رؤى (ماريا مارينا) وذاكرة المكان
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
مرت فترة طويلة لم يتح لي فيها حضور معرض فني في رام الله، فبعض المعارض صادف أن كان وجودي خارج الوطن، ومعارض أخرى لم أعلم بها، حتى كان ذلك الصباح حين دق هاتفي الجوال من رقم لا أعرفه، وإذا بصوت شابة جميل ورقيق يهمس لي: أنا صابرين من قاعة جاليري الحلاج، يسرني أن أدعوك لحضور معرض للفنانة الإسبانية (ماريا خيسوس مارينا) مساء الخميس السادس عشر من الشهر الحالي كانون أول لاختتام العام 2010، فشكرتها على دعوتها ولطفها، وأكدت حضوري، فقد رأيت بالدعوة فرصة لحضور معرض لفنانة غير عربية وفي مدينتي رام الله، وخصوصاً أن زيارتي الأخيرة لعمّان في الفترة الأخيرة لم تخل من حضور معارض جميلة لأكثر من فنان.
وصلت القاعة مبكراً، وبدأت التجوال بين اللوحات؛ شعرت أني أعيش ذاكرة للمكان، ذاكرة رسمت بألوان جميلة، فأخذت اللوحات وقتاً طويلاً معي في التجوال، لأعود بعد يومين مرة أخرى وأجول في جمال اللون والصورة، شاعراً بالأسف أن اليومين السابقين عطلة أسبوعية والقاعة فيها مغلقة، وحقيقة وجدت في المعرض ما يشدني، ففي اللوحات المختلفة لا نجد مجرد انطباع عن المكان، لكننا نجد روحاً تجول وتحلق، تعطي للمكان الفرصة ليتحدث بنفسه ويروي الحكاية، ورغم البساطة التي تعطيها اللوحات للمشاهد في المرحلة الأولى، إلا أن التدقيق في اللوحات، يحملنا إلى التحليق في فضاء المكان والبحث عن مدلولات اللون، التدقيق في رمزية بعض اللوحات، والبحث في الروح التي سكبت مشاعرها لوحات وألوان.
يمكن تقسيم المعرض إلى خمسة أقسام، وكل قسم فيها يستحق الكثير من الاهتمام، وسأتناول هذه الأقسام ابتداء من اللوحة الأولى التي تحمل روح المعرض، حتى اللوحة الأخيرة التي ترف أرواحنا فيها..
القسم الأول: نجد فيه ثلاث لوحات كانت منها لوحتان تحملان التراث الفني الإسباني ورقصة الفلامنكو، في اللوحة الأولى وهي أول لوحة على جدار صالة العرض كانت تصور (سارة) راقصة الفلامنكو وهي ترفع يديها أعلى من الكتف قليلاً وكأنهما جناحان لطير متوثب في لحظة استعداد للتحليق، بعيون مغمضة توحي بالحدة، وملامح وجه صارمة، ولون يتشارك بلمعان اللون الأسود مع الرداء الذي ترتديه، وفي أسفل اللوحة تظهر دوامة لونية أشبه ما تكون بعاصفة هوجاء قوية، هو القسم الأسفل من الرداء بلون أحمر قوي موشح باللون الأسود، وخلف ظهر الراقصة ينطلق من قلب العاصفة إعصار يمازج الأحمر باللون البني وتوشيحات باللون الأسود، بحيث تحملنا اللوحة في تحليق يؤكد على حجم ذوبان الراقصة بفنها وحجم انتمائها لتراثها وهويتها، بينما في لوحة ثانية لم يظهر إلا القسم العلوي من ظهر الراقصة، وهي تقف وكأنها في حالة تحفز ويدها اليمنى ممتدة أمام وجهها، وقد اعتمدت الفنانة في هذه اللوحة دقة التفاصيل والتعبير باللون، فنجد أصابع الراقصة ممتدة بانشداد، وشعرها ملتف خلف رأسها بشكل فني متميز، ومن خلال اللون برز أن النصف الأيمن من الظهر، كان اللون فيه أكثر نصوعاً بالاحمرار المتمازج بالبياض، بينما في الجانب الأيسر كان اللون أكثر دكنة، بحيث ظهرت اللوحة في منطقة الظهر وكأنها تعبر عن جسدين مختلفين في جسد واحد، ولعل هذه إشارة إلى مدى الانصهار في روح جسد الراقصة بين ما قبل الانصهار وخلاله، كون هذه الرقصة مرتبطة بالتراث الشعبي الإسباني، ويعطي إشارة واضحة لحجم الارتباط بين الفنانة ماريا ووطنها، بينما اللوحة الثالثة في هذه المجموعة كانت لجدار حجري معلق عليه منتجات تراثية، وهذه اللوحة واضح أنها انطباع من مكان ما في إسبانيا، وبين القطع المعلقة تظهر قطعة فرحة باللون والنقوش عليها، واللوحة مع اللوحتين السابقتين تظهران مدى التزام الفنانة بتراث بلادها.
