فيروز وألحان الصباح
من اليوميات
فراس حج محمد /فلسطين
عيد ميلاد السيدة فيروز التي ولدت عام 1935م في إحدى قرى لبنان من عائلة فقيرة، وبدأت الغناء طفلة صغيرة، وها هي اليوم تعبق في نهاراتنا ببوح شفاف راق، يحرك الروح والقلب والخاطر، وما بين الولادة والعالمية مسيرة طويلة من التعب والحب والجمال والموسيقى والشعر والروح، ولن يؤثر تجاهل موقع البحث (Google) لهذه المناسبة، وإن أشعرني بالامتعاض والأسف، إذ لم يحتفِ بفيروز وميلادها كعادته بالاحتفاء بمشاهير العالم والمناسبات العالمية!
منذ زمن ليس بالقريب كتبتُ نصا طويلا (نشر حينها في صحيفة الحوار الجزائرية) بعنوان "مقاطع في عناق فيروز الصباحي"، وكانت حاضرة معي في كتاب "من طقوس القهوة المرة" وربما حضرت في إحدى الليالي مع كتاب "رسائل إلى شهرزاد" عام 2013م، ولا أذكر أنني في كتابي "أميرة الوجد" عام 2010، ونشر عام 2014، قد ذكرت فيروز، ولا أعلم لماذا؟ لكنها لم تصاحبني ولم يصاحبني صوتها عندما كتبت قصائد ذلك الديوان، أسأل الآن نفسي لماذا؟ ولا أجد جواباً.
تشبثت بالكثير من عبق الصباح بفيروز عندما كنت أكتب "همسة حب صباحية"، فحضرت في نصوص كثيرة صباحية شعرية ونثرية، وهنا أذكر بقصيدة "تبلج الأيمان" القصيدة التي نشرت في جريدة الرسالة الفلسطينية، وأنهيت القصيدة، التي كانت عن ساحرة الجمال لبنان، بهذا البيت:
فيروز تشدو واللحون مسافة ومحبة من سرها ألوانُ
صحبت فيروز طويلا، مع أنني لا أذكر تماما متى كانت أول مرة استمعت فيها لفيروز سماعا قصديا من أجل أن أستمتع بما في الصوت واللحن والكلمة من عذوبة وسلاسة وجمال ورونق، ليتشكل عندي في خاطري هذا الرأي: "فيروز حالة إبداع لن تتكرر"، أتذكر الآن أمي عندما كانت تدندن ببعض مقاطع لفيروز وأنا صغير، فما زال ذلك الصوت عالقا في الذاكرة وهي ترنم "هيك مشق الزعرورة يا أمي هيك" و"ع الروزنا ع الروزنا كل الهنا فيها"، فكنت أعيش إحساسا غريبا، أو كأنها كانت تغرس فيّ إحساسها لأكون مثلها.
لم أكن لأسأل أمي وقتها عن هذه الأغاني، وعندما كبرت وسمعت واستمتعت تذكرت ما كانت تشدو به أمي صاحبة الصوت الشجي الذي كان يفيض حزنا دفينا يخرج حارا بزفرة جارحة لم أدر إلى الآن أسبابها!!
أحاول الآن أن أستذكر ما قد تشدو به السيدة فيروز يوميا في أي أثير وفضاءٍ: "عودك رنان"، "أنا لحبيبي وحبيبي إلي"، "يا مختار المخاتير"، "سألتك حبيبي"، "وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان"، "اذكريني"، "يا ليل الصب"، والموشحات والقصائد والمسرحيات، ولكنني أحببت سماع فيروز في أغنيتين: "وقف يا أسمر في إلك عندي كلام"، وأغنية "يا جبل اللي بعيد"، أغنيتين تبعثان الفكر من رقدته والذكر من غفلته والحب من غفوته والشوق من سهوته، على ما يرتبط بهما من ذكريات وأمنيات، وعلى ما تحملان من شجن وحزن شفيف ناعم.
ربما كانت أول امرأة في حياتي سمراء، ذكريات موغلة في القدم تعود لأيام المدرسة، فكلما نادت فيروز أسمرها تذكرت سمرائي، أو سمراواتي، إذ إنهن كثيرات أولئك اللواتي ممرن في حياتي وكنّ كتربة هذه الأرض ويحملن عبق زعترها وجمال صباحها في ظلال تتجاوز وتتحاور مع سمرة تضرب في عمق الروح والأرض والجغرافيا والتاريخ!
ستظلّ فيروز أغنية الصباح حالة إنسانية دائمة الهطول في نهارات بني الإنسان مثقفين وكتابا وموظفين وطلابا وعشاقا وصوفيين ودينيين ولا دينيين، ستظل فيروز تشدو مع الشروق تغازل أرواحنا المجهدة، فتستند الحياة صلبة، وتشد عزيمتها، فلا يتوقف نبضها عميقا حساسا مجبولا بأناتنا المتعبة التي تحن إلى راحتها بين يدي حبيبة نستحضرها في الصوت واللحن ومكامن البوح من صباحات فيروز، لنرى كل شيء كأنه هنا، وهنا لا محالة، تعانق شيئا من ذكريات وأمنيات يتقاذفها الوقت وفنجان القهوة الدافئ!!
فكل عام وأنت بخير فيروزةَ الصباح وأيقونة الفن الساحر الخالد، خلود الحب والعشق والهوى، وإبداع الإنسانية الذي لا يخفت له نور، ولا يمكنه أن يموت، بل سيكبر فينا الحنين يا فيروز ليظل شابا مهما تقدم فينا العمر، فلتغني لنا كل صباح وليعمرْ بك المكان والزمان وتمتلئ بك الروح العاشقة!