فن الكذب
أحمد الخميسي . كاتب مصري
عرف تاريخ الأدب والفن وسائل ماكرة عديدة التف بها الكتاب والفنانون حول الطغيان لإشهار الحقيقة.وطالما لجأ الأدباء إلي حيلة بسيطة وقديمة وهي نقل الأحداث والشخصيات إلي جزيرة متخيلة ، أو استبدال رب أسرة أو عمدة قرية مستبد بالحاكم . الغريب أن الفن عرف أيضا وسائل لا تقل مكرا التف بها حول الحقيقة لكي ينشر الكذب ! أثار ذلك السؤال مشاهدتي الفيلم الأمريكي " ولد يوم الرابع من يوليو"وأحيت في نفسي المنطق الذي تقوم عليه أفلام كثيرة عن حرب فيتنام وأصدائها . الفيلم بطولة النجم الشهير " توم كروز " ويمثل فيه شخصية شاب أمريكي يقرر أن يلتحق بقوات المارينز المحاربة في فيتنام لأن " أمريكا لا تعيش بدون تضحية ". وسنغض النظر عن مطابقة مفهوم " التضحية من أجل الوطن " بمفهوم آخر هو العدوان على فيتنام التي تبعد 13 ألف ميل إذا اعتبرنا أن تلك التصورات الملتبسة كانت تمثل جزءا من وعي الشباب المشوش حينذاك. هكذا يلتحق الشاب بالجيش مصحوبا بدعاء أمه ومباركتها لخطوته ، لكنه سرعان ما يكتشف وهو المشحون بفكرة الدفاع عن أمريكا أن ما يقوم به الجيش هناك هو عدوان وجريمة،خاصة حين تتوالي هزائم الجيش الأمريكي ويصاب الشاب خلالها إصابة تعيده إلي أمريكا عاجزا جنسيا ومقعدا يتحرك على كرسي بعجلات. ويبدأ الفيلم في وضعنا إزاء حالة الجندي الأمريكي الذي دمرت الحرب حياته وحولتها إلي ألم مستمر من العجز عن الحب والتواصل مع أبناء مجتمعه الذي يعيش أوهام النصر، بل وينتخب الرئيس نيكسون لفترة ثانية. وهكذا تتصدر الأحداث مأساة المواطن الأمريكي بينما تغدو مأساة الشعب الفيتنامي نغمة هامشية يتردد صداها في خلفية العمل ، أما الأساس فهو مأساة الجندي الأمريكي ! . وقد دأبت الأفلام الأمريكية على تناول الحرب من هذه الزاوية ، أو بتلك الوسيلة والحيلة ، التي تنقل التعاطف من المجني عليه إلي الجاني ومن ضحية العدوان إلي مرتكبيه ! وتصبح الحرب هنا مأساة الجنود الذين عادوا محطمين، وليس إجرام الجنود الذين ذهبوا ليعتدوا على الآخرين . هكذا يصبح الجندي الأمريكي ضحية الحرب التي تستثير تعاطفك. وإذا كان الجنود الأمريكيون هم الضحايا فمن هم المعتدون إذن؟ . قد يقول البعض إن الجنود هنا هم أيضا ضحايا ، ولكن ألم يرفض فريق من الشباب حينذاك أداء الخدمة العسكرية ؟ . في الفيلم يصبح البطل العائد أحد أبرز مناهضي الحرب على فيتنام ، ويلوح بقبضته في المظاهرات مع الآخرين هاتفا " أوقفوا الحرب .. لا نريد حربكم اللعينة " . لكن الاعتراض على الحرب ومقاومتها يأتي من منطلق أن جنودنا الأمريكيين يقتلون هناك ، وليس لأن جنودنا الأمريكيين يقتلون الناس هناك ! . وعامة فإن كل الأفلام الأمريكية التي تناولت حرب فيتنام لا تتوقف عن طبيعة معارضة الحرب، هل هي معارضة من منطق أن " أمريكا تتكبد خسائر فادحة هناك ؟ " ، أم هي معارضة من منطق أن " الحرب فعل عدواني " ؟ . لا تجيب تلك الأفلام عن السؤال الجوهري : على أي أساس نرفض الحرب ؟ . إنها تحيل الرفض إلي موقف عام ومبهم . بهذه الحيلة الفنية ، أي بتحويل بؤرة التعاطف من المجني عليه إلي الجاني يقوم الفن بنشر الكذب ، وهو يفعل ذلك أيضا حين يجعل الحرب " فعلا أمريكيا مأساويا " ، وليس فعلا أمريكيا إجراميا ! . ولو أن تلك الأفلام نشرت وأذاعت وعيا صحيحا بطبيعة الحرب الفيتنامية ، لربما وجدت الحرب على العراق معارضة أشد وأعمق وعيا . لكن الفن الذي يلجأ بواسطة الحيل الفنية إلي الكذب فتح الطريق لحروب أخرى ، كان من نتائجها أن أمريكا تسبب في قتل أكثر من مائتي ألف مواطن منذ أن أعلنت حربها على الإرهاب ، وأنفقت منذ ذلك الحين أكثر من خمسمائة مليار دولار كانت كفيلة بسداد ديون كل البلدان الفقيرة في العالم .