اغتيال الحلم الجميل

قراءة في: رواية اغتيال الحلم الجميل

للأديب محمد علي شاهين

عرض: ندى شاهين

بعد النجاح الذي حققته روايته (جريمة في شارع الملكة نازلي) ونفاذ طبعتها الثانية من المكتبات، يطالعنا الكاتب محمد علي شاهين بروايته الجديدة (اغتيال الحلم الجميل) وهو يشق طريقه بكل ثقة وجدارة نحو عالم الرواية العربيّة الفنيّة .

فيسلّط الضوء على صفحات منسيّة من جهاد أمّة طالبت بالعدل والمساواة باسم الدين المشترك في مرحلة صعود الدونمة، حيث انصرف فيها الاتحاديّون عن الجامعة الإسلاميّة إلى الجامعة الطورانيّة، ودمّروا الأسس الواقعيّة التي قامت عليها الدولة العثمانيّة .

ويروي لنا بأسلوب مبتكر حكاية القوى الظالمة الشريرة التي استغلت النزاع بين يعرب وطوران، وأجّجته، فاحتلّت الوطن العربي ومزّقته، وزرعت في قلبه دولة غريبة شكّلت مصدر قلق واستنزاف دائمين لطاقاته وموارده .

ويحكي لنا حكاية اغتيال حلمنا الجميل يوم غدرت بريطانيا بالمشروع القومي العربي، عندما ردد أربعون ألف رجل خلف خطيب جامع بني أميّة الكبير عهد الخلافة، وهم يبكون من شدّة الفرح .

ويروي لنا قصّة إجهاض مشروع نهضتنا المنشود تحت الراية المحمّديّة، يوم اعتقدنا أن الخلافة عادت إلينا من جديد، وأننا أصبحنا جديرين بحمل رسالة الخير والإصلاح للبشريّة .

وكيف تبدد حلم السوريين بإقامة سوريا الكبرى من طوروس إلى العقبة، ومن البحر إلى الصحراء، تحت راية قريش، على درب المشروع الوحدوي الكبير يوم ميسلون عندما اجتاح الجنرال الفرنسي (غورو) بقوات خرجت منتصرة من الحرب العامّة، دولة فيصل الناشئة .

وكيف طويت صفحات المناضلين الحقيقيين الذين أبلوا في معارك الاستقلال البلاء الحسن، وضمّخوا ثرى الوطن بالدماء وفدوه بالمهج والأرواح، لتنسب إلى غيرهم من الأدعياء .

وتصوّر لنا الرواية وشائج الدم والقربى والآلام والآمال والمصير المشترك الذي يربط دمشق بالقدس وعمان، والوعاء الفكري والعاطفي الذي انصهرت فيه أسرة آل عارف السوريّة العريقة، وهي تنمو وتكبر وتتحرك بين مدن الشام وفلسطين بكل حريّة، قبل أن تكون هناك حدود فاصلة بين شمال سوريا وجنوبها .

أما أحلام محي الدين، وخالد، والشيخ أحمد، ووهيبة، ووداد، أبطال الرواية، فقد اغتالتها أطماع شريرة، وحروب قذرة، ومخططات صهيونيّة طموحة، وأخطاء سياسيّة عربيّة لا زالت ترتكب، دفعت أسرة آل عارف ومعها كل الأسر السوريّة والفلسطينيّة التي عاشت ظروف الحرب العالميّة الأولى، وما بين الحربين ثمناً باهظاً لها، ولا تزال .

وتمكّن الكاتب من خلال السرد أن يفرّق بين عهدين: العهد العثماني، والعهد الطوراني، فلم يقع فيما وقع فيه معاصروه من خلط بين الخلافة الإسلاميّة، والدولة التركيّة القوميّة .

ولم يحرّف الأقوال، ويزيّف الوقائع، ويتلاعب بالحقائق التاريخيّة من خلال الرواية الأدبيّة، كما جرت عليه أقلام بعض كتّاب المسلسلات السوريّة التي شاهدناها على الشاشات العربيّة .

واستطاع الكاتب أن يوظّف أدواته الفنيّة في خدمة موضوع روايته وهو يصوّر بالكلمات الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في سوريا في نهاية العهد العثماني أجمل تصوير .

وأن ينقلنا برفق وحنان إلى قلب الأحداث والمعارك، ويجعلنا نسمع وقع حوافر الخيول في الدروب الحجريّة، وصليل السيوف في المعارك، وصفير قاطرات السكك الحديديّة في المحطات المدمّرة، وأن ينقلنا إلى البيوت الدافئة والمساجد العامرة والأسواق النافقة، فيلامس شغاف قلوبنا، ويشعرنا بالحب والحنين إلى تلك الديار .