القسم الثاني: مكون من ست لوحات عن الطبيعة، وفي هذه اللوحات كانت المدرسة الانطباعية في الفن تترك تأثيرها الكبير على روح الفنانة، ويلاحظ في اللوحات الست أن البحر كانت له مساحة كبيرة من اللوحات، وقد اعتمدت الفنانة إظهار التلال خلف البحر والسماء فوقها، وكانت الألوان فيها زاهية مفرحة، والنظر إليها وتأملها مريحاً للنفس بشكل كبير، وفي لوحتها أوبرا على البحر اعتمدت توسيع المساحة المعطاة للشاطئ بمساحة أكبر من مساحة البحر، واعتمدت تدرجات اللون الأصفر للشاطئ، وظهر مباشرة خلفها على التلال مشهد أقواس منحوتة في الصخر، فظهر المشهد في اللوحة وكأن الشاطئ ساحة عرض فنية، والتلال مدرجات كالتي اعتدناها في آثار المدرجات الرومانية، واعتماد الفنانة أربعة ألوان رئيسة في اللوحة أعطاها بعداً جمالياً خاصاً، فبينما كان البحر بلون أزرق قاتم، كان اللون الأصفر يعطي ابتهاجاً للروح، وكانت التلال باللون البني الفاتح اللون، وتعلو المشهد زرقة السماء متمازجة باللون الأبيض للغيوم، ما يجعل المشاهد يشعر بالفرح والراحة، بينما لجأت إلى تلوين التلال في لوحة تصور تلال البحر الميت على الجانب الأردني بلون يغلب عليه اللون الأحمر ومازجتها بتوشيحات مختلفة بين الأصفر والأزرق وتدرجات اللون البني، بينما كان البحر أكثر قتامة عما هو لون البحر الميت فعلياً ما يجعل الروح المشاهدة تشعر ببعض الضيق، لكن الفنانة تخفف هذا الشعور باللون الزاهي للسماء، بينما كانت اللوحات الأربع الأخرى، تنقل صورة من فرح سادت روح الفنانة وعكستها على روح المشاهد من خلال اللوحات، وهذا يظهر جلياً بطائرات ورقية وكأنها مشاهد لرايات تحلق مقابل التلال وفوق البحر، ولوحة أخرى ركزت على مساحة كبيرة من البحر منعكسة عليها أشعة الشمس، وبشكل عام كان هذا القسم من اللوحات مثيراً للفرح باعثاً على التأمل.
القسم الثالث: وهو مكون من لوحتين فقط، لوحة تمثل مدينة البتراء الأثرية في الأردن، برز فيها عمق التاريخ وجمالية اللون، وخرجت فيها الفنانة عن المألوف برسم مشهد الخزنة، إلى مشهد لنحت في الصخر وبروز التلال جرداء في المشهد، مع الأفق والسماء من بين التلال والخيالة يتجهون في الوادي، وكأنها تقول: هنا التاريخ وفي الأفق المستقبل، بينما اللوحة الثانية كانت لمدينة يافا الفلسطينية المحتلة، وقد ظهرت مئذنة مسجد حسن بك التاريخي في زاوية الصورة على شاطئ البحر محاطة بالأشجار الخضراء، وفي مواجهة التاريخ الذي مثله المسجد، ظهرت (تل الربيع) والتي أسماها الاحتلال (تل أبيب)، وليست أكثر من أبنية شاهقة وحديثة، ولكنها بدون أية روح وبدون أية أشجار، وكأن باللوحة تهمس للموج الغاضب: التزوير لا يمكن أن يحجب الحقيقة أبداً.
