلها في تفسير كلام الله تعالى، لأن إيرادها في التفسير تصديق لها.
فإدخالها في التفسير مخالف لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم.
3- التوسع في استعمال مصطلحات نحوية لا يفهمها إلا المختصون وسنذكر ملافاتنا لهذا المأخذ في مكانه.
4- الإيجاز الشديد في التفسير أحياناً إلى حد الغموض، أو السكوت مطلقاً أحياناً أخرى إزاء آيات تحتاج إلى تفسير.
5- اختيار قول مرجوح في التفسير.
6- صعوبة الوقوف على تفسير الآية أحياناً، لأن مؤلفيه يردان القارئ إلى البحث عن تفسير الآية فيما سبق ولا يحددان له المواضع المطلوبة، وربما لا يهتدي إلى معرفتها إلا الحافظون من طلبة العلم.
7- بناء هذا التفسير على قراءة غير قراءة حفص الشائعة في بلادنا اليوم وهذا المأخذ ليس عيباً من العيوب، ولكنه يبقى مأخذاً في نظري؛ لأن الكتاب منشور في بلاد تسود فيها قراءة حفص، فمن الطبيعي أن يكون التفسير المقدم لأبناء هذه البلاد مبنياً على قراءة حفص، فقد يظن بعض من لا علم له بهذه الخاصة أن المفسر –أو الطابع- أخطأ في إيراد الآية، والحقيقة أنه لم يخطئ ولكنه أورد الآية على قراءة أخرى.
هذا وإيراد القراءات المتعددة في تفسير موجز لا يفيد العامة من القراء وغير المختصين بل يشوش القارئ العادي، ولهذا الفن العظيم كتبه ومجاله.
* * *
هذا وقد كنت أرى الحاجة ماسة إلى وجود تفسير موجز يبقي على محاسن "تفسير الجلالين" ويخلو من المآخذ التي ذكرناها آنفاً، ليكون بين أيدي القراء.
وكنت أتهيب الإقدام على هذا العمل؛ لأن القول في تفسير كتاب الله أمر عظيم وقد تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سئل عن تفسير قوله تعالى: (وفكهة وأبّاً) (عبس) قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم، وقد نقل مثل هذا عن عمر رضي الله عنه في تفسير هذه الآية(5)..
وكنت أرى بعض الجهلة يخوضون في تفسير آيات القرآن دون علم ولا بيان ولا معرفة بعلوم الشريعة وعلوم العربية.
فمن ذلك أن مهندساً لا علم له بالعلوم الإسلامية نشر مقالاً يخطئ فيه المفسرين الأجلاء.. ويأتي بهذيان يزعم أنه تفسير!!
وقد حضني كثير من الأصدقاء من أهل العلم على القيام بهذا الأمر فتوكلت على الله.. ومضيت فيه بعد أن شرح الله صدري لذلك.
وقد اخترت "تفسير الجلالين" وجعلته أصلاً لي دون أن أتقيد بكل ما ذكر، وعمدت إلى تلك المآخذ وجردته منها، فكان عملي تهذيباً للتفسير المذكور وهو من تأليفي؛ فلا أحمل "الجلالين" مسؤولية اختياراتي وتفسيراتي، ودعوته بـ"تهذيب تفسير الجلالين".
وتهذيب كتاب من الكتب التي ألفها العلماء المتقدمون أمر معروف مألوف وموجود في كتبنا العلمية الرصينة؛ فهناك كتب اتخذها بعض المؤلفين عمدة وهذبوها، وقد يدعونها بـ "التهذيب".
من ذلك:
"تهذيب الكمال في أسماء الرجال" لحافظ الدنيا جمال الدين يوسف المزي المتوفى 742هـ.
و"الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى 600هـ.
و"تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ.
و"تهذيب ابن عساكر" للشيخ عبد القادر بدران المتوفى 1347هـ (1927م).
وقد لا يسمونها بهذا الاسم وهي في حقيقتها تهذيب كما فعل السيوطي المتوفى 911هـ في كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي في كتابه "اللآلئ المصنوعة".
