مشكلة الموسيقى مع الفتاوى المعاصرة
مشكلة الموسيقى مع الفتاوى المعاصرة
نجدت لاطة
كثير من الفقهاء المعاصرين يعتبرون أنفسهم مواكبين العصر ومستجداته، وأنا هنا سأضرب مثالاً واحداً لعدم صحة ذلك، أي أن كثيراً من فقهائنا اليوم لا يواكبون عصرهم ولا مستجداته، وبالتالي فإن فتاويهم لا تصلح لعصرنا، بل إن تلك الفتاوى تنفّر الناس من التديّن وتعيق العمل الدعوي.
المثال هو عن الموسيقى وكيف تعامل معها فقهاء اليوم، وأنا هنا أستثني الشيخ يوسف القرضاوي وأمثاله، فهؤلاء يجيزون سماع الموسيقى.
معظم فقهاء اليوم يقولون عن الموسيقى أن فيها قولين، أي أنه مختلف فيها، القول الأول هو الحرمة، والثاني الإباحة، ويضيفون على ذلك أن الأحوط هو الخروج من المختلف فيه، فالأحوط عندهم هو عدم سماع الموسيقى.
فهل هذه الفتوى تواكب العصر؟ وهل نعتبر مَن يصدر مثل هذه الفتوى مواكباً للعصر؟ الأسطر الآتية ستجيب على ذلك.
كما نعلم أن معظم المنشدين استخدم الموسيقى، فحتى المنشد يحيى حوى ـ الذي كان متحفظاً جداً منها ـ استخدمها مؤخراً، فلم يبقَ إلا منشدان فقط لم يستخدما الموسيقى، هما المنشد أبو الجود والمنشد محمد العزاوي. وبالنسبة إلى المنشد أبي راتب فقد استخدم الموسيقى في أناشيده الأخيرة الخاصة بالثورة السورية، وأنا سمعت منه ذلك بنفسي.
فإذا كان معظم المنشدين استخدم الموسيقى فكيف سنطبق الفتوى التي تقول بأن الأحوط عدم سماع الموسيقى؟ هل سنقتصر على سماع أناشيد المنشدَين أبي الجود ومحمد العزاوي؟ هل أصبح الأحوط في ديننا أن لا نسمع لسامي يوسف وأبي راتب وموسى مصطفى وعبد القادر قوزع وأحمد الهاجري ويحيى حوى وعبد الفتاح عوينات وأيمن رمضان وبقية المنشدين المعروفين؟ أليست تلك الفتوى تضييقاً على الناس؟
ولكن يبقى السؤال: إذا كانت تلك الفتوى تضييقاً على الناس فكيف سيفتي الفقيه؟ وكيف سيكون شكل الفتوى؟ فأقول: إن الأصل عند الفقيه إذا أراد أن يفتي أن ينظر في حال العصر ومستجداته، وينظر فيما يتعلق بالشيء الذي يفتي فيه، هل صدر شيء جديد بخصوصه.
ففيما يخص الموسيقى فالفقيه ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار المستجدات الآتية الخاصة بالموسيقى:
أولاً ـ ثبت للأطباء في الغرب أن سماع الموسيقى يخفف التوتر عند الإنسان، ومن ثم يساعده على الشفاء من بعض الأمراض النفسية. لذا نجد أن الموسيقى دخلت ضمن العلاج عند الأطباء، وهناك أقسام خاصة في المستشفيات خاصة بالعلاج بالموسيقى.
ثانياً ـ ثبت عند الباحثين في الغرب المتخصصين بتربية الغنم والأبقار أن تلك الحيوانات ترتاح عند سماعها للموسيقى، فتسترخي عضلاتها مما يسهل حلبها.
ثالثاً ـ ثبت أيضاً أن الأزهار والنباتات إذا وُضعت بجانبها آلات تسجيل تصدر الموسيقى تتفتح وتنمو بشكل أفضل من النباتات التي لم توضع بجانبها الموسيقى.
فهل يُعقل أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتأثر سلباً بالموسيقى؟ هل يُعقل أن تتشنّج عضلات الإنسان إذا سمع الموسيقى؟ ألم يقل الشاعر قديماً:
حامل الهوى تَعِبُ ... يسـتخفّه الطـربُ
فالطرب ـ الذي منه الموسيقى ـ يخفف عن الإنسان شيئاً من همومه وآلامه.
فهذه المعلومات الجديدة عن الموسيقى ينبغي للفقيه أن يطلع عليها قبل أن يُصدر فتوى التحريم.