القسم الرابع: وهذا القسم ركز على القدس القديمة فقط، وقد تكون من ثماني لوحات جميلة ومتميزة، كان لمسجد قبة الصخرة فيها أربع لوحات بأشكال وزوايا مختلفة، ولعل اللوحة التي تظهر القبة مشرقة في وسط اللوحة، بينما تتدلى الأسلاك الشائكة على جانبي اللوحة، هي الأكثر تميزاً بين اللوحات الثلاث، فهي قد روت الحكاية بدون كلام، وصورت صمود القدس رغم الاحتلال، والنور القادم في يمين اللوحة رغم العتمة في يسارها، بينما لجأت إلى أسلوب آخر في لوحة ثانية وهو رسم المشهد على لوحتين منفصلتين، وحين يتم لصقهما بجوار بعضهما يصبحان لوحة متكاملة، وهناك لوحة بانوراما تصور القدس ليلاً مضاءة بالأنوار وأيضاً بالأسلوب السابق نفسه، اللوحة مقسومة لقسمين يمثلان لوحة متكاملة بجوار بعضهما البعض، وهذه اللوحة أخذت المنظور من زاوية تطل على المدينة المقدسة من جهة الأقصى الشريف، وكانت متميزة بالجمال والألوان المستخدمة، والمشاهد التي حفلت بها اللوحة، فساحات الأقصى كانت متميزة بالإنارة، والشجرة الباسقة المطلة من البعيد على القدس منحت اللوحة انطباعاً جمالياً خاصاً، إضافة إلى أن السماء لم تكن معتمة رغم المشهد الليلي، بل كانت وكأنها في وقت الغروب، واللون الأصفر المتمازج مع الأبيض يعطي روح الفرح والأمل في اللوحة، ويضفي على المدينة التي تحلم بالحرية جمال الحلم القادم، وحظيت كنيسة القيامة بثلاث لوحات جميلة، ولعل الرمزية في اللوحة التي مثلت مئذنة مسجد عمر مع قبة الكنيسة، أعطت إشارة واضحة إلى التمازج العربي في المدينة عبر التاريخ بغض النظر عن الديانة، بينما اللوحة التي رسمت كنيسة القيامة من خلال البوابة كانت لوحة متميزة بجمالها وتفاصيلها الدقيقة، بينما حظيت جدران الأزقة بلوحة واحدة متميزة بالجمالية وخصوصاً بمن يستندون إلى الجدران ويرتاحون، فكانت رمزاً أن مدينة السلام هي الواحة للراحة والأمان لم يرتادها أو يسكنها.
وأسلوب الرسم بوساطة تقسيم اللوحة إلى قسمين منفصلين، يمثلان لوحة واحدة حين وضعهما بجوار بعضهما البعض، لفت نظري باستخدامه ثلاث مرات، في لوحة لمسجد الصخرة المشرفة، وفي مشهد بانوراما للقدس، وفي مشهد لجدار من جدران المدينة المقدسة، فهل كانت المسألة أسلوباً فنياً مجرداً، أم كانت أسلوباً يطرح فكرة تقسيم القدس؟
القسم الخامس: كان عبارة عن بوابة خشبية رسم على الواجهة الأولى منها بوابة خشبية مغلقة بالعوارض الخشبية، وتنمو الزهور البيضاء الربيعية في أسفلها، بينما في الواجهة الأخرى رسمت الجدار الذي بناه الاحتلال لتقسيم الوطن، ومرسوم عليه الشعارات الوطنية التي يكتبها أبناء شعبنا في عملية رفض للجدار، ورفض للاحتلال، وفي أسفل الجدار لفت نظري عبارة: الانتفاضة الثالثة، فهل رأت الفنانة أثناء تواجدها في وطننا المحتل أن الجدار ممثلاً للاحتلال هو الذي يحجب العبور من بوابة الزهور؟ بوابة الفرح والوطن الحر، فرأت في الجدار شرارة ستشعل الانتفاضة الثالثة؟!
من زاوية فنية محايدة رأيت في المعرض حكاية تروى، تبدأ بالتراث الإسباني في أول لوحة معروضة، وتنتهي بالسؤال في لوحة بانوراما القدس وهي آخر لوحة على جدران قاعة العرض، وشعرت أن الفنانة تمكنت من أن تشدني للغوص في جمالية معرضها، وأن كان هذا لا ينفي أن أشير إلى أن بعض اللوحات شهدت بعضاً من الخلل في استخدام اللون، فقد ظهرت بعض من بقع القماش شبه عارية من اللون في بعض الزوايا والجوانب، بينما كان المفترض أن يكون هناك انتباه وكرم أكثر في استخدام اللون، بينما في بعض الزوايا الأخرى، كانت هناك بعض البثور اللونية ناتجة عن انسكاب زائد في اللون، كما أن الفنانة رغم اهتمامها بمبدأ الثنائية في لوحاتها، إلا أنها وقعت في أخطاء تتعلق بعملية إسقاط الظلال في بعض زوايا اللوحات، ومن الملاحظ في المعرض أن أسماء اللوحات والمعلومات عنها كانت باللغة الإسبانية، وهذا يمنع معرفة أية إشارة لمن لا يجيد اللغة الإسبانية قليلة الاستخدام في وطننا، ومع هذا أعتقد أن هذه التجربة كانت ناجحة بالتعبير عما جال في روح الفنانة أثناء تجوالها في منطقتنا، وأظهرت بوضوح مدى شفافية وحساسية الروح التي تمتلكها الفنانة الاسبانية ماريا.