ذكريات آرثر ميللر مع عبدة الشيطان في ماساتشوستس..!

ذكريات آرثر ميللر مع عبدة الشيطان في ماساتشوستس..!

* مات الكاتب المسرحي الأميركي آرثر ميللر منذ أيام قلائل، وقد تميزت أعماله لتجعله دعامة من دعامات المسرح الأميركي المعاصر. كانت له تجارب مثيرة للدهشة، كتب البعض منها وهذه إحداها.

ومن عجب والبشرية تجتاز مرحلة حضارية علمية متطورة، خاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر، وحتى ما هي عليه الآن ونحن في أوائل القرن الحادي والعشرين، من عجب أن تتناقل وسائل الإعلام أحداثاً لا تكاد تصدق بسبب غرابتها.. أحداثاً مريبة عن السحر والسحرة، وأفاعيل الشيطان، وتلامذته في بقاع كثيرة من الأرض!!

والأعجب أن ذلك يأتي من أكثر مناطق العالم تحضراً وعلمانية، وإيماناً بالواقع الملموس بعد أن تراجع الإيمان بالغيبيات عندهم. ولنقف في حكايتنا هذه أمام معلمين مهمين:

الأول: ولاية (ماساتشوستس) الأميركية.

والثاني: هو الكاتب الشهير آرثر ميللر.

* ماساتشوستس:

* ما أكثر ذكريات الأميركيين الأوائل في ماساتشوستس ومدنها وقراها، بل وبراريها وسهولها وجبالها، وأحراشها وغاباتها..

منذ 1928 والكاتب آرثر ميللر كان يتجول في هذه الأماكن بحثا عن الأصول لكثير من الأساطير، والأحداث الغامضة التي لم يتمكن أحد من إيجاد تفسير لها حتى الآن.

وقد كتب ميللر مسرحية بعنوان: (سحرة مدينة سالم)، وعندما سُئل عما كان هو نفسه يؤمن بالأساطير الكثيرة.. والتي تحرى عنها وخاض بنفسه تجاربها في كل المدن والقرى الواقعة على شواطئ المحيط الأطلسي، كتب تجربته قائلاً:

«إنني كنت أريد أن أضع يدي على التبريرات الواقعية لتلك الظواهر الغامضة وغير الطبيعية.. لقد كانوا يمارسون السحر».ولكن الأدلة الأكثر واقعية التي اكتشفها، وهي أن هناك هيمنة لممارسات شيطانية تكاد تجتاح منطقة الغابات وقرى الساحل في داخل ولاية ماساتشوستس وتحديداً في المنطقة المسماة: (الأنهار الثلاثة).* والوقوف على ما كتبه آرثر ميللر عن تجربته الخاصة، يضع قارئها في متاهات لا أول لها ولا آخر، لما احتوت عليه من أسرار وألغاز لا زالت مبهمة وغامضة حتى الآن..!خواطر آرثر ميللر!!

كتب ميللر يقول:

«أجلس فوق ربوة عالية..وحدي.. تحتي واد فسيح.. ملتقى ثلاثة أنهار.. السماء زرقاء صافية.. ولكني أشعر أنني انتزعت من عالمي الحقيقي الواقعي انتزاعا.. كل ما حدث يراود عقلي وخيالي، كأنه حلم.. لا يمكن أن يتشكل في عالمنا الحديث.. عالم الطائرات.. والغواصات.. ووسائل الاتصال.. والإعلام المتطور!!..أيمكن أن يحدث ذلك حقاً في عالم يرفض في إصرار وغضب أحياناً تصديق ما سوف أحكي؟!!* إنني محاط بأصوات مواء قطط..!! عقلي ينكر أنني سمعت ذلك المواء في جوف الريح.. ولكنني لا أستطيع أن أصم أذني حتى هذه اللحظة عن ذلك المواء..إني لا أسمع ذلك المواء فقط بين عويل الريح!!.. بل أحسه يتسلل إلى كياني من كل مكان..

* أذكر كحلم مهزوز، يوم خرجت من بيتي في هوليوود، وليس معي إلا حقيبة ثياب وحقيبة أوراق صغيرة تحوي بعض الكراسات التي اعتدت أن أدون فيها ملاحظاتي وأفكاري.. وكنت أنوي أن أقضي إجازة في منطقة منعزلة في وسط ريف ماساتشوستس.

* ركبت قطاراً متجهاً إلى سبرينجفيلد، وفي ذهني فندق معين اعتدت ان ألجأ إليه طلباً للخلوة والعزلة والتأمل.