* * *
وكتب التفسير الموجزة كثيرة، ويبدو أنها ظهرت في وقت مبكر جداً في تاريخنا العلمي، ففي القرن الأول الهجري كانت كتب تفسير يدل على ذلك ما جاء في كتاب "الجرح والتعديل"(6) لابن أبي حاتم و"تهذيب التهذيب"(7) لابن حجر: أن الخليفة العالم عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86هـ طلب من سعيد بن جبير المتوفى 95هـ أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير فوجده عطاء بن دينار المتوفى سنة 126هـ في الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير.
وبناءً على هذا الخبر فإننا نستطيع أن نقرر أن كتاباً في تفسير القرآن كان موجوداً قبل سنة 86هـ، والله سبحانه أعلم.
ولم يصل إلينا هذا التفسير بل الذي وصل خبره الذي أوردناه آنفاً.
وأحسب أن كتب (غريب القرآن)(8) التي تشرح الكلمات الغريبة في القرآن من أوائل كتب التفسير الموجودة.
ومن هذه الكتب "كتاب غريب القرآن" لمحمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 182هـ وممن ألف في هذا الفن أبو فَيْد مؤرِّج بن عمرو السدوسي البصري المتوفى سنة 174هـ، وعلي بن حمزة الكسائي المتوفى سنة 189هـ، ويحيى بن المبارك اليزيدي المتوفى سنة 202هـ، والنضر بن شُميل المتوفى سنة 203هـ، ويحيى بن زياد الفراء المتوفى سنة 207هـ، وأبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى المتوفى سنة 210هـ، والأخفش سعيد بن مسعدة المتوفى سنة 216هـ، وأبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 223هـ، ومحمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 231هـ، وابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ، وقد وصل إلينا كتابه وطبع سنة 1378هـ بتحقيق السيد أحمد صقر.
وهذا هو الأمر الطبيعي، لأن السليقة العربية كانت ما تزال موجودة، وعندما وجد جيل التابعين ومن بعدهم بعض الكلمات الغريبة عليهم قامت الحاجة إلى تأليف كتب تفسر هذه الكلمات؛ لأن تدبر هذا الكتاب المبين لا يمكن أن يتم إلا بفهم معنى كل مفردة من مفرداته.
ثم قامت حاجة لفهم بعض الجمل والآيات فكانت كتب معاني القرآن، وكتب تأويل مشكل القرآن. ويمكن أن نعد كتب غريب القرآن، وكتب معاني القرآن، وكتب تأويل مشكله من كتب التفسير الموجزة.
ومن أجلِّ كتب التفسير الموجزة "تفسير الجلالين"، وهو مع صغر حجمه من أفضل كتب التفسير فقد كتب بإيجاز محكم، وعبارته عبارة علميه مركزة، جمعت لباب ما في كتب التفسير، وكثيراً ما وازنت بين المعاني التي يوردها في تفسير الآية وبين ما في التفاسير المطولة في شرحها، فلم أجد في كثير من المواضع معنى من المعاني التي أوردوها قد فاته.
إن هذا التفسير يفيد العامة من الناس في التدبر والفهم ويفيد طلبة العلم أيضاً.
ولذا كنت أوصي الإخوة الذين ألزموا أنفسهم بتخصيص وقت كل يوم يقرؤون فيه جزءاً من كتاب الله ويريدون أن يتدبروا ما يقرؤون، كنت أوصيهم بالرجوع إليه في أثناء القراءة، ولا يؤجلوا الرجوع إلى وقت آخر، لأنهم قد تعرض لهم مشاغل، فتفوت عليهم فائدة التدبر.
إن القرآن الكريم نزل إلينا لنتدبره ونعمل به، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم) (النحل:44).
وتدبر القرآن أمر مطلوب فعله من القادر عليه، وإن فهمه وتدبره هو الخطوة الأولى لفعل المأمور به، واجتناب المحظور، ومن هنا كان الأمر بالتدبر في عدد من الآيات الكريمة من نحو قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها)(محمد).
وقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (النساء).
وقوله تعالى: (كتابٌ أنزلنه إليك مباركٌ ليدَّبروا آياته وليتذكّر أولو الألباب)(ص).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته "في أصول التفسير" أن السلف الصالح كانوا يتدبرون القرآن مستعينين بتبيين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بَيَّنَ لفظه ومعناه لهم، وأنهم كانوا يعملون به، وأورد تلك الآثار المشهورة من أن الصحابة من أمثال عثمان رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات يتوقفون فلا يجاوزونها إلى غيرها حتى يعملوا بها فتعلموا القرآن علماً وعملاً جميعاً، فقد ذكروا أن ابن عمر رضي الله عنهما بقي ثماني سنين في حفظ سورة البقرة(9).
