قراءة في مسرحية 603
الانتظار موت آخر
للمخرجة منال عوض ومسرح الحياة
توفيق العيسى- رام الله - فلسطين
[email protected]
هو
موت يترقبك، يجالسك، ينتظرك على الشباك المقفل، ويحيا في تفاصيل حياتك اليومية،
فتعيشه.
موت
يحيا ما بين الحلم والخيال، هو الانتظار.
من
فضاء المسرح الرحب إلى ضيق المكان في الزنزانة رقم 603، استطاعت المخرجة " منال
عوض" ومسرح الحياة إعادة الاعتبار للضحية، من خلال مسرحية "603" نص عماد فراجين .
الضحية والتي تحولت إلى شخصية خارقة للعادة إما عن طريق الشعارات الاستهلاكية غير
الواعية وإما عن طريق الدعاية المضادة لنقيضنا الإسرائيلي لإثبات مقولته حول
الإرهاب ومشتقاته.
وبمعزل عن الشعارات و" العنتريات" الإعلامية استطاع ممثلو مسرح الحياة من تجسيد
لحظة زمنية محددة بكل توترها وشحناتها الإنسانية وهي لحظة انتظارهم للخروج من
المعتقل.
تبدأ المسرحية بصوت يعلن عبر المذياع عن بدء العملية التفاوضية حول الإفراج عن
المعتقلين، يرافقه انكشاف المشهد عن غرفة حديدية يسكنها ثلاثة أشخاص، يترقبون بحذر
وصول حافلات الصليب الأحمر، لتنقلهم خارج المعتقل، عبر حوار نفسي متوتر لا يخلو من
الكوميديا السوداء.
ليتصاعد عبر عدة حوارات ومونولوجات شخصية، وتشكيل حركي جماعي أظهرت قدرة الممثلين
على تجسيد العمل، وتحديدا الفنانين عماد فراجين وإيهاب زاهدة دون التقليل من أداء
نقولا زيادة ومحمد الطيطي، كما أظهرت قدرة المخرجة " منال عوض" على قيادة العمل
بشكل جيد.
ارتكز العمل المسرحي على فترة زمنية لا تتعدى بضع ساعات من حياة المعتقل لذا كان
على المخرج وكاتب النص أن يتجها إما إلى ذكر خلفية وأسباب توجد المعتقلين في
المعتقل أو العزوف عن ذلك والاهتمام بمصيرهم على أسباب تواجدهم، إلا أننا كنا نفضل
الخيار الأول وذلك أن العمل ذكر لنا أسباب دخول " أبوريحان" إيهاب زاهدة إلى
المعتقل والتلميح بهذه الأسباب في شخصية "العربيد" عماد فراجين في حين أغفل شخصيتي
" أبو كرتونة" محمد الطيطي و" أبو ناموسة" نقولا زيادة، إضافة إلى ذلك أن اسم
المسرحية " 603" وهو القسم الأكثر عنفا بالنسبة للمعتقلين، فكان واجبا أن نعرف مدى
خطورة هؤلاء المعتقلين خاصة أن شخصياتهم لا تعبر عن هذه الخطورة باستثناء شخصية
العربيد وقد نكتفي بالاسم دلالة رمزية لمدى أهميته أو خطورته، وإن ذكر الشيء اليسير
عن سبب إعتقال البعض إلا أن هذه الأسباب ليست كافية لزجهم بأشد الأقسام خطورة.
عند
خروجنا من المسرح علق أحد الأصدقاء على شخصية " أبو ناموسة" قائلا "بأنها مبالغة
فيها ومخالفة لأي حقيقة علمية أو منطقية" وقد بنى رأيه على محاكاة الشخصية لناموسة
يربيها في المعتقل ويكلمها ويناجي من خلالها ابنته الغائبة، كما أنه يطعمها من دم
رفاقه المعتقلين الأمر الذي أضفى كوميدية خفيفة ومنسجمة مع العمل، ولا ندري إن كان
كاتب النص والمخرج قد اطلعا على تربة ما أو أنها محض خيال، إلا أننا نقرأ مثل هذه
القصة في قصة قصيرة للكاتب " حسن عبدالله" بعنوان " نخلة عسقلان" ويقصها علينا
بلسان المجرب وليس الكاتب فقط، إذ كان المعتقلون في الانتفاضة الأولى ينظرون للنخلة
في ساحة معتقل ويتعاملون معها باعتبارها الأنثى الوحيدة في المعتقل، وقد تابعنا
مؤخرا شهادة السيد " أحمد المرزوقي" على قناة الجزيرة حول تجربته في معتقل "
تازممرت" المغربي وكيف تحولت الحمامة التي استطاعت أن تخترق أسوار المعتقل إلى رمز
للفرج وكانت فأل خير على المعتقلين، هذه القصص وغيرها تدل بأن شخصية أبو ناموسة
وتفاعله مع الناموسة لا تعبر عن كوميديا فنية فقط ولكن حقيقة نفسية بالنسبة للمعتقل
غير مبالغ فيها.