*    *    *

* وبدأت الملامح الأولى للخيوط التي تشابكت فيما بعد عند آرثر ميللر وهو في المقصورة التي جلس فيها في القطار، حيث كان يشاركه شاب وشابة يترامقان في حب، وقد تشابكت أيديهما، ونظراتهما أيضاً.. وبجانبهما على المقعد الثالث رجل أشيب ينظر إليهما في ضيق!!.

ومرت فترة زمنية على ميللر أثناء سير القطار، تصور خلالها أن قطة صغيرة ملساء الشعر، تحتك به!! وهو جالس على كرسيه!!فنظر حوله، فلم يجد أثراً لتلك القطة، لكنه كان يسمع مواء..!وإذا بالعجوز الذي يجاوره يعلق:

ـ يبدو أن البقاء في هذه المقصورة أصبح غير مستحب!!فيستفسر آرثر ميللر منه عن السبب، فيجيبه العجوز بعصبية:

ـ يجدر بي أن أترك المقصورة فورا!!

ـ لماذا؟!.. بسبب مواء القطة التي لا نراها؟!

ـ (كأنما يحادث نفسه) ـ مواء قطة؟!!.. ما معنى هذا؟!!.ألا ترى هذين الشابين ماذا يفعلان، ثم تقول لي مواء قطة!!.. يبدو أنك أكثرت من الشراب!!

ـ تعني أنك لم تسمع مواء قطة؟!

ـ يبدو أنني في مقصورة مليئة بالغرائب!!ويخرج العجوز من المقصورة وهو يردد كلمات تعبر عن تبرمه!!

* ويبقى ميللر يعاني من شدة صوت مواء القط الذي أصبح يحاصره، حتى أنه لم يعد يسمع شيئاً سواه!!

وعندما وقف القطار في محطة قرية صغيرة، نظر من النافذة فقرأ لافتة كتب عليها اسم المدينة (بولدزفيل)، وواضح أن جمال الطبيعة فيها خلاب، مما شجعه على تغيير اتجاهه والنزول فيها، فهو يبحث عن الهدوء!!وما أن سار لبضع دقائق، حتى وقع بصره على فندق أنيق صغير، فاتجه إليه، حيث رحبت به صاحبة الفندق التي تقف في بهو الاستقبال.. واختارت له غرفة تطل على البحيرة من جهة، وعلى الغابة من الجهة الأخرى..وأصابته الدهشة عندما قالت له صاحبة الفندق:

* إنني أعرف ما يريد النزلاء الأغراب، خاصة إذا كانوا من الفنانين والكتاب، فأنا اخترت لك غرفة رقم (5) التي ستشعر فيها تماماً كأنك في بيتك وبلدتك، وبالمناسبة، النظام هنا هو النوم المبكر، لأنه كما تعلم أكثر العادات فائدة وصحة للجسد.. فأهلاً بك في بيتك.. 

* حوادث مريبة كتب ميللر ـ فيما بعد ـ:«.. وفي غرفتي.. جلست كالذاهل، أحسست فجأة أنني إنسان انسلخ من ماضيه.. من أنا؟!.. من أين جئت؟!.. ولماذا نزلت في هذه القرية؟!.. بل.. بل.. حاولت جهدي أن أذكر اسمي، وخيل إليّ أنني فقدت حافظة أوراقي في القطار.. ثم.. ثم.. هذه السيدة، صاحبة الفندق؟!.. لماذا كانت تنظر إلي هكذا؟!.. يا إلهي.. إنها حتى لم تطلب أوراقي للتأكد من شخصيتي!!.. كأنها تعرفني منذ زمن طويل.. كأنها تعرف كل شيء عني..

