قبائل كل المبدعين
سليمان عبد الله حمد
الشاعر والمسرحي والناقد الفنان الكبير هاشم صديق صاحب ملحمة اكتوبر وصاحب روائع الفن المسرحي (نبتة حبيبتي) وفي الدراما التلفزيونية قدم أقوى المسلسلات «طائر الشفق الغريب» وفي الاذاعة قدم «الحراز والمطر» وقطر الهم» و«وجه الضحك المحظور» للمسرح. كما نشر العديد من دواوين الشعر خلال الاعوام الاخيرة.
كما يسهم مساهمات فعالة في الصحافة حيث نشرت قصائده الكبيرة خلال الاعوام الأخيرة و لا تزال تنشر وفي النقد قدم الكثير منه ما كان ينشره في صحيفة الايام والصحافة وغيرها وما كان يقدمه في برنامجه التلفزيوني الشهير (دراما 90)
أنت غائب عن أجهزة الاعلام.. تلفزيون واذاعة ومسرحاً منذ فترة بعيدة؟
لا يمكن ان تنفصل الاجابة عن الارضيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما يعيق المبدع او ما يوفر له سبل الاستمرارية والانتاج لا يمكن ان ينفصل عن هذه الارضيات ، فأود أن أسوق ملخصاً واضحاً وصريحاً عله يفيد في اجابتي على هذا المحور، وهذه الاجابة هي أيضاً أجابة ومرافعة تتصل بكيانات وقبائل ابداعية وسياسية . عندما أتت الانفاذ ظل كثير من المبدعين المؤثرين القابضين على جمر القضية والذين يعبرون عن هموم الناس بصورة او بأخرى ظلوا بعيدين عن هذه الاجهزة باعتبار أنها أجهزة السلطة التي يختلفون معها ، ولكنني أعتقد أنني الوحيد من الذين يصنفون ضمن المبدعين الذين سلف ذكرهم ذهبت واقتحمت تلك الاجهزة باعتبار أنها أجهزة الشعب السوداني وليست أجهزة السلطة. وقد أنجزت الكثير في تلك الفترة في النصف الاول من العقد الأخير من القرن الماضي وأود أن اذكر الناس بما قدمته وانجزته في تلك الفترة (دراما 90 )- البرنامج الذي توقف منذ أثني عشر عاماً ومازال في اذهان الناس ، وقدمت أيضاً مسلسل (طائر الشفق الغريب) الذي أثار ما أثار من نقاش وجدل في الصحف وفي الشارع على السواء وذهبت إلى الاذاعة وقدمت انضج مسلسلاتي الاذاعية (الخروج عن النهر) ثم اتبعته بمسلسل آخر هو (حزن الحقائب والرصيف) ثم أعرجت على المسرح وقدمت مسرحيتي الثالثة وهي (وجه الضحك المحظور). ضاقت صدور ومواعين الساسة داخل هذه الاجهزة وخارجها بابداع هاشم صديق، تارة بسبب مضامين تلك الاعمال التي تتصل بقضايا الناس الملحة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتارة بسبب اسقاطات فكرية مرضية ليست لها علاقة بتلك الاعمال. وسبب آخر اعتقد هو الارجح والأهم ، هو ضيق البعض بالمنافسة الابداعية الشريفة وإقصاؤه الآخر بورقة السياسة ، التي يختفي وراءها عنصر الحسد والغيرة. كل الناس يذكرون تلك المعارك الشرسة التي دارت في الصحف وتأزم منها هاشم صديق كثيراً وما صاحب أقصاءه من توقف لبرنامج (دراما 90) وخروجه من التلفزيون لفترة تزيد على الاثني عشر عاماً. وقفه هنا.. اذاً يا صديقي .. هاشم صديق فعل ما لم يفعل المبدعون الآخرون، لم يجلس في بيته في انتظار انتفاضة او بيان اول أو ثورة شعبية وانما ذهب وأقتحم تلك الاجهزة وثابر وأنجز وذلك هو تاريخ مرئي ومسموع ومكتوب ومحفوظ في أضابير تلك الأجهزة.
الآن أتاحت مساحة أوسع. هاشم عندما كانت الأجهزة تضيق بالمبدع.. هاشم جازف باختراقه الاجهزة بحسبانها أجهزة الامة.. المفارقة أن هاشم الآن يبتعد؟
اولاً دعني أيضاً كمدخل للاجابة على هذا السؤال أذكرك بما حدث بعد خروجي من تلك الاجهزة. لم أقم بالتراجع والاستسلام والانكفاء على ذاتي ولا الايمان بمنهج الذين ابتعدوا عن تلك الاجهزة وعابوا على دخولها.. بل شمتوا بما حدث لي بعد دخولها.
