وقفة مراجعة مع المنشدين الجدد
تعقيب على مقال
نجدت لاطة
ذكرتُ فيما مضى أني سأكتب مقالاً تحت عنوان ( اتقوا الله أيها المنشدون الجدد ) ولكن مقال الكاتبة آلاء شحادة تطرق للكثير مما في ذهني من أفكار عن مقالي ، ولكن بقيت بقية من تلك الأفكار ، ولا بأس أن أذكرها ما دامت الكاتبة فتحت الموضوع .
من خلال معايشتي ومتابعتي للمنشدين الرواد القدامى كنت أشعر دائماً أنهم دعاة إلى الله أولاً ، ومنشدون ثانياً . وكنت ألمس منهم تديناً والتزاماً ، فأشعر أنهم أتقياء وصالحون ومخلصون . لذا كنا حين نسمع أناشيدهم نشعر أنها نابعة من تلك القلوب المؤمنة التقية ، فنتأثر بها كثيراً ونزداد إيماناً وتقوى ، وترتفع فينا النواحي الروحية ، ونزداد حماساً لهذا الدين . ولا بأس أن أذكر بعض الذكريات مع بعض المنشدين الرواد كي لا يكون كلامي كلاماً في الهواء دون أي دليل عنه .
حين كنت في مدينة الشارقة في دولة الإمارات ، وكنت أسكن بالقرب من بيت المنشد الكبير أبي دجانة ، كنت أسهر معه ست أو سبع ساعات يومياً ونحن منفردان لا ثالث معنا ، نتحدث في قضايا النشيد .. فمن خلال صحبتي معه كنت ألاحظ أنه لا ينقطع عن صلاة الفجر في المسجد ، بالإضافة إلى بقية الصلوات ، مع أني بقيت معه على هذه الحال شهرين تقريباً .
وكان المنشد أبو دجانة شديد التواضع ، ولا يحب الظهور ، ولا يحب البهرجة الإعلامية التي يقتل المنشدون الجدد أنفسهم عليها ، مع أن أبا دجانة كان دخله متوسطاً ، ويعيش عيشة الكفاف ، وكنت أقول له : يا أخي تعال وأصدر أشرطة جديدة فيكون عندك مصدر آخر للمال فيتحسن وضعك المادي . فكان يأبى ذلك ، ويرفض أن يأخذ فلساً واحداً من إنشاده ، وكان يقول : لم ننشد في السابق إلا لله ، ونسأل الله تعالى أن يتقبل أعمالنا .
وفيما يخص المنشد أبا الجود ، فقد أجريت معه مؤخراً مقابلة نشرتها مجلة الوعي الإسلامي في شهر ذي القعدة الحالي ، فقد كان همه الأول في المقابلة أن يؤكد على الروح الدعوية للنشيد الإسلامي ، ونصح المنشدين الجدد أن يحافظوا على هذه الروح الدعوية ، لأن هدف النشيد ـ برأيه ـ دعوة من خلال الإنشاد ، وليس هدفه الإنشاد بذاته .
وكذلك لاحظنا حرص المنشد أبي الجود في مسابقة الشارقة على أن يتنبّه هؤلاء المتسابقون على ضرورة الحفاظ على الروح الدعوية للنشيد الإسلامي .
وفيا يخص المنشد أبا مازن ، فهناك مقابلة صحفية فريدة له أجراها معه الدكتور أكرم رضا .. فالذي يقرأ المقابلة يشعر أنه أمام منشد كله تقوى وصلاح وإخلاص ، وأنه لا يهمّه من هذه الدنيا شيء . بالإضافة إلى أن أشرطته التسعة التي أصدرها كانت توحي للكل أن وراءها قلباً صافياً وتقياً . لذا كان المستمع يتأثر بها تأثراً كبيراً ويندمج مع معانيها اندماجاً روحياً عالياً .
وفيما يخص المنشد أبا راتب ، فقد عشت معه ـ أيام العزوبية ـ في بيت واحد سنين طويلة ، وأعرف مدى خدمته للدعوة ، وهو أيضاً له تاريخ طويل في حرصه الكبير على نشر النشيد الإسلامي في سائر البلاد العربية ، مما يؤكد على مدى إخلاصه وتفانيه في العمل الدعوي من خلال الإنشاد . والجميع يعلم تماماً كم كان المنشد أبو راتب يأخذ بأيدي المنشد الصاعدين من هذا البلد وذاك ، لذا نجد له أشرطة كثيرة شارك فيها مع منشدين من مختلف البلاد ، وكان هدف هذا الاشتراك هو الأخذ بأيدي هؤلاء المنشدين الصاعدين .
أما شيخ المنشدين محمد أمين الترمذي ، فحدّث عنه ولا حرج ، فبيته مفتوح دائماً للمنشدين الناشئين ، يعلمهم ويعطيه دورات ودروساً في فن الإنشاد ، وهذه الدروس والدورات مجانية لا يبتغي منها إلا وجه الله تعالى .