في
الوصول إلى ذروة كل شخصية على حدة وبالتالي إلى ذروة العمل كافة كان بانتظار
المتلقي عدة مفاجآت فشخصية العربيد الصلبة المحكوم 12 مؤبدا ولا يتحدث عن نفسه تظهر
أمام الجمهور بالسوية والمتماسكة وكأنه قهر نفسه واحتياجاته لنكتشف أن هاجس المرأة
يلاحقه وهو بانتظار فرصة الاختلاء بنفسه حتى يعبر عن هاجسه وتكشف لنا أيضا عن مأساة
أخرى يعيشها فوراء هذا الصمود البطولي خالته التي حمدت ربها لأنها مصابة بمرض الكلى
حتى تتمكن من الحصول على الدواء من وكالة الغوث وبيعه لتأمين مبلغا شهريا من المال
للعربيد بعد أن تخلى عنه الكثيرين وترك وحده ليواجه مصيره.
أما
أبو ناموسة والذي ما انفك يحلم بلقاء ابنته وهو متلهف للخروج نكتشف أنه يتردد في
اللحظة الحاسمة للخروج خوفا من فضيحة اجتماعية وهي هروب زوجته الكندية مع عشيقها
والذي سيلحق به العار لذا فقد فضل أن يبقى معتقلا ليظل بطلا في عيون الناس هربا من
هذه الفضيحة.
أبو
ريحان فقد عرفناه مثقفا واعيا ينتقل من لحظات الوعي إلى الهستيرية عبر المونولوج
وقد بدأت عقدته بالتكشف من خلال الرسائل الشخصية التي يكتبها لنفسه بعد منتصف الليل
والذي يحاول أن يظهر فيها كبطل متفرد يضرب ويصرخ ويشتم دون خوف أما عقدته الرئيسية
فهي فضيحة سببها له الاحتلال جعلته مثارا للسخرية في قريته فاختار طريق البطولة
ليتخلص من هذه الفضيحة،وقد يكون تصوير المعتقل على هذا النحو بعيدا عن مفهوم
البطولة وعرض حاجاته الإنسانية أمرا يتطلب شجاعة من القائمين على العمل فهو يتحدث
عن المسكوت عنه في المجتمع وقد يرى البعض أن عرض القضية من هذه الزاوية هو تقليل من
نضالات المعتقلين وتضحياتهم.
ونرى بأن الرغبة بالابتعاد عن كل ما هو سياسي خوفا من الوقوع في فخ الشعارات ولعرض
القضية من جانبها الإنساني فقط هو أمر غير مبرر فالقضية لا تنفصل عن شأنها السياسي
فوجود المعتقلين داخل المعتقل بسبب قضية سياسية وخروجهم متعلق بالقضية السياسية
ذاتها، وقد يكون هو ذاته السبب في تغييب السجان عن خشبة المسرح الأمر الذي كان
بإمكان المخرجة
أن
تستعيض عنه بمؤثرات صوتية.
ونرى أيضا بأن المسرحية كانت تحتمل عناصر أخرى مثل المؤثرات الصوتية والضوئية الأمر
الذي كان من الممكن أن يظهر العمل بشكل أجمل.
وقد
تكون فكرة استخدام المادة للديكور مبتكرة ولكن تحديد المسرح ببراميل حديدية تعبر عن
جدران الزنزانة اقتطع أجزاء من المسرح كان من الممكن منحها للمثل ولا تعيق حركته،
كما أن استخدام نصف البرميل باعتباره منامة أو سريرا للمعتقل كان خطرا جدا وقد يؤدي
إلى إيذاء الممثل ذاته وقد أعاقت حركته في الدخول والخروج من وإلى نصف البرميل أو
المنامة فجاءت حركته وانفعالاته حذرة وأوتوماتيكية بعض الشيء.
منذ
بداية العمل نشهد حالات متوترة ومشحونة الأمر الذي يتحول إلى بطء ورتابة في المشهد
الأخير ناتج عن إحباط المعتقلين وانهيار أماهم بالخروج فعند شروق شمس يوم جديد يبدأ
المعتقلون بممارسة روتينهم اليومي بشيء من الموت البطيء لنفاجأ أثناء ذلك بخروج
العربيد خلف الأسوار، الأمر الذي يبقى غير مفهوما، فالعربيد لايشكل حالة مميزة عن
باقي المعتقلين لنقل مثلا أن صموده أدى إلى خروجه.
وفي
النهاية تعتبر مسرحية 603 محاولة جيدة للكشف عن أوجه أخرى من المعاناة الإنسانية
والتي تنسحب على باقي المجتمع في السجن الكبير ورغم انتقاداتنا للعمل فإنها لا تقلل
من القيمة الفنية للعمل وللجهد المبذول فيه.