وقراءة القرآن في مصحف فيه تفسير موجز تتيح للقارئ إذا أعمل فكره أن يتأمل فيه ويتدبر معانيه، وتذلل له العقبات التي تحول بينه وبين الفهم كوجود بعض الكلمات التي لا يعرف معناها، أو الجمل التي يحتاج فهمها إلى بيان.
أما التفاسير الموسعة فقد تغمر القارئ في جو بعيد عن جو الآية المباشرة، وتنقله إلى موضوعات فقهية، أو نحوية، أو كلامية، أو ما إلى ذلك من المجالات التي خدم العلماء المختلفون تخصصاتهم بالاستعانة بالقرآن، وكان التفسير إطاراً يصبون فيه المعلومات المتصلة بتخصصهم.
إن في كتاب الله وما تضمن من حلول وأفكار طريق الخلاص مما يتخبط فيه البشر اليوم، وإن الحضارة المادية الضخمة التي تسود الدنيا قد استنفدت أغراضها، وهي توشك أن تسقط، وإن الأمل الوحيد الذي يتراءى في الأفق هو في الإسلام وكتابه العظيم: القرآن.
والتلاوة المجانبة للتدبر لا تحقق لصاحبها فهماً ولا وعياً، وإن كانت لا تخلو من ثواب، لكن طلبة العلم والمثقفين والدعاة الذين تتجسد فيهم آمال الإنسانية اليوم مطالبون أن يتعاملوا مع القرآن ويتدبروه نفسه بعيداً عن المجالات التخصصية في العلوم المختلفة.
و"تفسير الجلالين" –لا سيما إن خلص من تلك العيوب التي أشرنا إليها- هذا التفسير يتيح لمن يريد أن يتدبر مجالاً واسعاً، وبذلك يكون النفع من التلاوة أكمل.
أثنى على هذا التفسير عدد كبير من العلماء، وكانوا يرجعون إليه حتى في مستوى الدراسات العليا، وقد لقي من الاهتمام حظاً عظيماً حتى إن بعضهم عد حروفه وعد حروف القرآن فوجدهما متساويين تقريباً(10).
قال حاجي خليفة: (وهو مع كونه صغير الحجم لكنه كبير المعنى؛ لأنه لب لباب التفاسير) وذكر عدداً من الكتب التي ألفت حول هذا التفسير فذكر حاشية شمس الدين محمد بن العلقمي وسماها "قبس النيرين" فرغ من تأليفها 952، و"حاشية نور الدين علي بن سلطان بن محمد القاري" المتوفى سنة 1014هـ، و"شرح الجلالين" لمحمد بن محمد الكرخي وهو كبير في مجلدات سماه "مجمع البحرين ومطلع البدرين" وله حاشية صغرى.
ولا شك أن من أشهر الكتب المؤلفة حوله كتاب العلامة سليمان بن عمر المعروف بالجمل الشافعي المصري المتوفى سنة 1204هـ وعنوانه: "الفتوحات الإلهية، بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية".
وحاشيته فيها فوائد كثيرة وهي تلخيص جيد لما في كتب التفسير الأخرى، ولا سيما "تفسير الخازن" و"الكشاف" و"أبي السعود" و"البيضاوي" وغيرها، ومؤلفها يتصف بالأمانة، فهو يذكر المصدر الذي ينقل منه إن كان كتاباً، ويعزو إلى شيخه إن كان قد سمعه منه.
وكتاب العلامة أحمد بن محمد الصاوي المصري المالكي المتوفى سنة 1241هـ، وكتابه مستفاد من كتاب الجمل مع بعض زيادات كما قال الصاوي في مقدمة كتابه. قال:
(ووضعت عليه –أي على "تفسير الجلالين"- كتابة ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل مع زوائد وفوائد فتح بها مولانا من نور كتابه، وإنما اقتصرت على تلخيص تلك الحاشية لكوني وجدتها ملخصة من جميع كتب التفسير التي بأيدينا تنسب لنحو عشرين كتاباً...).
