محمد نجيب

محمد نجيب انحاز للديمقراطية

 انحاز للديمقراطية

فسجنوه في فيللا زينب الوكيل

محمد الحمامصي - القاهرة

لم يحظ حدث تاريخى فى تاريخنا المعاصر بمثل ما حظيت به ثورة 23 يوليو 1952 من اهتمامات الكتاب والمؤرخين والمحللين. ولكن كثيرا مما سجل عن هذه الثورة بعيد عن الموضوعية والروح الحيادية بسبب الانتماءات المذهبية والعقائدية وانعكاس الميول والأهواء الشخصية إلي ما نشر عن هذه الثورة – فبينما حرص بعض من كتبوا على نفاق الحكام من أبناء هذه الثورة إلي الحد الذى جعلهم يعتبرون أن تاريخ مصر وكفاح شعبها من أجل حريته، إنما يبدأ فجر 23 يوليو 1952 متناسين ملاحم الكفاح الرائعة لأبناء مصر عبر السنين نجد أن البعض الآخر من هؤلاء حرصوا على التركيز على سلبيات الثورة، والتهجم بكل عنف وضراوة على قادتها وقراراتهم الثورية متناسين إيجابياتها وما حققته لمصر والأمة العربية من مكاسب عظيمة وإنجازات رائعة.

فى هذا الكتاب للكاتب والمؤرخ د.رفعت يونان (محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة؟) دراسة لشخصية اللواء محمد نجيب أول رئيس مصرى من تراب هذا الوطن، حيث يري د.رفعت أن الأقوال تعددت واختلفت الروايات فى حقيقة الدور الذى لعبه محمد نجيب بالنسبة لحركة الجيش إلي الحد الذى ضاعت معه الحقيقة، حيث إن موقف بعض الكتاب ووسائل الإعلام من محمد نجيب فى عام 1952، 1953 عند بداية الحركة ثم موقفهم منه بعد تنحيته من منصبه فى 14 نوفمبر 1954 هو مثال على مدى ما يسهم به الكثيرون بفضل الرغبة فى نفاق الحكام وتغليب الأهواء الشخصية فى تشويه التاريخ وخداع الأجيال القادمة، وعلى ذلك فأن مسئوليتنا نحن – المعاصرين – فى كتابه التاريخ أن نروى الحقيقة دون أي تحيز أو تحريف.

اعتقال محمد نجيب وظروفه

يقول د.يونان: كان يوم 14 نوفمبر 1954 يوما مختلفا عن بقية الأيام فى حياة الرئيس محمد نجيب، ففى هذا اليوم تحول من رئيس إلى معتقل ومن حاكم إلي سجين، ومن رجل يملك ويحكم دوله بأكملها إلى رجل لا يملك ولا يحكم حتى نفسه.

فى هذا اليوم توجه محمد نجيب إلي مكتبه فى القصر الجمهورى بعابدين، فوجد بعض الضباط من البوليس الحربى على باب القصر وتبعه اثنان منهم إلى المكتب فنهرهما بشدة، فقالا له إن لديهما تصريحا بالدخول من كبير الياوران بالنيابة الاميرلاى (العميد) حسن كامل الذى عين سفيرا فيما بعد، والذى لم يكن حاضرا بالقصر لحظة وصول الرئيس نجيب وبعد مناقشة حادة خرجا من مكتب الرئيس. وفور ذلك اتصل نجيب بجمال عبد الناصر ليشكو له تصرف رجال البوليس الحربى الذى رد عليه بأنه سيرسل له عبد الحكيم عامر وبعد فترة قصيرة جاء عبد الحكيم عامر ومعه حسن إبراهيم وقالا له فى خجل " إن مجلس قياده الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئيس الجمهورية " فقال نجيب: أنا لن استقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسئولا أمام التاريخ عن ضياع صلة السودان بمصر. أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبا لأنكم تعفوننى من مسئولية لم يعد يحتملها ضميرى )، وخرج محمد نجيب من القصر حاملا المصحف فقط من مكتبه، وقد أخبره عبد الحكيم عامر أن إقامته فى المرج باستراحة السيدة زينب الوكيل لن تزيد على بضعه أيام يعود بعدها إلي بيته، ولكن إقامته بالمرج استمرت حوالى 29 سنه تقريبا، لقد حزن محمد نجيب عند دخوله الفيللا فى 14/11/1954 لأول مرة، منذ اليوم الأول لدخوله هذا المكان أحس أنه ألقى فى الجحيم، فقد سبقه القائمقام ( العقيد ) احمد أنور قائد البوليس الحربى إلي الفيللا، فوزع نقطة قوية من نقاط الحراسة حول السور وفوق السطح وفى الداخل وكان تسليح هذه النقطة قويا، مدافع رشاشة، قنابل يدوية، مدافع صغيرة،وكان أحمد أنور يتصرف كأنه يقود معركة حربية شرسة، كما قام ضباط وجنود البوليس الحربى بتجريد الحديقة من أشجارها، والفيللا عن أثاثها وحملت سياراتهم المطابخ والثلاجات والموبيليا حتى حلل الطهى، وفى تلك الساعة كذلك صادروا كل ما فى بيت نجيب من أوراق وكتب ونياشين وتذكارات، وكل ما سمح به زوجته وأولاده ثلاث حقائب بها ملابسهم الضرورية، وكان لابد أن يشعر اللواء نجيب بالحسرة والألم والحزن، ويبدو ذلك واضحا تماما فى مفكرة جيبه التى وجدت بين أوراقه، والتى سجل فيها ما جرى له وما أحس به بعد اعتقاله، وذلك ابتداء من يوم الأربعاء 17/11/1954 فى هذا اليوم كتب محمد نجيب:

