الدراما التاريخية تغتال الفن
أنس الرشيد
هل الدراما التاريخية استعراض لرأي وتصارع فكري من أجل البقاء أم تحليل ونقد فكري من أجل الإنسانية؟
إن مجرد التفكير في واقع الدراما التاريخية يعطي إجابة على السؤال تبيّن مدى اغتيال التاريخ المذهبي للصناعة الدرامية ...
إن دراما التلفزيون تختلف إذا كان الحدث عملا تاريخيا ؛ لأن العمل سيعتمد أولا :على إخبار عن حدثٍ ماضٍ , وثانيا : مواءمة الحاضر الحداثي المعاكس لكل ما هو قديم .. وثالثا : الفنية الكتابية في صناعة الشخصيات الحقيقية , لكن بتفاصيل متخيلة , إلا أنها واقعية أي تتشابه مع تلك التي حدثت بالفعل في تلك الحقبة.
عندما كان مصدر تلقي التاريخ كتابيا .. كان هناك طبقة تكتب التاريخ وتدلس فيه بأهواء مختلفة , ثم تستقبله فئة أخرى فتفكك النص -على حسب توجهها – وتصنع منه دلالات تؤيد منهجها , وتفسره على ما تريد وفق الصراعات الحامية التي دارت بين مختلف الفرق الإسلامية .. فتسلم به الطبقة العامة .
إلا أنه بعد عصر تنوع مصادر التلقي , وقفت ثقافة الصورة كأبلغ قوة وأعظم انتشارا .. وجعلت من كل مشاهد يستقبل الحدث التاريخي بنفسه..
لكن هل استطاع مؤلف وقارئ التاريخ المصور أن يتخلصا من أعباء استعراض الرأي الواحد؟ والاقتناع بما يقوله له المؤلـَف الأصلي (الكتاب)؟
قد يسهل عليّ أن أقول : لم يستطع ذلك ؛ لأن المؤلف لم يكن هدفه خلْقُ نص من بين سطور التاريخ , بل كان يستعرض لتاريخ مكتوب في المرجع الأساس! على حسب توجهه !! ؛ ولأن القارئ لم يتخلص من دواخل متراكمة في نفسه ومن ثم يستعد بالعُدة النقدية لاستقبال الحدث .. بل كان هدفه الأول أخذ المعلومة فهو–الآن- يتلقاها .
إن الأحداث التاريخية تكتسب قوة معنوية إذا تعاقب عليها الزمان , ويصبح الفرد في موقف الخائف من نقدها !! فهل الكاتب والمتابع جاهزان لأن يريا التاريخ على صورته الحقيقية ؟!
كذلك أقول : ليسا جاهزين ؛ لأننا أسسنا شخصيات أسطورية لا تاريخية ,
فهل نحن مستعدون لأن ننظر إلى الحسن والحسين ومعاوية التاريخيين لا الأسطوريين فضلا عن أبي بكر الصديق أو عمر بن الخطاب التاريخيين لا الأسطوريين أو عثمان أو علي بن أبي طالب ؟
كيف سمحتُ لنفسي أن أتساءل هذا السؤال ونحن لا نزال نتصارع هل نخرجهم في الشاشة أم لا !!!
ولو تأملنا في مسلسل (القعقاع بن عمرو) كيف شُوهت المشاهد ببرود عجيب وضعف في الإخراج ! واندماج الممثلين ؛ بسبب عدم إظهار الخلفاء الأربعة , وخصوصا في الثلث الأول من المسلسل ؛ إذ كان الأمر يدور حولهم .
فوقف المخرج عاجزا عن الإبداع !. حتى ظهر الخلفاء وكأنهم زهاد فوق جبل ويظهر صوتهم له رنين عالٍ يوهمك وكأنه من حديث الجن !! وليسوا هم من يوجه ويستشير ويدخل في معمعة الصراع والحروب .
كما أننا قد نستبشر بورشة نص كما في (القعقاع)لكن حينما يخضعُ النصُ للجنة ذات رؤية واحدة , فإننا لم نبرح مكاننا!!. بل إن هذه اللجان هي التي تضع مناهج الكتب كل على حسب مذهبه !!
والخوف من النقد له وجه آخر وهو تكريس النظرة السائدة ولو كانت خاطئة خوفا من الزوبعة التي سيكون من جرائها , كإذا كان الحدث ضمن أيديولوجية فكرية مسيطرة كتصارع المعتزلة والحنابلة في قضية خلق القرآن ..وغيرها!!
من يملك فتح الملفات على حقيقتها التاريخية ؟!