وهذا التفسير ألفه إمامان جليلان، كل منهما يلقب بـ جلال الدين، أسبقهما زمناً هو جلال الدين المحلي، والمتأخر هو جلال الدين السيوطي.
وقد فسر كل منهما نصف القرآن..
والمنهج الذي التزمه كل منهما قريب من منهج صاحبه، فقد قال السيوطي في مقدمته: (هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم الذي ألفه.. المحلي.. وتتميم ما فاته.. بتتمة على نمطه..).
وذكر هذا النمط وهو:
* ذكر ما يفهم به كلام الله تعالى والاعتماد على أرجح الأقوال.
* وإعراب ما يحتاج إليه.
* وتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة على وجه لطيف وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية.
وبعد؛ فإني أورد ترجمة موجزة لكل منهما:
1- الإمام الجلال المحلي:
هو الإمام العلامة الأصولي المفسر الفقيه أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي.
ولد سنة إحدى وتسعين وسبعمائة للهجرة (791)، وقد عرفه ابن العماد بـ: تفتازاني العرب(11)، وكان يقول عن نفسه: (إن ذهني لا يقبل الخطأ).
وذكروا أنه لم يكن يقدر على الحفظ، وإنما كان يتمتع بذهن جوال، وعقلية دقيقة، قال السيوطي: (كان بعض أهل عصره يقول فيه: إن ذهنه يثقب الماس)(12).
وكان عظيم الحدة، لا يراعي أحداً في القول، وكان مهيباً صداعاً بالحق، يواجه بذلك الظلمة والحكام، وعرض عليه القضاء الأكبر فامتنع.
وكان متقشفاً في ملبوسه ومركوبه، وكان يتكسب بالتجارة.
والمحلي نسبة للمحلة الكبرى من محافظة الغربية في مصر.
له كتب كثيرة، بعضها مطبوع، ومعظمها مخطوط، ويبدو أن من أبرز صفات الجلال المحلي قدرته التعليمية، والتفسير الذي نقدم له مثال على ذلك، وله "شرح متن الورقات في علم أصول الفقه"(13)، و"الورقات" لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ.
ولن نستطيع التوسع في ذكر تفاصيل حياته في هذه المقدمة.
قال السيوطي: (وأجل كتبه التي لم تكمل "تفسير القرآن" كتب منه من أول الكهف إلى آخر القرآن في أربعة عشر كراساً، وهو ممزوج محرر في غاية الحسن، وكتب على الفاتحة وآيات يسيرة من سورة البقرة، وقد أكملته بتكملة على نمطه من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء)(14).
ومن الجدير بالذكر أن الإمام المحلي رحمه الله لم يكتب مقدمة لتفسيره هذا.
توفي الجلال المحلي في أول يوم من سنة أربع وستين وثمانمائة للهجرة (864) في القاهرة رحمه الله(15).
* * *
2- الإمام السيوطي:
ويحسن بنا أن نورد مقدمة الإمام السيوطي للقسم الذي فسره والخاتمة التي ختم بها تفسيره قبل أن نذكر ترجمته.
الهوامش
(1) "المعجزة الكبرى": 595.
(2) "تفسير ابن كثير 4/221 والحديث المذكور رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما برقم 3461 والترمذي برقم 2669، ورواه أبو داود برقم 3662 عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
(3) رواه البخاري برقم 4485.
(4) مضى تخريجه في الصفحة السابقة.
(5) انظر "تفسير ابن كثير 1/5 و"الباعث على الخلاص من حوادث القصاص" للحافظ العراقي بتحقيقنا ص95، طبع دار الوراق الرياض 1422هـ، و"البرهان" للزركشي 2/162، و"الإتقان" للسيوطي 1/113، و"لمحات في علوم القرآن" لمحمد بن لطفي الصباغ ص220، طبع المكتب الإسلامي.
(6) "الجرح والتعديل" 6/332.
(7) "تهذيب التهذيب" 7/198 -199.
(8) انظر كتابنا: "لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير" 219 -228، طبع المكتب الإسلامي و"الفهرست" لابن النديم 58، و"الإتقان" للسيوطي وغيرها.