( هبوط فى ضغط الدم – إحساس بالزهق – رغبة فى التخلص من الحياة بعد نومنا على البلاط فى فيللا زينب هانم الوكيل )

الخميس 18 نوفمبر

( قبل الإفطار حصل لى هبوط شديد كالذى حدث أمس وكان النبض نحو 64 وكان لدى ميل للقىء ودوخه )

 الجمعة 19 نوفمبر:

هبوط فى النبض الى 64: 65 وميل للقيء كالذي حدث أمس.

صدور بيان من الحكومة المصرية ضد إسرائيل.

لم أتعود بعد على الحياة فى هذا المكان كما أن فرقة الحراسة تصادر كل حرياتى وحرية زوجتى وأولادي )

السبت 20 نوفمبر:

( أنا اليوم أفضل – حاولت ممارسه رياضتى الصباحية فتعرضت لسخرية لم أحتملها من الضباط والجنود الذين يراقبوننى )

الأحد 21 نوفمبر:

( تليفون من أحمد نور سبنى فيه بأفظع الألفاظ )

الاثنين 22 نوفمبر:

( يظهر أن الشيوعية تتغلغل فى مصر بسرعة وفى كل مكان )

الثلاثاء 23 نوفمبر:

( فوجئت بمجموعه من الحرس يدخلون علينا الحجرة التى أجلس فيها أنا وزوجتى ويجلسون بيننا حاولت أن أثنيهم عن ذلك عملوا ودن من طين وودن من عجين لا أعرف ماذا أفعل ولا كيف أدافع عن نفسى )

الأربعاء 24 نوفمبر:

( لا أجد وسيله أدافع بها عن أسرتي سوى ان أصلى واقرأ القرآن وهذا ما جعلنى لا اترك السجادة ولا المصحف طوال هذا اليوم )

الخميس 27 نوفمبر:

( عرفت من أحد الضباط أنهم أخذوا من بيتي كل شىء يخصنى حتى تذكاراتى وأوراقي وشهاداتى ونياشينى وبدأت فكرة الانتحار تراودنى لكن إذا مت فمن يقف بجوار عائشة زوجتى والأولاد )

ويضيف د.رفعت يونان: هكذا استمر محمد نجيب يكتب مذكراته اليومية من يوم دخوله فيللا المرج فى 14/11/1954 وحتى أكتوبر 1983 حوالى 29 سنة، فقد طلب ورثة السيدة زينب الوكيل أن تعود الفيللا إليهم واستجاب القضاء لهم، وقد استنجد الرئيس نجيب بالرئيس حسنى مبارك الذى أمر بتخصيص شقه له تابعة لرئاسة الجمهورية خلف قصر القبة قضى بها المدة الباقية من حياته حتى توفى فى يوم 28 اغسطس 1984، وكان محمد نجيب يريد أن يموت فى هذه الفيللا حيث كان من الصعب عليه أن يموت فى مكان أخر غيرها بعد كل هذه السنوات من العشرة، فقد حفظ كل ركن فيها فهو يقول: إن الزمن يجبر الإنسان على الألفة والتعايش مع من يحب ومع ما يكره ومع ما يريده وما لا يريده.

