فرقة الموسيقى العربية والفنان مصطفى دحلة
في أمسية تراثية طربية
القدود الحلبية تصدح في سماء الناصرة
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
مرة
اخرى يثبت الفنان القدير مصطفى دحلة ان الغناء ليس مجرد حفلة طرب، انما حالة
روحانية ترقى بالانسان الى اعلى درجات السمو الجمالي والاخلاقي.
مصطفى ليس مجرد صوت اخر، ضمن مئات الاصوات الغنائية، انما هو صوت مميز، قدير، مثقف
موسيقيا،
متمكن من صوته ومسيطر على مخارج الكلمات... وهو الى جانب ذلك، لم يذهب نحو السهل
والخفيف في الغناء، بل اختار زبدة الغناء العربي، الفن الذي انبثق منه سيد درويش
وسائر عمالقة الطرب في المشرق العربي ومغربه.
هذا
هو الانطباع الذي خرجت منه، من الامسية الطربية المميزة التي قدمتها فرقة الموسيقى
العربية في الناصرة، مع الفنان المتألق دائما مصطفى دحلة في قاعة محمود درويش
الثقافية في الناصرة.
ويبدو واضحا ان الدمج بين فرقة موسيقية، اضحت منارة فنية موسيقية، تضم عازفين
مهنيين، وبعضهم من ابرز الملحنين ومعلمي الموسيقى، وصوت طربي أصيل بمستوى مصطفى
دحلة ، اعطى للامسية ، وللعزف والاداء المتألق ، رونقا فنيا متكاملا، قل ان
استمعنا لمثله، الا في بعض التسجيلات التي اصبحت عملة نادرة ، حتى في قنوات
التلفزيون المختلفة .
فرقة الموسيقى العربية، ولا بد من قول ذلك بوضوح، تحتفل قريبا بعيدها العشرين، وقد
قطعت شوطا كبيرا لتحتل الصدارة الفنية بجدارة، ولتساهم بدورها الكبير في نشر
الثقافة الموسيقية الاصيلة. وربما ليس بالصدفة، انها اخذت على عاتقها المحافظة اولا
على التخت الشرقي، وابتعادها عن ادخال الالات الغربية مما يضفي على عزفها اجواء
كلاسيكية نوسطالجية رائعة، تعطي لمتذوقي الموسيقى الشرقية والغناء الشرقي، مساحة من
الحنين للماضي الفني المشرق ، اضحت في زمننا الحالي عملة نادرة.
الاصوات التي قدمتها الفرقة، باتت تشكل اليوم قوس قزح دائم الاشعاع في افق الغناء
العربي، وتواصل الفرقة، التي يقودها الموسيقي واستاذ الرياضيات، الدكتور نزار
رضوان، الكشف عن اصوات تبشر بمستقبل غنائي كبير.
في
امسية مصطفى دحلة، اعادنا هذا الفنان الكبير الى مرحلة من اروع مراحل الغناء العربي
بتقديمه باقة من الموشحات والادوار القديمة، التي تحمل نكهة فنية دائمة لا يزيدها
الزمن الا جمالا وتوهجا، وربما لاول مرة، انا على الاقل استمع للقدود الحلبية بهذا
الاسلوب الفني الراقي والمتميز، اداء وعزفا. وليس كغناء بمناسبات أفراح ، حيث
الضجيج واحيانا العزف غير المهني وبدون انضباط ...
القدود الحلبية هي من الفنون الموسيقية السورية المنشأ، والتي ظهرت وتطورت بمدينة
حلب السورية وبالتالي حملت اسمها.
تطور هذا الفن، في زمن القس السرياني مار افرام عام 306 ميلادية، عبر دعوة الناس
للصلاة في الكنيسة ، وكان افرام السرياني يلجأ من اجل ترغيب الناس بالحضور
للصلاة، الى ادراج الالحان الدينية التي يألفوها في حياتهم وأفراحهم ، ضمن طقوس
يوم الاحد ، ومن ضمنها كانت انطلاقة القدود الحلبية التي تعرف باسم قدود مار افرام
السرياني ، وهي من اقدم قدود فنية موسيقية ظهرت في سوريا ومدينة حلب بالتحديد، ثم
انتشرت وتوسعت على يد العديد من الفنانين والمغنيين من بلاد الشام.
وقد
تأثر سيد درويش بهذا الفن الذي اندمج ايضا مع الموشحات والموال والطقطوقة. وربما
يعرف القراء بعض هذه القدود ولا يتخيلون فرحا يخلو من الصدح فيها ، ولا يعرفون انها
قدود حلبية ، ومنها: يا مال الشام قدك المياس تحت هودجها.
ونحن ، اهل فلسطين، والتي هي تاريخيا وجغرافيا وثقافيا جزء من بر الشام، نعتبر هذه
القدود جزءا من تراثنا الفني الغنائي، بحيث لا يمكن ان يخلو فرح من ادائها والطرب
لكلماتها والرقص على الحانها.
مصطفى دحلة وفرقة الموسيقى العربية، يؤكدون بتلك الامسية، ان قديمنا الموسيقي لا
يموت، بل يزداد توهجا مع الزمن... يزداد شوق الانسان اليه ، لأنه ببساطة فن أصيل
ينبع من صميم الحس الانساني ، معبرا عن أجمل مشاعر الانسان .
ان
الحفاظ على هذا التراث الموسيقي، ونشره وتثقيفف الاجيال الجديدة عليه، هو ليس مجرد
امسية طربية، انما مدرسة للسمو بالانسان، واغنائه جماليا وثقافيا، باروع ما في الفن
العربي والموسيقى العربية، وحفاظا على التراث ،حفاظا على الهوية الثقافية ، حفاظا
على الانتماء الذي لا قيمة للأنسان اذا فقد صلته به .