وبينما كانت هذه الأفكار تحيط بي من كل جانب، حتى خارت قواي، فنمت نوماً عميقاً وطويلاً..في اليوم التالي.. خرجت إلى سوق القرية، لأشتري أقلاماً وورقاً، لاحظت أن البائع يبيعني بطريقة آلية.. فهذا الرجل يستوي عنده أن يبيع أو لا يبيع!!ثم خيل اليّ انه ينظر اليّ نظرات مختلسة، كأنه يراقبني!!..وخرجت الى الشارع مرة اخرى، راودني هذا الشعور العجيب.. بأن كل من أمرّ بهم في القرية يراقبونني!.. لماذا؟.. لا بد أن هناك سرا لهذه الظاهرة!وهناك ظاهرة اخرى غريبة لفتت انتباهي، وهي ان جميع اهل هذه القرية، يسيرون في رشاقة اشبه ما تكون برشاقة القطط! بل انهم يشابهون القطط في اشياء كثيرة!!كانوا مثلا يفضلون السير في محاذاة الحوائط وليس في وسط الشوارع!!وحينما كنت أتناول طعام الافطار، كنت اراقب مديرة الفندق البدينة تجلس الى مكتبها، فخيل اليّ انها اقرب المخلوقات الى قط كبير، جاثم قرب الحائط يتحفز للانقضاض في اي لحظة على فأر اصابه الرعب، فلا يستطيع الفرار.. مستسلما لمصيره!*أما مواء القط الذي بدأ يحيط بي منذ ان بدأت اسمعه في مقصورة القطار، فإنه قد اصبح بالنسبة لي امرا عاديا وطبيعيا.. فأجواء القرية وطرقاتها.. توحي بمنطقية مواء قطط، يصدر من هنا او هناك، حتى وان لم أر اية قطة تسير في الطريق..ولكنني اخذت اربط بين ما كنت اسمعه في القطار وانا داخل المقصورة، وما اسمعه الآن من مواء في كل مكان اقصده في القرية

المجنون

كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، فاتجهت الى حديقة عامة.. لاحظت ان رجلا كان يتبعني.. كلما التفت اليه اسرع وتوارى خلف الاشجار..ولما توغلت داخل الحديقة سمعته ينادي:

ـ ارجع.. ارجع.. ايها المجنون!!.. اطعني!!.. عد من حيث اتيت!!..استدرت ناحيته، وقلت بصوت مرتفع نسبيا:

ـ اقترب وتحدث اليّ كما يتحدث الرجل الى الرجل، بدلا من لعبة الاستخفاء المقيتة..!.. كأنك.. ويقترب الرجل مني، وكأنه يستحثني لاتمام جملتي التي لم اكملها تأدبا.

ـ كأنك ماذا؟!.. قلها.. لماذا ترددت؟!

ـ كأنك طفل يمارس لعبة الاستخفاء!

ـ كلا.. كلا.. ليس هذا ما اردت ان تقوله!!.. انك منافق!!.. ولكنك ستدفع ثمن نفاقك هذا..!!.. وجبنك ايضا!!..

*وانطلق الرجل الى ان اختفى من الحديقة.. كان يعدو بسرعة عجيبة، وخفة مذهلة،.. كأنه..!!.. كأنه..!! كأنه ماذا؟!.. لم اجد الصفة المناسبة!بعد ان تجولت في مشارف الغابة وراء الفندق، عدت الى غرفتي وقد سيطر على تفكيري مشهد الرجل الذي صادفته في الحديقة..وفي اليوم الثاني حرصت على الذهاب الى الحديقة، وقد اخترت نفس الوقت الذي جئت فيه يوم أمس..واذا بالرجل يسير ورائي، وعلى بعد أمتار مني.. وكلما التفت اليه كان يختبئ وراء الشجر!!حاولت ان اقترب منه، واتحدث اليه.. و.. عندما اقتربت منه صاح بي:

ـ كلا.. كلا.. لا تقترب مني..!!.. ارجوك..

ـ حسنا لن اقترب.. هل تجيب عن اسئلتي؟!

ـ اتمنى ذلك.. لكن ارجوك ان تأخذ بنصيحتي..!!.. وإلا ضاعت منك فرصة؟!!..!

ـ فرصة؟!.. من انت؟!.. يخيل اليّ اني اعرفك!

ـ لن اجيب عن هذا السؤال.. سلني عن اي شيء آخر.. واسرع.. اسرع.!!..

ـ لِمَ تريدني ان اسرع؟!

ـ لأنها ستأتي الى هنا حتما!!..

ـ من هي؟!

ـ (في ذعر).. ستقتلني لو رأتني معك.. (يبكي).. ليتها تقتلني!!.. ليتها تقتلني!!.. ارجوك لا تقترب مني اكثر..!!

ـ لا تخف.. فلن يأتيك اذى مني..!!

ـ يا مسكين.. انك لا تملك ان تؤذيني او لا تؤذيني!!.. انصحك ان تأخذ حاجياتك من الفندق، وتغادر القرية.. اتخذ نفس الطريق الذي جئت منه!!

ـ لماذا تريدني ان اترك القرية؟!!

