جوقة الكروان الجليلية تعتلي تلّ صدرِ العروس

آمال عوّاد رضوان

[email protected]

بتاريخ 26-4-2011 قامت جوقة الكروان العبلينيّة الجليليّة بزيارةِ هضبة الجولان، تلبيةً لدعوةِ المنتدى الثقافيّ في مسعدة الجولان، بلدنا العربيّ الأبيّ العامر ببني معروف، والذي يُحاولُ بكلّ إمكانيّاتِهِ وإمكاناتِهِ المحدودة أن يُضفي ألوانًا زاهيةً على حياتِهِ المُسوّرةِ بالمُفارقاتِ والموتِ والسّجن، وأن يُعزّزَ ويُرسّخَ حضورَهُ السّوريّ مِن خلال تجديدِ المسيرة، وحثّ الخطى على دروبِ تحريرِ الجولان ، وتحقيقِ وثيقتِهم الوطنيّة التي أكّدوا مِن خلالِها الانتماءَ الأبديَّ للوطن الأمّ سوري، ليظلّ الجولان قائمَ الوجودِ بأهلِهِ، منتصبَ الكرامةِ بعروبتِهِ، صلبًا كعودِ زيتون لا ينحني للرّيح، وكغصن سنديانةٍ لا تلويها أعاصيرُ هزيمة!

كانت زيارةً دافئةً كغيمةٍ بنفسجيّةٍ مضت قلقةً، تتوق إلى مزيدٍ مِن لحيظاتٍ رخوةٍ تطولُ وتتمطّى في عمرِ لقاءٍ حميميّ، ولعلّها كانت زيارةً محرجةً كدمعةِ عاشقٍ يتلهّفُ لأحضان غائبٍ قذفتهُ أحشاءُ غربتِهِ، واذا بأصابعِ غيمةٍ سوداءَ تنثرُ زهرَ مجدلَ شمس أكاليلَ غارٍ فوقَ لحدٍ طريِّ الثّرى، لتُظلّلَ روحَ الأبيّ الشهيد المِقدام والمُجاهد ابن المنتدى الثقافيّ "سيطان الولي"، الذي وافته المنيّة صباحَ يوم الأحد الموافق 24 نيسان، إثر مرض عضالٍ ألمّ بهِ في السّجن، جرّاءَ سنواتِ اعتقالٍ امتدّت قرابة 23 سنة في عتمةِ زنازين الاحتلال، والتي قدّمَ فيها فوْحَ زهرةَ عمرِهِ قربانَ حُرّيّةٍ وكرامة!

على خارطةِ الوجع الواحد تدفّقَ نبعُ اللّقاءِ بمعالمَ محبّةٍ خضراءَ لا تعرفُ جفافًا أو يبابًا، بل دروبًا حضاريّةً تكرجُ على حدودِها وأقطابِها الكلمةُ والنّغمةُ في تواصلٍ أخويٍّ ثقافيٍّ تربويّ فنيّ!

وفي أحضان هضبةِ الجولان تَنقّلْنا نُسارعُ الخطى، نحجلُ هنا وهناك بينَ أربع شقيقاتٍ شامخاتٍ تمَطّيْنَ بكبرياءِ الواثق، فها هي مسعدة بتماثيلِها المزروعةِ في شوارعِها بكلّ رموزِها وإيحاءاتِها، لها حكاياتُ وطنٍ كالصّوّان ثابتٌ لا تُفتّتُهُ أعتى الظروف، وبالمحاذاةِ مُدرّجٌ كبيرٌ أقامَهُ أهالي البلدةِ ليخدمَ أفراحَ وأتراحَ ومهرجاناتِ وفعاليّاتِ الجولان، ونمضي إلى برّاداتِ التفاح، حيث العمّالُ والعاملاتُ يُصنّفونَ ويُعرّبونَ التفاحَ بإلوانِهِ وحجومِهِ للتّسويق، وتتشدّقُ الأفواهُ والانوفُ بعطرِ تفاحٍ شهيّ، لهُ مذاقٌ خاصٌّ في أحضانِ بساتينِهِ!

ومِن مسعدة ننتقلُ إلى بقعاثا الشّقيقة الكبرى الفارعة الممشوقة على ارتفاع 1085 فوقَ سطح البحر، حيثُ تبعدُ 11 كم عن مدينة القنيطرة، وقد أُحرِقَ وجهُها في عهدِ العثمانيّين، ومن ثمّ احتلّتها إسرائيل كبقيّةِ قرى الجولان عام 1967، لكنّها ما يئستْ، بل ظلّت تُنجبُ وتَلدُ ليبلغَ  عددُ أبنائِها أكثر مِن 5000 نسمة، وأبَتْ عشراتُ الينابيع والعيون الدّامعةِ بحُرقةٍ إلاّ أن تتفجّرَ حبًّا وخيرًا وعطاءً، لتُجمّلَها وتمحوَ كلّ آثارِ الحروقِ والنّدوب، ولا زالت عيوننا المشدوهة بالجمال تعلو وتعلو إلى تلّ صدْرِ العروس، حيث تتسربلُ فستانَها الحُرجيّ مِن غاباتٍ شمّاءَ كثيفةٍ بديعةٍ شاسعة، مُطعّمةٍ بأشجارِ السّنديان والمَلّول والعبهر والبلّوط والزّعرور، والمُعطّرِ بنسماتٍ باردةٍ شفّافة! 