اذكرك وهذا أيضاً تاريخ موجود ومكتوب بأنني سعيت لمنابر أخرى وثابرت في طلب الحرية وقاتلت من أجلها . لاحظ الامسيات الشعرية اذ أنني لم أعتذر عن المشاركة في ليلة شعرية واحدة بدعوى (التأمين) بل أنني كنت اعتلي تلك المنابر وأقرأ كل الشعر الذي يعتبر ممنوعاً او يؤدي للمساءلة والاعتقال هذا جانب بالاضافة لأنني سعيت للتعاون مع الصحف ، ظلال والمجالس والصحافة والمشاهد والحرية ، وظللت في كل مرة اكتب وأثابر وأثير جدلاً حول القضايا الجوهرية التي تتعلق بهموم الناس. وأنا أسألك وأسأل الذين يجلسون تحت الاشجار في انتظار ان يغير نهر الحرية مجراه ليغشى أفواههم.. أسألك وأسألهم كم من القصائد الطويلة السياسية نشرت لهم واحتفى بها الشعب السوداني وحركت فيه مكامن العزة والصمود والوعي. وكم من المرات اقتلعت الاجهزة المختصة قصائدهم ومنعتها في عصر ما يسمى بالرقابة القبلية. وكم من المرات تم استدعاؤهم الى مكاتب الاجهزة المختصة للتحقيق معهم حول قصائد أو مواقف؟ لاحظ ان المدعو هاشم صديق دخل الى مكاتب الجهات المختصة ثلاث مرات للتحقيق معه حول ثلاث قصائد والمرة الرابعة فتح بلاغ ضده من جهاز الأمن الوطني لدى نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة بخصوص قصيدة (صالح عام) . الأمر الآخر هو ان الكثير من المبدعين يظنون ان النضال هو ضد الانظمة الشمولية فقط ولكنني بالاضافة الى ذلك ناضلت من أجل حقوق القبائل المهمشة مثل قبيلة الشعراء وفجرت تلك الثورة التي لم أحصل منها أنا شخصياً سوى الرشاش، ولكنها انسحبت خيراً على قبائل كل المبدعين. وبصراحة كان من الممكن ان أتجنب كل هذا الاذى وأجلس في منزلي آمناً مطمئناً في انتظار فجر حرية لم أسهم أنا في صنعه ، ولكن يا أخي هذه نقطة مهمة وحجر آخر أحمله كما تعودت لألقيه في بركة ساكنة وأرجو ان يكون حديثي هذا موجهاً لكل الذين يفهمون ان النضال هو انتظار وترفع عن طلوع المنابر ومحاكمات ثرثرية ونميمة تقدح في شأن الآخرين. الحجر الذي ألقيه في البركة الساكنة للأسف هو ان المبدع الذي يفتح صدره وعقله وفعله لما يهم وطنه والناس ويجادل ويثابر وكلما أوصدوا نافذة في وجهه سعى لفتح نافذة أخرى ، هو ويا للأسف (مثير للجدل) و (بتاع مشاكل).. النضال هو ان تصمت وتنزوي وتصنفك وتتوجك قبيلتك السياسية او الابداعية بالألقاب الطنانة الرنانة. أنا حزين لأنني في كل مرة اتصدى فيها لهم تتناوشني السهام وانصاف وارباع الصحافيين والنقاد لايتركون لي صفحة انام عليها ولا شرفاً اعتز به. والآخرون حتى الذين يحسبونني عليهم ينظرون ويتفرجون على تلك المجازر الصحفية البشعة وكأنني أقاتل من أجل نفسي وليس من أجل وطن وأمه ، وكأنني لا أنتمي لأية قبيلة من قبائل الشعر والدراما والنقد.
تلك إشارات ولمحات شاردة هنا وهناك علها تعبر عن شخصية المبدع الفنان والشاعر والمسرحي أستاذ الاجيال هاشم صديق ذاك المبدع المسكون بحب الوطن فى زمان ضاعت فيه تلك السمة الغالية وهي إن يصول ويجول الفنان بحب هذا الوطن الجميل ، أمثله نادرة من ذاك الابداع الذى يتوهج حبا وشوقا للوطن الغالي ...