(9) "رسالة ابن تيمية في أصول التفسير" 35-36.
(10) "كشف الظنون" لحاجي خليفة 1/445.
(11) التفتازاني هو الإمام مسعود بن عمر التفتازاني سعد الدين، كان من أئمة العربية والبيان والمنطق.. كانت في لسانه لكنة، له كتب كثيرة، توفي سنة 793هـ.
(12) "حسن المحاضرة" 1/188.
(13) انظر: "كشف الظنون" 2/2005، و"معجم المطبوعات" 1/468، 2/1624.
(14) "حسن المحاضرة" 1/188 -189.
(15) انظر في ترجمته: "الضوء اللامع" للسخاوي 7/39، و"حسن المحاضرة" للسيوطي 1/188 -189، و"شذرات الذهب" لابن العماد 7/303.
مقدمة السيوطي للنصف الأول(1)
قال الإمام السيوطي:
(الحمد لله حمداً موافياً لنعمه، مكافئاً لمزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وجنوده.
هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام العلامة المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي رحمه الله، وتتميم ما فاته، وهو من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء، بتتمةٍ على نمطه من ذكر ما يفهم به كلام الله، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، وتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية، والله أسأل النفع به في الدنيا، وأحسن الجزاء عليه في العقبى بمنه وكرمه).
الخاتمة التي ذكرها السيوطي في آخر تفسير سورة الإٍسراء
قال الإمام السيوطي:
قال مؤلفه: هذا آخر ما كملت به تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق جلال الدين المحلي الشافعي رضي الله عنه.
وقد أفرغت فيه جهدي، وبذلت فكري فيه، في نفائس أراها إن شاء الله تعالى تجدي، وألفته في مدة قدر ميعاد الكليم، وجعلته وسيلة للفوز بجنات النعيم، وهو في الحقيقة مستفاد من الكتاب المكمل، وعليه في الآي المتشابهة الاعتماد المعول.
فرحم الله امرءاً نظر بعين الإنصاف إليه، ووقف على خطأ فأطلعني عليه، وقد قلت:
حمدت الله ربي إذ هداني=لما أبديت مع عجزي وضعفي
فمن لي بالخطا فأرد عنه=ومن لي بالقبول ولو بحرف
هذا ولم يكن قطُّ في خلدي أن أتعرض لذلك، لعلمي بالعجز عن الخوض في هذه المسالك، وعسى الله أن ينفع به نفعاً جمّاً، ويفتح به قلوباً غُلْفاً، وأعيناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً.
وكأني بمن اعتاد المطولات، وقد أضرب عن هذه التكملة وأصلها حسماً، وعدل إلى صريح العناد ولم يوجه إلى دقائقهما فهماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، رزقنا الله به هداية إلى سبيل الحق وتوفيقاً، واطلاعاً على دقائق كلماته وتحقيقاً، وجعلنا به مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء، والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وفرغ من تأليفه يوم الأحد عاشر شوال سنة سبعين وثمانمائة، وكان الابتداء فيه يوم الأربعاء مستهل رمضان من السنة المذكورة، وفرغ من تبييضه يوم الأربعاء سادس صفر سنة إحدى وسبعين وثمانمائة، والله أعلم.
قال العلامة سليمان الجمل (2/670):
(واعلم أنه وجد بعد ختم هذه التكملة مما هو منقول عن خط السيوطي ما نصه:
قال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الطوخي(2): أخبرني صديقي الشيخ العلامة كمال الدين المحلي –أخو شيخنا الإمام جلال الدين المحلي رحمهما الله- أنه رأى أخاه الشيخ جلال الدين المذكور في النوم، وبين يديه صديقنا الشيخ العلامة المحقق جلال الدين السيوطي مصنف هذه التكملة، وقد أخذ الشيخ هذه التكملة في يده يتفحصها ويقول لمصنفها المذكور: أيهما أحسن: وضعي أو وضعك(3)؟ فقال(4): وضعي.
فقال(5): انظر، وعرض عليه مواضع فيها، وكأنه(6) يشير إلى اعتراض فيها بلطف، ومصنف هذه التكملة كلما أورد عليه شيئاً يجيبه، والشيخ(7) يبتسم ويضحك.
