الفنان السوري… إعادة تمثيل الجريمة

عندما لمحت خبراً جرى تداوله بقوة أمس عن مسلسل تلفزيوني سوري يحمل عنوان «قيصر»، ويلعب الممثل غسان مسعود أحد أدوار البطولة فيه، لم يخطر لي إلا أنه واحد من مئات الأخبار المزيفة التي تمر أمامنا يومياً، تمرّ فتنطلي، ولا نتعلم الدرس، فالأكاذيب ملحّة، ومثابِرة، وكثيرة إلى حد الطوفان.

لكن يبدو أن المسلسل قد دخل منذ أيام مرحلة التصوير، وهو من 30 حلقة تروي مآسي المعتقل السوري الرهيب، ومستوحى من أحداث حقيقية شهدها معتقل صيدنايا، أحد أكثر السجون السورية وحشية، ومنه تدفق، مع سقوط النظام، سيلٌ جارف من الحكايا الممتدة من سجن تدمر إلى سجون هذه الأيام.

أن يكون الممثلون الموالون في أدوار ضحاياهم مقبول في حالة واحدة: أن يتصرف هؤلاء وكأنهم يعيدون تمثيل الجريمة

أما لماذا حسبناه خبراً كاذباً، فلأنه يصعب تصديق أن واحداً من موالي النظام الأسدي الفارّ يعطى اليوم فرصة لتصوير ضحاياه (إلا إن كان قد أعطي دور الجلاد). وقد لا تجد اليوم في الظاهر تصريحاً تلفزيونياً أو صحافياً بارزاً للبعض في موالاة بشار الأسد، لكننا نعرف جميعاً مدى ولائهم واستماتتهم في الدفاع والذود عن النظام واستمراره في كل حيّز عملوا فيه، وعلى الأقل لم يوفروا مرة الطعن في ثورة السوريين. بل إنك تجد حتى هؤلاء الذين ظهروا مع بشار الأسد بمقابلات ملأت الشاشات، ملؤها الضحك والقهقهات، استطاعوا التذرع بأنهم مجبرون، على أساس من يستطيع أن يردّ القصر حين يأمر! وهم سرعان ما ظهروا في مقابلات تلفزيونية مضادة بُعيد هرب النظام لا للاعتذار والاعتراف، بل لمزيد من الكذب: لقد أُجبرنا، ولم نقل إنه منتخب، وعندما قلنا فليحيا بسطار جندي جيش النظام فوق رؤوسنا، فإنما كنا نقصد حذاء الجندي الشريف.. وهكذا.

راح بعض الفنانين والمثقفين الموالين والرماديين يولّفون الحكايا: كنا نبوح بأشياء لمحيطنا الضيق، لم نكن نعلم، لعبنا دوراً في حماية معارضين، وهنا قد تجد أحياناً من المعارضين من يشهد بالفعل أن فلاناً من موالي النظام قد ساعده في الهروب من البلاد، أو في الخروج من المعتقل،.. كان فُتاتاً على هامش جريمة هائلة ترتكب.

كان مضحكاً أن تدافع شخصية موالية بارزة شغلت مواقع حساسة في قلب مؤسسات النظام عن نفسها بنشر تقرير كُتب بها من رئيس مجلس الوزراء شخصياً، مع عبارة تقديمية لها تقول: «كل من بقي في الداخل وأراد المشاركة في صياغة مستقبل بلده تواجهه أصوات اتهامية بأنه كان يخدم النظام المخلوع»، إذن هو حقد الخارج على الداخل، وكأن الخارجين لم يدفعوا ثمناً، أو أنهم كانوا في نزهة.

السوريون جاهزون للصفح، خصوصاً مع الفنانين، فمهما كان خلافك مع الفنان شديداً سياسياً وأخلاقياً، لن تستطيع منع نفسك من الركض لالتقاط صورة في ظلاله

المهم أن تقرير رئيس الحكومة موجّه إلى وزير الإعلام، الذي كانت تلك الشخصية تعمل في أمرته، وهنا عرفنا الاتهامات (من بينها أن تلك الشخصية تهربت من إدراج اسمها كمشرفة على مسلسل من إخراج نجدت أنزور، أي أنها أشرفت عليه بالفعل، والمشكلة فقط في إدراج الاسم!)، ولكن الأهم لو أن تلك الشخصية أتحفتنا بجواب وزير الإعلام على تقرير رئيس الوزراء، ولا بدّ أنه امتلأ بالمآثر التي يحبها قلبك.

