الفنان المبدع " الخير عثمان "

الفنان المبدع " الخير عثمان "

فنان من الزمن الجميل

توثيقي للفن السوداني

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

يعود بنا التاريخ القهقري الي سنة 1946م في مدينة ودمدني وكان القوم جلوساً في أمسية نسيم هادئ في جنينة (كعكاتي) بود مدني التي صار أسمها فيما بعد (حديقة البلدية) وسميت أخيراً (مسك الختام) وكانت مدرسة حنتوب وليدة عمرها سنة واحدة في سنة 1945م ترقد علي الشاطئ الشرقي من مدينة ود مدني كالهمزة علي السطر وكانت الثريات تضئ من علي البعد في حنتوب ،وكان الرفاص (اللونش) يمخر عباب النيل الأزرق جيئة وذهاباً يحمل الضيوف في تلك الليلة المباركة الي حنتوب تمهيداً لإستقبال صباح اليوم التالي إحتفالاً بالمدرسة في عيد ميلادها الأول ، ذلك العيد الذي شرفه حاكم عام السودان (السير هدلستون) وعِلية القوم من إنجليز وسودانين ومصريين في مهرجان إختال فيه المشرق وهذت فيه الدنيا أعطافها. وكان الجالسون في جنينة (كعكاتي) وأنظارهم متجهة نحو حنتوب في تلك الأمسية الهادئة الهانئة يتحدثون عن العيد الأول لهذه المدرسة التي هي أمل ومصدر إشعاع الثقافة والحضارة والحرية في ذلك البلد المستعمر. فجاشت في عقل ووجدان ود القرشي تلك المشاعر الوطنية العاطفية النبيلة فابتعد عن الجالسين (بكرسيه) آخذاً معه قلماً وورقة متجهاً بنظره نحو الشاطئ الشرقي حيث ترقد جزيرة حنتوب ، وهي بحق جزيرة يحتضنها النيل الأزرق ونهر الرهد. لم يمكث شاعرنا طويلاً ثم عاد إلى سامره حاملاً معه أغنية (حنتوب الجميلة) كلمات ولحناً فوقعها .وكان الفنان (الخير عثمان) جالساً بين الأخلاء والأصدقاء فشدا بها بعد أن حفظ الكلمات واللحن من ود القرشي وذهب بها في اليوم التالي إلى حنتوب وغناها ، فأطربت الجميع وحلقت بهم في أجواء بعيدة جعلت السامعين وعلى رأسهم مستر (براون) ناظر مدرسة حنتوب الجميلة يهتزون طرباً وينتشون فرحاً وكانت ليلةً من ذات الليالي ليلة قدسية طاهرة جميلة أدخلت أغنية (حنتوب الجميلة) التاريخ فدخلت مدرسة حنتوب التاريخ نفسه بأعظم رسالة تحارب الجهالة وتنشر المعارف لتنال البلاد منالها.

والشئ بالشئ يذكر حينما نتحدث عن أغنية (حنتوب الجميلة). فإن هذه الجميلة لم يغن بمحاسنها ومفاتنها ود القرشي وحده ، وإنما خيال الشعر الذي يرتاد الثريا قد هبط وحيه في ذلك اليوم المشهود على الشاعر السوداني الفحل الأستاذ/ (أحمد محمد صالح) الذي كان (نائباً) لناظر مدرسة حنتوب مستر (براون) ، وأنشأ قصيدة عن حنتوب ألقاها في ذلك اليوم أمام ذلك الحشد البهيج إستهلها بقوله :

زانها في المساء صمت رهيب ..... الخ القصيدة.

وفي السنوات التي تلت عام 1946م أصبح تقليداً أن يتبارى الشعراء في كل عام تأليفاً للقصيد الذي تجود به قرائحهم عن حنتوب وداخل مدرسة حنتوب وكانت حنتوب التي صارت(سوق عكاظ أو المربد). فهاهو عالم اللغة العربية الشاعر المبدع الأستاذ(أحمد أبو بكر المصري) ينشد وايضاً بقية الأساتذة الشعراء (الهادي أحمد يوسف) و (الهادي آدم) و بدوي طيب الأسماء على سبيل المثال يلقون نفائس الدرر وأمهات بيوت الشعر تغنياً بمحاسن ومفاتن وجمال ذلك المعهد الذي أنبت الشباب المثقف العامل لوطنه دون ثواب أو منٍ أو أذى. وإن أنسى فإنني لا أنسى قصيدة رائعة الجرس والإيقاع صاغها أستاذنا الكبير (أحمد عبد الله ساـمي) بعنوان (حنتوب وحي الشاعر) قال فيها :

يا مواكب الآباء طاب غراسكم

فأهنأ بأبناء البلاد وفاخر

لقد كانت (حنتوب الجميلة) مفخرة السودان وعز الوطن ما كان ينبغي أن تندثر وتذهب مع الريح هي وشقيقتاها (وادي سيدنا وخور طقت) منارات العلم والمعرفة والفنون والعلوم والآداب.

والفنان المبدع " الخير عثمان " يتميز عن سواه من المطربين بأنه يغني بإحساس صادق ..
مبتعدا عن النمطية و لا يتصنع في أدائه .. و كذلك صوته قوي لا توجد فيه حشرجة و هو يغني بشكل غير مفتعل ..

ويندمج بأجواء الأغنيـة كأنه يغني لنفســه .. و لذلك اقبل الناس على سماع صوته الجميل .. كما كانت له قدرة كبيرة على الحفظ .. والكثيرين ممن لحنوا له أكدوا ذلك الأمر  وليس أدل على ذلك من أغنيه " حنتوب الجميلة " ..

التي ألفها الأستاذ " محمد عوض الكريم القرشي " بليل .. وقدمها مُلحنة "للخير عثمان"

الذي كان يجلس إلى جانبه .. وفي اليوم التالي مباشرة كان الخير يغنيها في حفل المدرسة مع فرقته الموسيقية ..

وعلاقة الفنان " الخير عثمان " بحنتوب ( إدارة وطلاباً ) .. كانت علاقة ممُيزة .. حيث كان يخصص لهم يوم الخميس من كل أسبوع لإحياء حفلات غنائية خاصة بمسرح المدرسة للترويح والترفيه عن الطلاب .. وكانت حفلاته تلك تجد تجاوباً كبيراً من الطلاب .. بل ويشارك فيها بالحضور أساتذة المدرسة يتقدمهم مدير المدرسة في ذلك الوقت" مستر براون " .. وكان يبدأ الحفل دائما بأغنية حنتوب الجميلة .. فيهتز لها الطلاب طرباً طربا.

تصور كيف كان حال الفن والفنانين وجمهور الذواقة في ذاك الزمن الجميل من المشاركة والمجاملة وتقديم الوصلات الغنائية وربما الحفلات العامة أو الخاصة أو القومية أو الوطنية بدون أجر مادي ... ليت كل فنانين السودان يتسمون بهذه الروح الجميلة التي تسمو فوق الماديات ... ليت وليت !!!

هذه وقفات نستشف فيها كثير من اللوحات الفنية التي تسمو بالفن الجميل في زمن قله فيه الإبداع والمبدعين ... إلى أن يحين اللقاء مع مبدع وزمن لكم مودتي احبتي ...