]قال(8) شيخنا الإمام العلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي مصنف هذه التكملة[:
الذي أعتقده وأجزم به أن الوضع الذي وضعه الشيخ جلال الدين المحلي رحمه الله في قطعته أحسن من وضعي بطبقات كثيرة. كيف وغالب ما وضعته هنا مقتبس من وضعه، ومستفاد منه، لا مرية عندي في ذلك.
وأما الذي رئي في المنام المكتوب أعلاه، فلعل الشيخ أشار به إلى المواضع القليلة التي خالفت وضعه فيها لنكتة، وهي يسيرة جداً، ما أظنها تبلغ عشرة مواضع.
منها: أن الشيخ قال في سورة ص: (والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه) وكنت تبعته أولاً فذكرت هذا الحدَّ في سورة الحجر، ثم ضربت عليه لقوله تعالى: (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي..) الآية، فهي صريحة أو كالصريحة في أن الروح من علم الله لا نعلمه، فالإمساك عن تعريفها أولى. قال تاج الدين السبكي في "جمع الجوامع": والروح لم يتكلم عليها محمد صلى الله عليه وسلم فنمسك عنها.
ومنها: أن الشيخ قال في سورة الحج: (الصابئون فرقة من اليهود) فذكرت ذلك في سورة
البقرة وزدت (أو النصارى) بياناً لقول ثان، فإنه المعروف خصوصاً عند أصحابنا
الفقهاء، وفي "المنهاج": (وإن خالفت السامرة اليهود والصابئون النصارى في أصل دينهم
حرمن).
وفي شروحه: أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن الصابئين فرقة من النصارى ولا أستحضر
الآن موضعاً ثالثاً.
فكان الشيخ رحمه الله يشير إلى مثل هذا والله أعلم بالصواب.
ترجمة الإمام السيوطي:
كنت كتبت ترجمة موسعة لهذا الإمام الجليل في تقدمتي لكتابه النافع "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" الذي حققته ونشرته أول مرة سنة 1393هـ -1972م ثم أعدت طباعته في سنة 1404هـ -1984م في المكتب الإسلامي، واختصرت هذه الترجمة في تقدمتي لكتابه "الدرر المنتثرة" الذي نشرته عمادة شؤون المكتبات في جامعة الملك سعود سنة 1413هـ -1992م وها أنا ذا أورد نبذاً من حياته تقدم صورة عن حياة هذا الإمام."
هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، جلال الدين السيوطي، ولد بالقاهرة في شهر رجب سنة 849هـ وذكر الشيخ محمد سليمان في كتابه "أخلاق العلماء" أنه كان يلقب: (ابن الكتب) إذ طلب أبوه إلى أمه أن تأتيه بكتاب من المكتبة، فجاءها المخاض فيها، فولدته بين الكتب، فلذلك لقب بذلك اللقب.
ولقد صدق عليه ذلك اللقب حتى صار (أبا الكتب) فقد وصلت مصنفاته إلى 600 مصنف غير ما رجع عنه ومحاه(9).
اشتغل بطلب العلم في وقت مبكر فحفظ القرآن، واستظهر عدداً من المتون، ويبدو أنه رزق ذاكرة واعية، وجلداً عجيباً، وهمة لا تعرف الكلل، ومكتبة عامرة، وفراغاً مناسباً.
وسافر إلى الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب وبلاد التكرور، ثم استقر في بلده مصر.
وذكر السيوطي في "حسن المحاضرة" أنه لم يكن لأحد من أجداده اشتغال بالعلم قبل أبيه الذي كان قاضياً.
وكان معتداً بنفسه جداً حتى كان لا يرى في معاصريه نداً له، يقول في رسالته: "التنبئة فيمن يبعث الله على رأس المائة"!
(إني ترجَّيْتُ من نعم الله وفضله.. أني المبعوث على هذه المئة التاسعة لانفرادي عليها بالتبحر في العلوم.. وقد اخترعت علم أصول اللغة.. ولا مشاركة لي في مجموع ما ذكرته).
وقال في أرجوزته التي نظمها بأسماء المجددين وسماها "تحفة المهتدين بأسماء المجددين"(10).