وما أن حطّتْ أنظارُنا على ثديَيْها المُزهريْن بالكرزِ والتّفّاح، حتى اعتلتْ خطانا قمّتَها الشّامخة، لنتربّعَ ولهفاتُنا على عرشِ ثديِها المُطلِّ على بلدةِ الغجرِ والحدود اللّبنانيّة، والمُشرفةِ بطلّتِها البهيّةِ على شقيقاتِها القرى السّوريّة، تلوّحُ لهنّ بغيومِ الوفاءِ والحنين، كأنّما بنظراتِها الحانيةِ الخاشعةِ تُرضعُ الطبيعةَ مِن عليائِها فنّ الصّمودِ والإباء!

ونمضي معًا بشغفٍ في مسارِ مشْيٍ على الأقدام، نمتطي صهوةَ الهِممِ صوْبَ وادي السّعّار، أحد أهمّ الأوديةِ الّتي تُغذّي الجولان وترسمُ معالمَهُ، والذي يبدأ تشكّلُهُ مِن سفوح جبل الشيخ ويلتقي مع نهر بانياس، ليرفدَهُ نهرُ الأردن، وتصبُّ فيهِ مياهُ الأمطار والثلوج الذائبة والينابيع، ويُستفادُ مِن مياهِهِ في ريّ البساتين المحيطة به!

وهل يَسعُنا إلاّ أن ننحني إجلالاً لعظمة الخالق ولجَمالِهِ؟!

ننحني لهليونِهِ السّامقِ المرحّب بنا لنقطفهُ، وننحني لأدغالِهِ الشامخةِ ولأشجارِهِ وبلاّنِهِ ونباتاتِهِ المُتجذّرةِ على السّفوح متشابكةَ الأفنان والجذور، كأنّما تتحدّى وتستقي الحياة مِن وادٍ يجري بحنانِهِ، وشلاّلاتُهُ الهادرةُ الصّاخبةتتوعّدُ المغتصبَ، ونمضي ونمضي.. وصدى صيحاتِنا ومواويلِنا وضحكاتِنا تملأ الوادي، ويملؤُنا وادي السّعّار فرحًا ونشوة!

قال بحُرقةٍ جارحة: نقف الآن على سفح تلّةٍ تطلّ على القرى السوريّة والأحراج، وعلى بُعدِ عشراتِ أمتارٍ تروْن بركةَ مياهٍ كبيرة تُجمَعُ فيها مياهُ الشّتاء، والتي كانت مصدرًا رئيسيًّا للمزارعين المعروفيّين، وقد احتلتها شركة موكوروت الاسرائيليّة وأقامت عليها المضخّات، وصارَ المزارعون يشترونَ المياهَ بثلاثة أضعافِ السّعر عن المستوطنين اليهود، وقد هبط عُمقُها مِن ثمانية أمتارٍ قبلَ سنتيْن، بسبب ضخّ المياهِ منها إلى مناطقَ يهوديّةٍ بعيدة، ممّا أدّى إلى موتِ عشراتِ الأطنان مِن الأسماك، والتي استقطبتْ طيورًا غريبة اجتاحت المنطقة للمَرّةِ الأولى، لالتهام الأسماكِ الميّتة!

ترى بأمّ عينِكَ الدّامعة، وتستمعُ بوجعٍ إلى كلّ هذا، والخيالُ يشطحُ في ملكوتِهِ يَرسمُ طيورًا وأسماكًا وتجفيفًا وقهرًا وموتًا  بطيئًا لا يَرضى بالموت، لأنّ أهلنا بني معروف يُدركون أحابيلَ الاحتلال وممارساتِ تطفيشِهِ وتهجيرِهِ، ولا يرضخونَ للاستسلام، بل يُرسّخون أشواكَ صبرِهم في الحجارةِ والأرضِ والهواءِ والماءِ والفنّ والعِلم، ويُشهرونَ سلاحَ عِلمِهم ووعيِهم وصمودِهم ضدّ الاحتلال!

مواقفُ عزّةٍ تشحنُكَ بإحساسٍ عارمٍ مِنَ الفخرِ والوقارِ، ويفتحُ منتزهٌ مضيافٌ راقٍ أحضانَهُ الباسمة للنّسيم والنّار والماءِ والشّمس، والموائدُ تتحلّق بعشوائيّةِ الطبيعةِ حولَ نافورةٍ ترفعُ سواعدَها تُسبّحُ الجّمالَ وتؤهّلُ بضيوفِها، وتغدو جوقةُ الكروان والمنتدى الثقافي خليّة نحلٍ تتضاحكُ وتتراكضُ بينَ كوانين الشّواء، وهبّاتُ الهواءِ تُراقصُنا وتغافلُنا، فتقلبُ بعضَ الصّحون والكاسات الطافحةِ بالعصائر، ونهبُّ واقفين ضاحكين، كأنّما الهواءُ يُمازحُنا ويُحيّينا بيديهِ وقبلاتِهِ الخاطفة، ليُضفي أجواءً طريفةً مِن دعابةٍ رقيقةٍ وفكاهةٍ لذيذةٍ نتفكّهُ بها.

تتبادلُنا الكلماتُ المُرحّبةِ والصّيحاتُ المُؤهّلة، وتمتلئ البطونُ بما طابَ، وتنطلق الحناجرُ زاجلةً مُعندِلةً بما لذّ لها مِن غناءٍ جبليّ وفولكلوريّ ومواويل وميجانا ولا تفتر، والبسماتُ تتمايلُ معَ الرّيح الشّمالي ولا تبرُد!