يقول الكاتب: أينما تجوّلت في دروبها النظيفة المرصوفة بعناية، سمعت ذكر الله، وكلمة التوحيد، لأنهما كلمتان خالدتان لا تفارقان ثغر الدمشقي، والنشيد الشجي يتردد صداه في جنباتها خمس مرّات بأعذب الأصوات، فإذا نظرت في فضائها طالعتك قبّة النسر، ومئذنة العروس، كأنهما نسر يذود عن المدينة بجناحيه إلى جانب عروس بارعة الحسن، وإذا تلفّت من حولك شاهدت العمائم المطرّزة الأنيقة، والذؤابات البيضاء تتكئ على أكتاف الرجال ذوي الوجوه المشرّبة بالحمرة، واللحى الكستنائيّة .

قطعة من جنّات الله، أعدّت للصالحين، طاب فيها الهواء والماء والثمر، وحسن فيها الصاحب والخليل و ذو القربى .

ويدخلنا إلى غرفة فسيحة بدار جمال باشا فرشت بالسجاجيد العجميّة الأنيقة، ووذخرت بروائع ما أبدعته أيدي مهرة الحرفيين الدمشقيين من مطرّزات، ونحاسيات، وجداريّات، حيث يتكئ الباشا على مقعده الوثير بجوار شرفتها الواسعة المطلّة على حديقة القصر، وإلى جواره جلست زوجته الأرمنيّة السيدة (روز) وهما يتحدّثان عن أحلامهما الواسعة ويحتسيان قهوة الصباح .

وينقل إلينا صورة دمشق وهي تبكي مثل عجوز فقدت أبناءها دون أن تذرف دمعة واحدة خشية أن تراها عيون السلطة باكية، فيبكي أمته وينعاها ويقول: وقف الناس كالبلهاء عاجزين عن وقف قوافل التضحية من مسلسل الجريمة، ومعهم كل عواصم العرب، ليكونوا شهود زور على رجالاتهم المتأرجحة أجسادهم في الهواء على أعمدة المشانق، لأنهم تعوّدوا حكم الخصيان والعبيد، واستمرأوا سلطة الأوصياء على النطف الميّتة في أرحام الجواري، وحنوا رؤوسهم لقوانين الطوارئ منذ سقوط بغداد، وجرى العرف عند المتأخرين منهم أنّ مهمة أهل الحل والعقد التعيين، لا الخلع ومحاسبة المقصّرين .

ويمتد الحوار بين أبطال الرواية ويتعمّق، بلغة فصيحة وعبارات أنيقة، وصور بديعة لما لجمال الإقليم من أثر على جمال الصورة وحلاوة اللسان وعذوبته .

ويواصل الكاتب فصول روايته السبعة بشكل منطقي حتى يصل بالقارئ إلى النهاية وكأنه يغادر المقدمة قائلاً: صور شتى راسخة في ضمير الأمّة المقهورة المعذّبة، تختلط بعبق التاريخ والحضارة، سجّلتها هذه الرواية بين سطورها، تعجز المؤامرة التي اغتالت أحلامنا عن إدراكها وفهم أسرارها .

أما مؤلف الرواية فهو الكاتب السوري محمد علي شاهين، الذي نقل محل إقامته من اللاذقيّة إلى عمّان، فتفتحت في عاصمة الثقافيّة قريحته الأدبيّة عن عدد كبير من القصص، والدراسات، وكتب الأطفال، ومنها: (المصادر الإسلاميّة) و(أعلام الصحوة) و(قضايا القرن العشرين) و(الإسلام حضارة وتقدم ورفاه) و(التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريّة العربيّة) و(مقالات للصحوة) بالإضافة إلى مجموعتين قصصيّتين، وثلاث مجموعات مصوّرة للأطفال، و(رواية جريمة في شارع الملكة نازلي) وهذه الرواية (اغتيال الحلم الجميل التي بين أيدينا .

جاءت الرواية في سبعة فصول، استغرقت 144 صفحة من القطع العادي، وصمم غلافها الفنان أمجد الشريف فزاد في أناقتها وحسن إخراجها .

ويتحدث الفصل الأول عن أسرة آل عارف التي شهدت في دمشق حكم السفّاح التركي جمال باشا، وبدايات الثورة العربيّة الكبرى، وما كابده خالد بطل الرواية ومعه أبناء سوريّة من ويلات الحروب .

وتنقلنا الرواية في فصلها الثاني إلى أروقة الجامع الأقصى، حيث يتعرف خالد على الشيخ أحمد، ويتزوج بشقيقته وهيبة، وينجب من فتاته الخليليّة ثمرة حبهما الطفلة وداد التي ملأت بيتهما سعادة وهناء .

