ويا لذاك الزمان ... المبدع حسين بازرعة
فنون: مبدع من الزمن الجميل
توثيقي للفن السوداني
سليمان عبد الله حمد
كان حسين بازرعه يناجينا في الأمسيات حين يضج الكورنيش برواده قبالة البحر، وأمامنا ينابيع الضوء وشلالات النور، والبهارج على أسطح الأمواج المصطفقة وهي تتهادى نحو الشط وتتكسر قريبا منا على الحواف الصخرية. الناس جلوس يتحلقون دوائر ويسمرون على طول الساحل بأسرهم وأطفالهم ، تغازلهم الثريات الملونه على ساريات السفن الراسية أو تتحدث معهم من بعيد بلغة لا يفهمها إلا عشاق البحر وأهله ،وهي تومض حينا وتنطفئ حينا. كان بازرعه يناجينا: يا ربا البحر أشهدي/ هاهنا كان موعدي/ وهنا كان مقعدي /أنا والنجم والمسا. وكنا نعرف "مقعد بازرعه"من بين تلك الأرائك الاسمنتية ومساندها الخشبية المنتشرة على طول الكورنيش ، ونحرص أن تكون جلستنا قريبا من ذلك المقعد الملهم ليستعيد كل حبيب منا "قصته" حين يبدأ شادينا بأروع ما كتب هذا الشاعر المرهف الانسان: أنا والنجم والمسا ضمنا الوجد والحنين/ حف في كأسنا الرجا وبكت فرحة السنين. وحين يبلغ شادينا وهو يردد كلمات بازرعه وبأروع ما صنع الفنان المبدع عثمان حسين من ألحان :آه يا شاطئ الغد/أين في الليل مقعدي؟ أين بالله موعدي؟ يكون الشجن الطاغي قد استبد بالعاشقين من الرفاق وهم ينظرون لمقعد بازرعه قريبا منا.ويمضي المغني الذي ما كانت أوتار العود طيعة لأنامله المبدعة إلا حين يغني كلمات بازرعه، ويسترسل في بقية عقد قصائده النضيد بتلك الألحان الرائعة للفنان عثمان حسين أو لغيره من أفذاذ المبدعين :القبلة السكرى،الوكر المهجور، لا وحبك،لا تسلني،إن تريدي يا ليالي تسعدينا ، شجن ، بعد الصبر وغيرها من تلك الأغنيات المبهجة.
ليس من تجربة أصدق وأدل على ما يقال أن المبدعين يشكلون وجدان الناس ، من تلك التجربة الشعرية التي عايشناها ونحن نتأمل كلمات بازرعه يشدو بها عثمان حسين وغيره من كبار الفنانين . ففي كل واحدة من قصائده الرائعة، كلمات مفعمة بالشجن مغموسة في المشاعر الصادقة التي ميزت هذا الشاعر النبيل الانسان، ومعان راقية مليئة بقيم الحب والخير والجمال.كان كل واحد منا يتمثل في روائع بازرعة تجربته الشخصية في زمان العفة والحب العذري وقليل منا من سلم من أشجان الخصام والهجر ، وبازرعة يؤكد: اي واحد ليه في تاريخ و ماضي وليه ذكري حب قديمة/ وانت عارف لما اخترتك حبيبي كان في قلبي جرح بينزف بالهزيمة. وربما تسائلنا كما تساءل بازرعه: هل تصدق تنـتهي قصتنا يا أجمل حقيقة ؟ نحن عشناها بدموعنا وبالضنى في كل دقيقة ؟ ياحبيبي لم تزل قصتنا قصة حب أقوى من الحقيقة!وليس أجمل من أن نعايش تجربة الشاعر ونحن بقرب مقعده الذي كان يجلس عليه وعند شط المالح الذي كان يرتاده كل مساء ليلهمه أحلى الكلمات والقصائد.
لم نكن ونحن في حضرة بازرعه وكل من تغنوا له بالروائع ، ننسى أن نختم جلساتنا البهيجة برائعة علي محمود طه المهندس: أين من عينى هاتيك المجالي / يا عروس البحر يا حلم الخيال.ولست أدري فقد كانت قناعتنا أن المهندس إنما أنشأ ذلك النص لنا ولمدينتنا عروس المالح وليس لفينيسيا.وكانت قناعتنا كذلك أن الفنان المبدع الصيدح عبد الكريم الكابلي إنما أختار أن يتغنى بأبيات المهندس لأنه إبن مدينتنا ، ترعرع فيها واحتضنته معاهدها صبيا ، وجاس في سوحها وجلس نفس مجالسنا قبالة البحر يستلهمه روائع الألحان. لم يكن بازرعه يومذاك حاضرا في مدينتنا ولكنه ما نسينا، فقد كانت رسائله تترى بالحب والشوق لنا ولوطن أحب ترابه وشطآنه:كل طائر مرتحل عبر البحر قاصد الأهل حملتو أشواقي الدفيقة/ ليك ياحبيبي للوطن لي ترابه لي شطآنه للدار الوريقة.
ويا لذاك الزمان ، فقد ارتحل بازرعه وافتقده العاشقون سنوات طويلة قبل أن يعود لهم وللوطن ولمقعده الأثير يستنطق البحر ويستلهمه أحلى القصائد ، وأرتحلنا نحن بعده وتفرقت بنا السبل في مهمه الحياة ودروبها.