تحت الهواء، بتعبير أهل الميديا، هناك مواقف وتعليقات لا تحصى للموالين تنكّل بالثائرين على النظام، ولعلها تستحق قاموساً إن لم نقل متحفاً للكراهية. لا أنسى قول شاعرهم فيما يشير للأدخنة المتصاعدة إثر قصف مخيم اليرموك «ولكن لماذا المآذن كثيرة إلى هذا الحد!»، وهذا ليس مجرد تحليل للصورة، بل كان نوعاً من تأكيد رواية النظام بأن المخيم مسروق من إسلاميين، وبالتالي يستحق مجزرة، وكيف ننسى قول صحافيّهم «لا شيء يُمتعني أكثر من رؤية مئذنة مقصوفة مهدمة»، أو مخرجهم المسرحي السمح وهو يقول: «يأكلون لحم الجمال ويهيجون مثلها»، وكان يقصد ثوار الغوطة.

كان بالإمكان غضّ الطرف عن كل ذلك، فالجو تَسامُح ومحبات وأشواق، وما دُمنا قد وصلنا إلى هذه النقطة من دون دم وتوحش، كما رسمت المخيلاتُ وتوقعتْ منذ خمسين عاماً، فلمَ لا نحب بعضناً وننطلق إلى فضاء الحياة الرحب الواعد بالفرص.. والكلام عَسَل وغَرام، ولكن الكذب مستفز، وادعاء البطولات كذلك، كما ظهر في حوارات الفنانين في مؤتمر الحوار الدائر في البلاد، مثلما يستفزّ أن يلعب ممثلٌ موال دور ضحيته.

أن يكون الممثلون الموالون في أدوار ضحاياهم مقبول في حالة واحدة: أن يتصرف هؤلاء وكأنهم يعيدون تمثيل الجريمة.

وسواء فعلوا ذلك أم لا، نقترح على الشاشات السورية تقديم برنامج يستعيد الدراما والأفلام السينمائية التي أنجزت في عهد النظام البائد، مرفقة بتعليقات وشروح خبراء عن الكيفية التي خدمت فيها تلك الأعمال بروباغندا النظام.

قد تجد من المعارضين من يشهد بالفعل أن فلاناً من موالي النظام ساعده في الهروب من البلاد، أو في الخروج من المعتقل،.. كان فُتاتاً على هامش جريمة هائلة

وبالطبع سنصطدم بجواب جماعي واحد ومكرر للممثل السوري: أنا لست سوى ممثل، وهذا ليس مشروعي. وهذا الجواب سمعته حرفياً من ممثل ومخرج معروف أخيراً، إثر مقال عن «تكويعته»، إذ تقول نظريته، ونظرية آخرين من أمثاله، إن العمل الفني هو مشروع المخرج فقط، أما الممثل فمجرد برغي منفذ! هذا صحيح بالفعل عندما نتحدث عن المسؤولية والأهمية في توازع الأدوار مهنياً، ولكن ليس لتبرير جريمة. كيف تقبل مثلاً أن تكون مدافعاً عن الثورة في فيلم من إخراجك (إن صح ذلك بالأساس) وضدها في فيلم من إخراج آخرين! أي خزعبلات!

السوريون جاهزون للصفح (خصوصاً مع الفنانين سبحان الله، فمهما كان خلافك مع الفنان شديداً سياسياً وأخلاقياً، لن تستطيع منع نفسك من الركض لالتقاط صورة في ظلاله!)، ولكن ليس مع الكَذَبة ومدّعي البطولات، بل ومنتهزي الفرص.

لا أحد يتطلع إلى مقصلة، لا سمح الله، ولكن في المقابل لا نقبل التنكيل بالضحايا.

وسوم: العدد 1117