وتروي لنا استنفار شباب العرب للقتال في الجبل الأسود، ووقوع خالد في الأسر الصربي، واحتلال القوات البريطانيّة لفلسطين، ودخول قوات الثورة العربيّة دمشق، وزاواج وهيبة من أحد مريدي الشيخ بعد تمنّع وإحجام، رغم وقف القتال وانقطاع الأمل بعودة خالد حيّاً، وتحدثنا عن الأخطار الصهيونيّة والأطماع اليهوديّة بالمقدسات الإسلاميّة، وما يتمتع به المقدسيّون من وعي سياسي في تلك الفترة العصيبة .

وينقلنا الكاتب في الفصل الثالث بلطف إلى قلب الأحداث في دمشق فيصوّر لنا البطولة والفداء على مشارف ميسلون، ودخول الجنرال غورو على أشلاء الجيش العربي، ويكشف اللثام عن صفحات مطويّة من تاريخ النضال السوري، ويثمّن دور الأمير عبد الله بن الحسين في تعزيز حركة الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وينعي على الجنود المرتزقة في صفوف المستعمرين، تخاذلهم وترددهم .

أما الفصل الرابع فيحدثنا الكاتب من داخل معسكر الاعتقال الصربي عن خالد الأسير ورفاقه، وعن رحلة الفرار من الأسر إلى ألبانيا وتركيا عبر الجبال المكسوة بالثلوج، ويصور لنا الصدمة التي أصيب بها الناجون من الأسر بعد وصولهم إلى إستانبول، ثم تفرقهم، وماشاهده خالد ورفيقه بعد ركوبهما القطار من محطّات مدمّرة وأعمدة هاتفيّة محطمة، وما أصابهم من إهانات وتحقيقات على جانبي الحدود عبر بوابات التجزئة، وكيف وطئت أرجلهما رصيف محطّة الحجاز بدمشق بثيابهما الرثّة وجيوبهما الخاوية، وما كان بانتظارهما من فواجع في دمشق والقدس .

ويصمم خالد في الفصل الخامس على طي صفحة الماضي، والرضى بقضاء الله، ويشمّر عن ساعد الجدّ، ويعيد افتتاح محلّه بسوق باب العمود، ويتعرّف على الشيخ الصوفي ذي الفقار المقدسي.

 ويتزوج المريد الدمشقي خالد بفتاته الثانيّة فيفشل في الاختيار، فيضرب عن الزواج، ويتابع من القدس أخبار الجهاد في سوريّة. 

وتحدثنا الرواية في الفصل السادس عن تحدي الأمّة لسلطات الانتداب، وإجماعها على مبايعة الشريف الهاشمي الحسين بن علي من فوق منبر جامع بني أميّة بالخلافة على سنّة الله ورسوله، على اعتبار أنّها مسألة دينيّة لا شأن للفرنسيين بها، وعن انطلاقة الثورة السوريّة من الجامع الأموي، وعن القوى الروحيّة التي كانت تقف خلف الثورة .

وفي الفصل السابع يختم الكاتب الرواية بزواج بطل الرواية من فاطمة التي تاه فخراً بإسلامها، والتحاق الطفلة الصغيرة ذات الجدائل الذهبيّة وداد بالأسرة التي نعمت بالاستقرار في القدس، ثم انتقال الأسرة إلى اللاذقيّة بعد الكساد الذي ضرب محل خالد في سعيه لحل أزمته الماليّة، بسبب الاعتداءات المتفاقمة على أسواق القدس العربيّة .

ويزدهر محل خالد ويعقد صفقات رابحة ويقيم مع تجار المدينة الساحليّة وعلمائها علاقات صداقة ومحبة، ويزوّج ابنته وداد من أحد تجارها .

ويتوّج الكاتب خاتمة روايته بوفاة وهيبة التي كانت قد تزوّجت من مريد الشيخ أحمد، وهي تسعى لزيارة ابنتها من زوجها السابق خالد، ولهفة الشابّة الصغيرة وداد وزوجها لهذا اللقاء الذي لم يتحقق .

قالت وداد: يا إلهي، كم تمنيت أن أرى أمي ولو مرّة واحدة في حياتي .

لقد اغتال القدر أملي الجميل .

فكن عوني على مصابي، وكن معي يا رب في محنتي .

ونستطيع أن نقول ونحن نطوي هذه الرواية الشيّقة: حقاً لقد اغتيلت أحلامنا كأمّة فلا خلافة ولا وحدة، واغتيلت أحلامنا كأفراد فلا أمان ولا تقدم، وخدعنا بالشعارات فلا حريّة ولا عدالة .

فكن معنا يا إلهنا في محنتنا فقد عادت الجيوش الغازية تقرع بوّابات عواصمنا، وارحم ضعفنا .