وهذه المعلومات الجديدة ينبغي أن نضعها في كفة الإباحة على حساب الحرمة، لأن النصوص الشرعية الخاصة بالموسيقى ليست قطعية الدلالة، وهي أيضاً غير صريحة، بالإضافة إلى اختلاف الفقهاء في فهمها. فإذا جاء شيء من العلم يفيد بفائدة الموسيقى للإنسان فينبغي علينا أن نأخذ بفتوى الإباحة وليس الحرمة.
والفقهاء ـ كما نعلم ـ يقدمون النقل على العقل، ولكن إذا كان النقل غير واضح وغير صريح فما المانع من نأخذ بالعقل، والعلم ناتج عن العقل.
وشيء آخر .. الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الشعر أنه كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح. فيمكن أن نقيس الموسيقى على الشعر، فالموسيقى أصوات، حسنها حسن، وقبيحها قبيح. أقصد أنه ما دام لا يوجد نص شرعي صحيح وصريح بخصوص الموسيقى فيمكن أن نقيس الموسيقى على غيرها.
ثم ما المانع من أن يعيد الفقيه النظر في ماهية الموسيقى؟ فسوف يتبيّن له أن الموسيقى غير المنتظمة أصوات مجردة ليس فيها ضرّ أو أذى أو شر، أي أنها في حد ذاتها لا تشكل أي ضرر للإنسان، ولا تساعده على فعل الشر ولا على فعل الخير، فإذا نقر الإنسان نقرة على البيانو وخرجت الموسيقى فهذه الموسيقى لا توحي له بشيء، ولا تعينه على فعل شيء، لأنها موسيقى مجردة وغير منتظمة. ولكن تشكيل الموسيقى في ألحان معينة يوحي بشيء، فهناك موسيقى حزينة، تجعل السامع ينتابه الحزن، وهناك موسيقى راقصة، تدفع السامع إلى الرقص، وهناك موسيقى تجعل السامع يضحك، وهناك موسيقى خاصة بالجنس وتوضع في الكباريهات والليالي الحمراء، وهي موسيقى أشبه بالآهات والتأوهات، وهناك موسيقى خاصة بالحروب، أي الموسيقى العسكرية، هذه الموسيقى تشحذ من همم الجنود للحرب والقتال. وهناك موسيقى دينية ترافق الابتهالات والطقوس الدينية. وهناك أنواع كثيرة للموسيقى.
فنوع الموسيقى هو الذي يحدد الحرمة أو الإباحة فيها، فهل يُعقل أن تكون الموسيقى العسكرية كالموسيقى التي توضع في الكباريهات والليالي الحمراء من حيث الحرمة والإباحة؟
وفيما يخص الغناء والإنشاد، فدور الموسيقى فيهما كدور الموسيقى التصويرية في الأفلام، أي أن الموسيقى تضفي على الكلمات أجواءً تناسب معاني تلك الكلمات، فيزداد تأثير معاني الكلمات في نفوس السامعين.
وبالتالي فإن الكلمات المرافقة للموسيقى هي التي تحدد ماهية هذه الموسيقى، هل هي مباحة أم محرمة؟
وهناك سؤال لا بدّ للفقيه أن يسأل به نفسه، ما هو الضرر الذي يأتينا من سماع الموسيقى التي ترافق أناشيد سامي يوسف وبقية المنشدين؟ هل هذه الموسيقى تزيدنا غواية ومجوناً؟ أم أنها تعمّق فينا معاني تلك الأناشيد؟ أليست موسيقى الأناشيد تختلف تماماً عن الموسيقى المصاحبة لأغاني المطربين والمطربات والتي تزيد السامع لها غواية ومجوناً؟
وكما نعلم أن المحرّمات الموجودة في ديننا لها ضرر واضح أثبته العلم والعقل وواقع الناس في القديم والحديث، فضرر الخمر والزنا وأكل لحم الخنزير وغيرها من المحرمات واضح لا يحتاج إلى تبيان. بل وحتى لبس الرجل للذهب والحرير أثبت العلم الحديث أنهما يسببان ضرراً عضوياً لجسم الرجل بعكس جسم المرأة الذي لا يتأثر بهما على الإطلاق. ناهيك عن أن لبس الرجل للذهب والحرير لا يليق ـ معنوياً ـ به، لأنهما يجعلانه متخنثاً.
أرجو من فقهائنا أن يُعيدوا النظر في فتوى تحريم الموسيقى، لأن هذه الفتوى بعيدة عن عصرنا.