ويخلص هذا الكتاب الذي جاء في سبعة فصول وخاتمة أن الرئيس محمد نجيب منذ نشأته وهو مرتبط ارتباطا أبديا بأرض وادي النيل بصفة عامة ومصر بصفة خاصة، حارب بشجاعة نادرة فى حرب فلسطين من أجل الأمة العربية 1948، كما كان يردد دائما أن الحرب الحقيقية لابد أن تكون فى القاهرة ضد القصر والفساد وأعوانه، فكان نجاحه الساحق فى انتخابات مجلس إدارة نادى الضباط فى ديسمبر 1951 بمثابة المسمار الأول فى نعش الملكية، وقد كان أول بيان لحركة يوليو يذاع باسم محمد نجيب فى الساعة السابعة والنصف صباح 23 يوليو 1952 هو السبب الأول والأساسي فى نجاح الثورة والتفاف جميع أسلحة الجيش وكل فئات الشعب حولها مؤيدة مباركة، كما قاوم الإنجليز منذ نعومه أظافره، وأثناء عمله فى السودان ومصر، فهو إنسان يستحق التبجيل والاحترام وقف بجانب الأصالة وتحلى بالأمانة شريفا فى خصومته شجاعا فى الحرب والسلم من أجل وطنه ومجتمعه والإنسان بدون إنسانية يتحول إلي صنم أجوف تتحكم فيه غرائزه وشهواته.

لقد انحاز منذ بداية الحركة إلى جانب الديمقراطية والحرية واحترام الدستور، ولكنه وجد أنه بذلك يسير ضد اتجاه معظم زملائه فى القيادة حيث رأى أن المسيرة فى غير الاتجاه الوطنى السليم، وأن ضحايا الثورة فى تزايد مستمر وأن حكم مصر يتجه الى دكتاتورية الفكر والرأي، وأن القرار السياسى من هذا المنطلق لن يتناسب مع الأحداث، ولن يكون حاسما وتلك كارثة وإن أى ثورة لابد أن تقرأ التاريخ جيدا، وتستوعب دروس الماضى فى قرارات الحاضر والمستقبل، فتحمل ما لا يحتمله بشر من أجل هذه المبادئ حتى تمكنوا من إزاحته وتحديد إقامته فوضع أمله فى الشباب والأجيال التى تأتى من بعده لتعويض شيخوخة الشعوب، ولكى تتحقق " الديمقراطية" هذه الكلمة الخالدة التى دفع ثمنها غاليا وأن دوام الحال من المحال، ولابد من وضع نهاية للتكبر والتجبر وإنقاذ هذا الشعب مما يلاقيه من هزائم ومذلة، وهوان وبإشعاع الأمل مع انتصارات حرب أكتوبر 1973، وفى هذا الصدد يمكن القول ان الخمسينيات كانت معظمها إيجابيات وسلبيات، والستينيات كانت كلها هزائم وسلبيات، والسبعينيات بداية انتصارات وإيجابيات، والثمانينيات والتسعينيات هى إنجازات ونجاحات فى شتى المجالات، ولا سيما فى مجال الديمقراطية والحرية التى كانت حلم الرئيس محمد نجيب.

ويري د.رفعت يونان أنه رغم كل ما حدث يجب أن نسجل فى تاريخنا أن ثورة 23 يوليو حدث مهم قام وأتم دوره ولا يمكن محو صفحته ولا هدم آثاره.. هذه الثورة التى ساهمت فى تغيير الدنيا من حولنا وفى تجديد شباب أمتنا العربية.. وغيرت فى الداخل إلى غير رجعة شكل الهرم الاجتماعي، وأعطت الفئات المحرومة فرصة التعبير عن نفسها والدفاع عن مصالحها مع اقامة قاعدة صناعية حديثة، والآن نحن نعيش جو الحرية والديمقراطية ونعيد بناء مصر المعاصرة بصورة عقلانية متدرجة هادئة يجب علينا جميعا حكومة وشعبا، إن نقتحم القرن الواحد والعشرين من بوابة العمالقة بمزيد من الوعى ومزيد من العمل الجاد.

الكتاب: محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة؟

المؤلف: د.رفعت يونان

الناشر: دار الشروق

سنة النشر: 2008

عدد الصفحات: 162

القطع: الكبير