وطن على جدار الصمت
يسري الغول
"أنا كائن غريب" جملة وقعت في جوف الجمهور الذي ضج بالصفيق. كأنهم هكذا، أو كأن غزة كلها كذلك، غريبة هي بما فيه وعليه.
ففي مسرحية "وطن على جدار الصمت" التي تعرض الآن على خشبة مسرح مؤسسة سعيد المسحال، والتي دعاني إليها الصديق عبد الفتاح شحادة، مخرج وكاتب ذلك النص، تكاد تلامس المعاناة الفلسطينية كلها، بحذافيرها وتضاريسها التي يحاول البعض إخفائها، خوفاً من مجهول قد يفتك بكل من عليها.
فمن معاناة الأسر إلى معاناة التفاوض الهزيلة، إلى معاناة الحرب ثم معاناة الانقسام ثم الحصار، وويلات السفر وآهات الكراهية والبحث عن قوت وطعام، وقصة بطوّلة (تصغير بطالة)، وقصة أنفاق غير موجودة بأي أرض أخرى. حكايات وحكايات يستعرضها هؤلاء الشبان دون خوف من أحد، فهم كالبارود المتفجر، وكلماتهم رصاص لا يعرف الخوف. كأنها رسالة من هؤلاء الممثلين الصغار إلى الممثلين الكبار، الذين يتحدثون دوماً باسم الشباب، هنا وهناك، دون أن يشعروا بمعاناتهم الحقيقية أو يجدوا حلاً جذرياً لها.
تابعت المسرحية باهتمام بالغ، مستنداً على شفرات النص التي تهذي بها ألسنتهم، كأني أرى شيئاً لم أره من قبل، حيث يفتحون باب الاسئلة الكبير: إلى متى؟ وهل سيظل شباب فلسطين وحدهم من يدفعون ثمن الانقسام. وهل الهجرة سبيل من لا سبيل له؟
يقول الأسير من على خشبة المسرح: "يا ترى الناس بتفكر فياا؟" فطفرت دمعة: هل حقاً نفكر بأسرانا اليوم؟ هل نفكر بمن يضربون عن الطعام يأكلون الملح ونحن نتلذذ بأجمل وأشهى المأكولات؟ هل نفكر بأُسرهم وعوائلهم؟ وهذه الهل لا تنتهي.
أحد الممثلين يقول: "مشتاق للصراخ"، ويراودني سؤال حد الجنون: لماذا؟ فحين نبحث عن الهدوء، يكاد يجن هؤلاء، يريدون الصراخ، في وجه القادة والزعماء والمسؤولين والبارزين والمقاومين والمفاوضين والمتخاصمين وغيرهم. ثاروا ضد المفاوضات/ ضد الانقسام/ ضد المشاريع التي يتغنى بها بعضهم دون أن يلتزموا بها وخشبة المسرح أبلغ من كل الكلمات.
تنتهي المسرحية من حيث بدأت، فالسفر ومعاناة الترحيل والاحتجاز والهجرة والخوف هي النهاية السوداوية التي وجب أن ينتهي بها ذلك النص المجنون، حين يقول أحدهم: "مسافر يا ستي، البلد هاي ما ضل فيها شي". والسؤال الصعب: كيف سيسافرون ولا بوابة غير تلك التي نعرفها، ولا مطار لنا ولا ما يحزنون؟
ترى من هو المسؤول عن كل ذلك؟ وهل حقاً أننا مبرؤون من ذنب هؤلاء؟ لعلنا نسيناهم لأن الترف أصابنا، ولأن كل واحد منا استطاع أن يوفر لنفسه عملاً يقيه برد السؤال في زمن كان فيه شيء من حياة.
إن رسالة مخرج ذلك العمل تختزل الحكاية بتساؤل خطير: هل تعتقدون أن هؤلاء سيصمتون للأبد؟ فلا يغرنكم صبرهم وصمتهم، فلربما وصلوا إلى عنق الزجاجة وأنتم عنهم غافلون.
ورسالة الموجوعين الذين يحملون حقائبهم ويقفون عند بوابة الخروج من على خشبة المسرح ويقولون بأنهم لا نعرف أين اللقيا وتحت أي سماء؟ هم أنفسهم من يرسلون شفرات النص لكل مسؤول في غزة والضفة الغربية وغيرها من الأراضي الفلسطينية بأن يلتفت جيداً لمعاناة هؤلاء، لأن القادم ذو ملامح ضبابية قاتمة.