وقد ختم بها رسالته "التنبية فيمن يبعث الله على رأس المائة":
وهذه تاسعة المئين قد أتت ولا يخلف ما الهادي وعد
وقد رجوت أنني المجدد فيها ففضل الله ليس يجحد
وتوفي السيوطي في 19 من جمادى الأولى سنة 911هـ، ودفن في القاهرة رحمه الله رحمة واسعة.
عملي في الكتاب:
1- حاولت أن أتلافى المآخذ التي أوردتها آنفاً.
2- أقرأ تفسير الآية وفق ما ذكر أحد المؤلفين... ثم أنظر في كتب التفسير الأخرى وغالباً ما أثبت عبارة الجلال مع إجراء التعديلات التي سأذكرها.
وقد أختار غير ما اختار أحد الجلالين، ولكني لا أفعل ذلك إلا معتمداً على أقوال العلماء الثقات من أمثال الطبري، وابن كثير، والبغوي، والقرطبي، والبيضاوي، وأبي السعود، وأبي حيان، والرازي، وسيد قطب، والسعدي، وغيرهم، لا سيما إن كان قد ورد في تفسير الآية حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر ثابت عن صحابي وكان موافقاً لسياق الآيات، ولا أشير إلى مخالفتي للمؤلف لأن الكتاب من تأليفي.
3- وقد أحذف ما لا رآه ضرورياً في التفسير كذكر التفصيلات النحوية، وأبقيت من هذه التفصيلات نوعين هما: ما يساعد على فهم المعنى، وما هو واضح لا يصعب على العامة من المثقفين فهمه، ومن الأمثلة على ما حذفته لصعوبة فهمه على العامة: إعرابه لكلمة (أشد) الواردة في قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً..) (البقرة: 200) فقد قال: (ونصب (أشد) على الحال من (ذكر) المنصوب بـ (اذكروا) إذ لو تأخر عنه لكان صفة له).
وشرح هذا الكلام أن إعراب كلمة (أشد) حال من المفعول المطلق (ذكراً) وهي في الأصل صفة والمعنى: (اذكروا الله ذكراً مماثلاً لذكركم آباءكم أو أشد ذكراً).
إذ لو تأخرت فكانت (... أو ذكراً أشد) لكانت صفة والقاعدة تنص على أن الصفة إذا تقدمت على موصوفها أعربت حالاً مثل قول الشاعر:
لمية موحشاً طلل يلوح كأنه خلل
والأصل: لمية طلل موحش
4- حذفت كلامه على القراءات، وبنيت التفسير على قراءة حفص، فالكلام على القراءات يكون في كتب القراءات أو كتب التفسير المطولة.
والمؤلفان لم يستوعبا الكلام على القراءات في كل آية.
5- أضفت شرحاً رأيت أن تفسير الآية يقتضيه، ولا ألتزم الإشارة إلى ذلك، لأن الكتاب –كما سبق أن ذكرت- منسوب إلي.
6- لم أذكر من أسباب النزول إلا ما ورد بإسناد صحيح ويرتبط فهم الآية به، والنص القرآني عام؛ فإن الله أنزل القرآن ليكون مرجعاً للناس في كل زمان ومكان. وقد قرر العلماء أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى توسيع الإمامين الجلالين –رحمها الله- في ذكر أسباب النزول، وكثير منها لم يصح.
هذا وموضوع أحاديث أسباب النزول ما زال يحتاج إلى خدمة من قبل علماء متمكنين في علوم الحديث وعلوم القرآن(11).
7- إذا جاء في تفسير الآية قولان أو أكثر فإني أثبت الراجح من هذه الأقوال، وأضرب صفحاً عن الأقوال الأخرى، وقد أثبت القولين لأترك للقارئ الكريم أن يرجح واحداً منهما.
8- أود أن أؤكد أن عملي إنما هو تهذيب للكتاب وليس تحقيقاً له، وإني مع إعجابي بالكتاب، وثنائي على دقته العلمية أقرر بأن فيه طامات، ولا سيما في ذكره للإسرائيليات، فكان منهجي يقضي بحذفها، ولو كنت أحقق الكتاب لكان ينبغي أن أثبتها وأرد عليها في الهامش.
وليس من شك في أن الأمانة العلمية تقضي في حال التحقيق أن ينشر الكتاب كما كتبه مؤلفه، لا أن يعبث به العابثون ثم يبقى الكتاب منسوباً إلى مؤلفه.