ـ الم تفهم بعد؟!.. الم تحس بالخطر؟!!.. استمع لي ايها المسكين.. ان كل لحظة تمر عليك في هذه القرية (ثم يلتفت حوله يمنة ويسرة.. ويصيح).. يا للسموات!!.. ها هي اقبلت.. الم اقل لك؟!.. الم اقل لك..؟!ثم عاد ادراجه مهرولا وهو يردد:

... ستقتلني!!.. ستقتلني!!.. كما ستقتلك بعدي.. لقد جاءوا بها من اجلك ايها المسكين..!!.. انها خلفك!!..وتلفت خلفي حيث اشار الرجل الهارب المذعور، فرأيت: فتاة مقبلة نحوي، تحمل في يدها حقيبة ثياب.. كانت على وجهها الجميل ابتسامة رقيقة..

 * الحسناء:

 * وحينما اقتربت مني فاجأتني بالقول:

ـ أكان هذا المجنون يضايقك؟!

ـ كلا..

ـ هل تقابلت معه مصادفة؟!

ـ بل أنا الذي كنت أبحث عنه، اذ انه قال لي في أول لقاء لي به أشياء غامضة!!.. اردت ان اسأله عنها.. وعن اشياء اخرى كثيرة.. كثيرة تثير دهشتي في هذه القرية..!!

ـ مثل ماذا..؟!

ـ هل انت من اهل هذه القرية يا آنسة؟!

ـ اجل.. كنت في بلدة مجاورة اقضي بعض المهام مع صديقات لي.. ثم عدت!!..والآن قل لي: ما هي الاشياء المثيرة التي اثارت انتباهك، والتي كنت تتوقع ان ذلك الرجل المجنون سيوضحها لك؟!..

ـ هل في استطاعتك ان تفسري لي بعض تلك الظواهر؟!..

ـ قاطعتني بخفة ومرح..

ـ ولماذا تتعب نفسك في التفكير.. من الواضح انك غريب عن قريتنا، وانك جئت الى هنا بحثا عن الهدوء والعزلة.. فلماذا لا تستمتع بإجازتك، من دون ان تشغل نفسك بما لا يجدي..؟!

ـ انت على حق يا آنسة.. ولكن الرجل الذي فر هاربا فور ان رآك.. قال اشياء عجيبة؟!

ـ وهل يقول المجانين غير الاشياء العجيبة.. ايها السيد، احسب اننا لو بقينا اكثر في هذه الحديقة، فسيدخل علينا الظلام..

ـ يا لغبائي.. كيف اترك شابة جميلة رقيقة مثلك، تحمل حقيبتها الثقيلة، وانا اقف من دون ان احملها عنك؟!.. اين بيتك في هذه القرية..؟!

ـ (بمرح) بيتي؟!! لنقل انه قريب من الفندق الذي تقيم فيه..!!

ـ وكيف عرفت انني اقيم في فندق؟!

ـ بديهي يا سيدي.. غريب عن القرية فأين تقيم؟!.. إلا في الفندق الوحيد فيها..؟!

* وبينما كنا نسير وانا حامل حقيبتها، قلت:

ـ يخيل اليّ ان الرجل المجنون لم يغادر الحديقة.. كأني اراه يتلصص بين الاشجار.. لقد اصيب بحالة من الرعب فور ان رآك!!

ـ لا تجعله يفسد عليك اجازتك.. فقريتنا جميلة وستروق لك.. بدون ادنى شك!!

ـ لكن يخيل اليّ ان اهلها يراقبونني.. اعني ان هذا احساسي.. ايضايقك يا آنسة احساسي هذا..؟!

ـ كلا.. كلا.. بل يهمني ان اعرف من اين جاءك هذا الاحساس، هل من ان سلوك اهل القرية نحوك يختلف عما الفته في مدينتك!!..

ـ سأضرب لك بعض الأمثلة: انا كاتب وصحافي ومؤلف مسرحي ايضا.. كنت اشتري بعض الاوراق والادوات المكتبية.. وكان البائع يختلس اليّ النظر من طرف خفي!!..

ـ ألا ترى يا سيدي ان هذا امر طبيعي في قرية صغيرة كهذه..؟!.. رجل غريب وسيم، فمن الطبيعي ان يثير فضول الناس!!.... سيدي يبدو انك واسع الخيال..

ـ اذا كنت واسع الخيال حقا.. فماذا تقولين في طريقة السير السريعة الرشيقة التي يمشي بها..!! (فجأة) اهذا معقول؟!!

ـ ماذا تعني يا سيدي؟!

ـ اعني ايتها الجميلة ان مشية الناس هنا اشبه بمشية القطط..!!

ـ انك حقا كاتب واسع الخيال.. والآن اعد لي حقيبتي فقد اقتربت من داري، كان بودي ان يطول حديثنا.. على اية حال، لا تستمع الى ما يقوله ذلك المجنون فيشوش افكارك.. ومن الافضل ألا تحاول انت البحث عنه..!!