صادق البعّاج: نغمٌ على وتر القلوب
تسع وسبعون
“خفقة قلب وسط ظلام المحنة”
د. حسين سرمك حسن
في عام 1998 التقيت بصحفي أمريكي جاء إلى بغداد ليرصد آثار الحصار الأمريكي الجائر الكارثية على شعب العراق. سألته : هل تعتقد أنكم بهذا الحصار تقتلون شعب العراق ؟ قال : حكومتنا تعتقد ذلك . قلت له : أي عراقي يجوع يستطيع هزّ أي نخلة في الشارع فيتساقط عليه التمر . قال : إذن ما الذي ستقتله حكومتنا . قلت : أنتم تقتلون الحب في قلوب العراقيين وهذا أخطر شيء على مستقبل هذا الشعب والمنطقة.
والآن ، أعتقد أنّ المؤامرة الكبرى على هذا الشعب العظيم تدور رحاها على قلوبهم .. لانتزاع الحب منها وتحويلهم إلى كائنات بلا قلب .. أي – وحاشاهم – إلى وحوش . وهذه هي الخسارة الحقيقية التي لا تعوّض . ولهذا تجدني أحتفي بأي نتاج أدبي أو فنّي عراقي يعالج خفقات قلب الإنسان الموجوع وفي مقدّمتها حبّ المرأة العظيم . فالتعلق بالمرأة هو الذي يمنح الحياة ديمومتها ويُجري نسغ البقاء في عروقها .. المرأة سرّ الحياة ومصدر ديمومة هذا الكون ولغزه الأكبر :
(ما سرُّ حواء
وما السحر الذي فيها
لو غرّبتْ .. شرّقتْ
حلّوا بواديها
الله صنّعها
يوماً وجمّلها
وزاد في الخلق
حُسناً من معاينها
حوّاءُ دنيا
جميع الكون ينشدها
عذوبة اللحنِ
والأشعار تشجيها ) (قصيدة حوّاء)
ووسط ظلام المحنة الدامس يخفق قلب "صادق البعّاج" بالحب واللوعة المُبهجة والأمل الجريح ، فيقدّمها لنا نغماً على وتر قلبه الموجوع ، مرتعشاً بخلجات الخيبة اللذيذة القائمة أو المتوقّعة ، وقلق الفقدان – بالنسبة لي – من سمات الشخصية العراقية العجيبة التي تشكّل مصدرا هائلاً للإبداع ؛ هذا الفقدان الذي يسم الكثير من نصوص صادق :
(أخشى الزمان وغدرَهُ
والعمرُ يمضي والسنونْ
أخشى من اليوم البعيدِ
ودمعتي يوماً ستجحدها العيونْ
يوماً تفارقني الأحبّةُ
لا أرى تلك الجفونْ) (قصيدة سهد العيون) (وراجع – مثلاً - قصائد : أحزان قلب ، أين الرحيل ؟ ، الساعة الأخيرة ، سهد العيون ، يا نجيمات السماء ، وغيرها ) .
أمّا الحزن – برغم مناخ البهجة العام – فهو سمة صارخة ايضاً وترتبط بالفقدان. ولا أعلم لماذا يحاول البعض تلطيف الحزن العراقي بتسميته "شجناً" وهو حزنٌ أسود غامق وتاريخي رهيب ؛ حزنٌ قادرٌ على إجهاض أكثر المحاولات تخمة بالفتاؤل مثل قصيدة الإفتتاح (الهوى ذبّاحُ) التي اختتمها صادق بعد مسيرة مُفرحة طويلة بالقول :
(يا منْ لعشقكٍ تُفتدى أرواحُ
يا ليت شعري
قد أنال وصالها
حتى تفوحَ
بوجنتيها الراحُ
أوّاهُ ما بيني
وبينكِ أبحرٌ
القلبُ مدمى
والبكاءُ نواحُ) (قصيدة الهوى ذبّاحُ) .
ومن المهم القول أن الراحل الكبير "نزار قبّاني" لم يترك شيئا من هموم العاشقين وخفقات قلوبهم لم يصوّره بريشته البارعة ويعزفه نغماً على أوتار قلبه المُتعب . لقد اثرّ نزار في أجيال كاملة وجعل القصيدة العربية – مع العراقي "كزار حنتوش" – تلبس قميصا ملوّناً مفتوح الأزرار وتجلس في المقاهي وتتدافع في زحام الباصات . ولا يمكن أن تكون نصوص "صادق البعاج" - وهو يقدّم مجموعته الشعرية الأولى – استثناءً من هذه القاعدة . ولعلّ من سمات القصيدة النزارية "المُعدية" المباركة هي سمة "البساطة" التي وسمت كل نصوص صادق البعّاج ، وجعلت الكثير منها صالحاً لأن يُغنّى كما فعلتُ أنا :
(يا وردتي
يا زهرة اللوز الجميلهْ
يا ليلة السبتِ
الحزينة والمريره
قتلوا القصيدةَ في دمي
نزَفَ الندابُ على دمي
كانّها من لوعة
الأقدار في نفسي الحزينه ) (قصيدة : في ليلة السبت) .
ولعل القسم الثاني من المجموعة "قصائد وطنية وسياسية" الذي ضمّ ثلاث عشرة قصيدة وطنية وسياسية عبّرت عن روح الشاعر الوطني الغيور الذي لا يستطيع الغناء للحب فحسب في وطن مُمتحن معذّب يُقتل كالحسين كل لحظة . وقد جاءت القصيدة الأولى في هذا القسم متسّقة مع ما قلته عن ضرورة الإحتفاء بالحب والمراهنة على خفقات القلوب النبيلة اللاعجة بالحب .. جاءت "دعوة للحب" ونبذ الكره والغلّ والفرقة .. والتحرّر من لعنة قابيل :
(.. واتركوا القتل وقابيلَ
إنّا كلنا نعلمُ قابيل
وندري إنه أوّلَ قاتلْ
اجعلوا الحرف جميلاً
مثل عطر الروض
بين الناس سحراً للتواصل
..........
قد خُلقنا من ترابٍ
ثم صرنا في شعوبٍ وقبائلْ
.........
ليس ديناً ذاك منْ
يدعو صباحاً ومساءً كي نقاتلْ
أيّ دينٍ يذبح الناس فراداً أو عوائل ) (قصيدة : دعوة للحب) .
والتاريخ عادة يكتبه المنتصرون الطغاة .. أمّا آلام المسحوقين المُذلّين المهانين فـ "يؤرّخها" ويتغنّى بها الشاعر الشريف الجسور :
(هدموا أسوار حصني
قوّضوا حتى أساسه
كلّ فردٍ ماسكٍ للهدم فاسه
سرقوا مالي ونفطي
ثمّ أعطوني تعاسهْ
صارتْ العِمّةُ السوداءُ والبيضاءُ
نوعاً من لباسه
هذي أعمالُ وافعالُ
رجالات السياسهْ) (قصيدة : رجالات السياسة) .