وفيما يخص أعضاء فرق المنشدين الرواد فهم كذلك أناس أتقياء ومخلصون ودعاة ، فمثلاً الأستاذ سـليم عبد القادر هو أحد أعضاء فرقة أبي الجود ، وهو كما يعلم الجميع شاعر الأناشيد الإسلامية الأول ، وله ـ في أيام الشباب ـ تاريخ في العمل الدعوي والمسجدي في تنشئة الأجيال .
وبالنسبة إلى أعضاء فرقة المنشد أبي دجانة فأنا أعرفهم فرداً فرداً ، وقد كانوا دعاة أولاً ، وساهموا مساهمة فعالة في العمل الدعوي وتنشئة الأجيال في المساجد .. وقد استشهد معظمهم في سبيل الله .
أما إذا جئنا إلى أعضاء الفرق الإنشادية التابعة للمنشدين الجدد فأرجو أن يعذرني القارئ إن ذكرت له أن معظهم لا يعرف من العمل الدعوي شيئاً ، ولم يساهم فيه أصلاً ، أنا أتكلم هنا بشكل عام ، وحين كنت ألتقي بالكثيرين منهم وراء الكواليس كنت أشعر أنهم مطبلين ومزمّرين أكثر منهم دعاةً أو منشدين إسلاميين ، فكان يعتريني شيء من الخوف على مستقبل النشيد الإسلامي ، فكنت ـ حقيقةً ـ أخشى على النشيد أن يضيّعه المنشدون الجدد وأعضاء فرقهم .
فالمنشدون الرواد القدامى انطلقوا من مفهوم واحد للنشيد وهو أن هذا النشيد هو جهاد بالكلمة واللحن ، لذا نجدهم يتفانون فيه كما يتفانى المجاهد في سبيل الله في المعارك ، فتفاعل الجمهور مع أناشيدهم بشكل كبير . وحين نستمع الآن لأناشيدهم القديمة نقول مع الكاتبة آلاء شحادة : رحم الله أيام زمان فقد كان النشيد أجمل وأكثر روحانية .
وأنا أضرب مثالاً للفرق الكبير بين النشيد القديم والنشيد الحالي ، والمثال هو أنشودة ( إلهنا ما أعدلك ) للمنشد أبي الجود . فهذه الأنشودة هي ابتهال من العبد لربه في تلبيته في الحج ، ولحن الأنشودة رائع وجميل جداً ويناسب الابتهالات تماماً ، وحين ينشدها أبو الجود نشعر كأنها سيمفونية دينية لا تقلّ عن سيمفونيات بتهوفن . وإن اختيار أبي الجود للقصيدة دليل على ثقافته الشعرية العالية التي تستطيع أن تتذوق الشعر الجميل ، لأن هذه القصيدة هي أجميل ابتهال في تاريخ الشعر العربي كله ، ولا يوجد ابتهال في الشعر أجمل منها . وقد يستغرب القارئ إن ذكرت له أن هذه القصيدة هي لأفجر شاعر عربي عرفته اللغة العربية وهو الشاعر العباسي أبو نواس صاحب الصيت المشـهور في المجون والخمر ، ولكن أبا نواس كانت تعتريه حالات روحية عالية يتوب فيها ، فكان يكتب قصائد دينية في غاية الجمال في تلك اللحظات الروحية .
أما المنشدون الجدد فابتهالاتهم ليست ابتهالات من العبد لربه ، وإنما هي أناشـيد للطرب ، وقد قلت مرةً لأحد المنشـدين الجدد بعد أن أنشد أنشودة ابتهالية : كدتُ أن أرقص مع لحن هذه الأنشودة . لأن اللحن كان خاصاً بأناشيد الأعراس وليس بأناشيد الابتهالات ، لأن اللحن الخاص بالابتهالات ينبغي أن يكون مناجاةً وتضرعاً وتذللاً بين يدي الله تعالى ، أي أن الأنشودة فاشلة تماماً ولا تؤدي الغرض منها .
فالذي نريده من المنشدين الجدد أن يتقوا الله في النشيد الإسلامي ، كي يكون هذا النشيد إسلامياً حقيقة ، روحاً ومضموناً وألفاظاً .
ونحن نشكر للمنشدين الجدد جهدهم الكبير في توسيع دائرة النشيد ، ولكن الحفاظ على روح النشيد الإسلامي ينبغي أن يكون في الدرجة الأولى ، لأن روح النشيد الإسلامي هي الفارق الجوهري بين النشيد والغناء . وكلما كان المنشدون أتقياء ومخلصين كلما وصل النشيد إلى الناس بصورة أفضل ، ولأن الله تعالى سيبارك النشيد الذي ينطلق من حنجرة مخلصة له .