ولهذا أقول : إن الدراما – بصفتها مرحلة ثقافية للاستقبال والتأويل شملت الذهنية البشرية جمعاء - وسيلة عظيمة لمواجهة العقلية الجماعية فتزعزع شيئا فشيئا بعضَ الحقائق المطلقة غير القابلة للنقاش ..
ولكن قبل هذا أين الكاتب المتبحر المتسامح بمفهومه الحضاري الحديث ؟ وأقول متسامحا حداثيا ؛لأن الإنسان يميل إلى فرض عقيدته أو دينه على الآخرين عندما يكون في موقع قوة !!
وقبل التسامح لابد من الشجاعة - التي لبسها فلاسفة التنوير الأوروبي فواجهوا المسيحية الأصولية وفرقوا بين المسيحية التاريخية والمسيحية الأسطورية – لكي ينزع الهالة الأسطورية والتصورات المثالية عن فترات التاريخ الإسلامي والمراحل العصيبة كمرحلة خلافة عثمان بن عفان أو المرحلة التي تصارع فيها بعض الصحابة بتجرد تام .
لكن ما نراه أن الدراما التاريخية تصور الحقب الإسلامية على شكل تاريخٍ أسطوري !! فكانت الدراما نسخا مكررة لما لوثته الأيدلوجيا في صفحات الكتب المتداولة ... وما نراه من بعض الكتّاب من محاولات إسقاطية إنما هو دليل صارخ على الخوف في الدخول إلى عالم المواجهة والحرب مع الأساطير التاريخية .
كما أن المسألة لها أضرارها الفنية أولا : من خلال زوال إنسانية الشخصيات ومهما بلغ الكاتب من رقي في الصناعة فهو محكوم بأطر تقتل الإبداع الفني على مستوى الشخصيات والزمان والمكان والحدث التاريخي بشكله العام والخاص , وثانيا : من جراء الكتابات المشوبة بعبودية الخوف ذلك أنها تتجاوزها إلى الخطأ في صناعة النص التاريخي في منظاره العام فالتاريخ المراد كتابته واحد , فالذي يحصل الآن هو انتقاءات عشوائية لشخصيات تاريخية مما يجعل الكاتب والمشاهد في حرج , فالكاتب يصنع مشاهد مبتورة لأجل أن يمهد لحياة البطل ! ومسلسل القعقاع بن عمرو التميمي مثالا على هذا السلـْق الدرامي .. على ضخامة العمل إعدادا وتجهيزا لما يتطلبه العمل ولكن السبب لم يرتبط مباشرة بالإعداد العام إنما في إعداد النص وصياغته خاصة!!
فبعض مشاهد الحلقة الأولى (للحياة وطبيعتها في بني تميم) !!
ثم الانتقال بكذا مشهد (للحياة وطبيعتها في يثرب)
ثم مشهدين أو ثلاثة لقلْب حياة القعقاع رأسا على عقب فيدخل في الإسلام ويكون متشوقا لأن يترك أهله وعشيرته ليعيش في يثرب ... !!!
ثم مشاهد قليلة للحظات وفاة النبي محمد ومن ثم استلام أبي بكر للخلافة ... وبين هذه المشاهد مشاهد مسلوقة لإيضاح حياة مدعي النبوة (مسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطلحة ..)
وكل هذا في ضمن الحياة (الأسطورية) للقعقاع (انظر حربه مع جيش مدعي النبوة طلحة الأسدي على سبيل المثال ) وإذا كان هذا القعقاع فكيف بمن هو أعلى منه رتبة !!
وأما المُشاهِد فلا تؤسس عنده هذه التجزئة إلا معلومات متفرقة فلن يستطيع أن يَنْظر إلى السياق العام الذي تتكون من خلاله النظرة النقدية ؛
لأن العرض الدرامي بشكله الحالي يأخذ جزءا ويترك جزءا قاضيا على الوحدة التاريخية , نازعا الحدث عن سياقه مما يشوش النظرة الجمالية والمتعة في المتابعة قبل النظرة النقدية التأملية .
فإن لم يكن ثمة فضاء حر لصناعة الشخصيات التاريخية فلا طائل من ورائها إلا تكريس النظرة المذهبية الضيقة التي عُبِئَتْ بها القراطيس في كل طائفة !!
وختاما :
وقفت على جثمان الشهيدة (الدراما ) ناحتا سؤالي على قبرها : أليس في صنّاع الدراما رجل يلبس لبوس فلاسفة التنوير ويثور على التاريخ ؟