إن عملي هو إخراج تفسير موجز ليس فيه تلك العيوب والمآخذ التي أشرنا إليها، وكتاب "تهذيب تفسير الجلالين" كتابي، ولا أحمل المؤلفين مضمون الكلام الذي أضفته.
وإني لأرى أن الفائدة تكون أكبر بتقديم الكتاب إلى القراء مهذباً، أما الكتاب الأصلي فهو ميسر لأنه منشور بطبعات كثيرة قديمة وحديثة، ويقتضي الموقف أن نذكر أنه لا يغني كتاب عن كتاب.
9- آثرت أن تكون غالب الآيات في التفسير مأخوذة من المصحف الذي كتبه عثمان الخطاط والمطبوع في المدينة؛ تلافياً لما يمكن أن يقع من أغلاط مطبعية بسبب صف حروف الآيات صفاً.
هذا وقد قرأت "تفسير الجلالين" وأقرأته مدة خمسين عاماً، وكنت أصحبه في إقامتي وسفري وأرجع إليه أول ما أرجع من كتب التفسير، وكلما تقدم بي العمر كنت أزداد إعجاباً به. رحم الله مؤلفيه وجزاهما الخير.
هذا وإنني لا أدعي لعملي هذا بلوغ الكمال، وحسبي أني بذلت غاية جهدي في تحري المنهج الصحيح والوقوف على أقوال أهل العلم في تفسير القرآن، واختيار ما أراه أقرب إلى الصواب.
فرحم الله امرأً وقف على خطأ فصححه وكتب به إلي لأتلافى ذلك في الطبعات المقبلة إن اقتنعت بصحة رأيه.
فسبحان من جعل في طبيعة البشر الوقوع في الخطأ.
والله أسأل أن يوفقني إلى خدمة كتابه العزيز، وأن يتجاوز عن خطئي وتقصيري، وأن يجعلني ممن يحيا للقرآن ويعمل به ويدعو له وأن يتوفاني مسلماً ويلحقني بالصالحين.
هذا وأسأل الله أن يفرج عن إخواننا المسلمين المعذبين في كل مكان.. فالكفار ينكلون بهم أيما تنكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون, وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً ليعود لهم عزهم ومجدهم (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). (النور).
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (البقرة).
محمد بن لطفي الصباغ
الرياض في 21 ربيع الأول سنة 1424 هـ 22 أيار سنة 2003م
الهوامش
(1) وقد أثبت الإمام السيوطي هذه المقدمة في التفسير بعد تفسير سورة الفاتحة وقبل تفسير سورة البقرة.
(2) قال العلامة الجمل: وحاصل هذا أن الشيخ كمال الدين المحلي رأى رؤيا تتعلق بـ "الجلالين" في شأن تأليفهما، فأخبر بها الطوخي، فأخبر الطوخي السيوطي بها فكتب السيوطي ما أخبره به الطوخي عن كمال الدين.
(3) المراد بالوضع: الصنيع والأسلوب.
(4) القائل هو: السيوطي.
(5و6) أي: المحلي.
(7) أي: يبتسم الشيخ المحلي فرحاً بجواب السيوطي، وهذا آخر المنام.
(8) القائل هو أحد تلامذة السيوطي وقد أدرج قوله في خلال ما كتبه الشيخ السيوطي، وقوله المدرج وضعته بين معقوفتين.
(9) "أخلاق العلماء" 59-60 نقلاً عن "النور المسافر".
(10) انظرها في كتاب "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر"، للمحبي 3/344 -345 طبع في مصر.
(11) من الكتب التي تتحدث عن أسباب النزول: كتاب الواحدي. قال الإمام السيوطي في "الإتقان" (1/28): ]النوع التاسع: معرفة سبب النزول، أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني شيخ البخاري ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره الجعبري فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئاً وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتاباً مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملاً، وقد ألفت فيه كتاباً حافلاً موجزاً محرراً لم يؤلف مثله في هذا النوع سميته "باب النقول في أسباب النزول"[ قلت: وكتاب الواحدي مطبوع مرات منها طبعة السيد أحمد صقر، ومنها طبعة عصام الحميدان، وكذا كتاب السيوطي طبع مرات ومرات.