خان الحرير
خان الحرير
د. منير الشامي
تدور أحداث خان الحرير في حلب وفي حي من أعرق الأحياء الاقتصادية فيها. أما الفترة الزمنية التي يستعرض فيها التاريخ السوري فتمتد من 1955 إلى 1961، قرابة ست سنوات. والعنصر الرئيسي للأحداث هو عبد الناصر والوحدة، وأوضاع سورية خلالها، والعوامل التي أدت للانفصال. وثقل الشارع السوري في حلب في شبابه وفي رجالاته.
المسلسل هو: لهيثم حقي
أبطال المسلسل الرئيسيون:
- كمال. من كبار تجار حلب. محروم من الولد. وله ابنة دميمة يريد تزويجها لمحسن ابن أحد العاملين عنده واسمها زكية.
- محسن: شاب حاز على الثانوية، ويريد الزواج.
- فضة: فتاة بدوية أحبها محسن عندما كان يتردد على خيام البدو.
- أحمد شاب في الثانوية متحمس لعبد الناصر والوحدة.
- أبو نعيم: تاجر وطني حطمه كمال، ومات غماً وبقي ولداه نعيم ومقيم.
- أبو عادل: تاجر صغير من تجار خان الحرير وولده عادل شاب متدين في الثانوية.
- مراد: شاب متعلم متخرج من هندسة النسيج ببريطانيا يريد أن يقيم مشروعاً صناعياً.
- سعاد: أخت أحمد وبنت الحاج عبد القادر أرملة سعيد جميلة يتسابق الخاطبون عليها، وقد تقدم لخطبتها الحاج كمال، وأبو عادل، وأبو محمود وأخيراً مراد. وهناك شخصيات ثانوية أخرى تساعد في إبراز الأحداث.
عرض سريع للمسلسل:
يبتدئ المسلسل بوفاة سعيد زوج سعاد. والذي كان يعمل عند كمال. ويتظاهر كمال بالوفاء له ويتابع إعطاء راتب لسعاد أرملته طمعاً في الزواج منها فيما بعد. بينما يبدو محسن وقد زار مضارب الغجر. ورأى فضة وهي تغني في خيام قومها ترقص وتستهوي الغادين والرائحين. وقد أحبت محسن ورجته أن يعود إليهم ويزورهم. لكنه يفاجأ عند وصوله إلى حلب بأن والده يريد أن يزوجه بنت السيد كمال، وهي لا تطاق. ويعلن رأيه بعدم الموافقة فيقوم والده بضربه ضرباً مبرحاً ليوافق عليها. ويعلم أحمد بذلك فيهزأ منه ويطلب منه الرفض لكنه جبان لا يجرؤ على ذلك.
وأثناء هذه الأحداث يبرز تأميم قناة السويس ويقود أحمد المظاهرات تأييداً للتأميم لقناة السويس وعبد الناصر. بينما يكون السيد كمال معارضاً لعبد الناصر ومؤيد لحزب الشعب الذي يسعى للوحدة من العراق. لكن وزارة صبري العسلي التي مثلت التجمع الوطني الديمقراطي ومعه حزب البعث والحزب الشيوعي وخالد العظم المليونير الأحمر والذي كان وزيراً للدفاع في هذه الوزارة. وقفت في وجه الوحدة مع العراق.
يتم زواج محسن من زكية بالإكراه. وليلة دخولها عليه يأخذ أغراضه ويهرب من البيت ويمضي إلى مضارب البادية. ويتزوج من فضة. ثم تدب فيه الغيرة فيمنع فضة من الغناء والرقص، فينزعج أبواها لأنها مصدر رزقهما ورزق القبيلة وتحقد القبيلة عليه، وتحمل فضة منه. وبعد فترة يمرض مرضاً شديداً، بينما يقع أهله في حلب في حيرة شديدة ولا يعرفون عن مصيره شيئاً. وتبقى زوجه عند أبي محسن. لكن أخت محسن ومن خلال صداقته السابقة لأحمد أحبت أحمد، وكانت تنتظر الزواج منه.
تتسارع الأحداث ويتقدم أبو عادل لخطبة سعاد. ويتقدم تاجر آخر اسمه أبو محمد لخطبتها كذلك. ويعرضان الإغراءات على أبيها الحاج عبد القادر لكنها ترفض ذلك وبعنف. ويبقى السيد كمال متابعاً تقديم المال لسعاد باسم أنه حصة زوجها سعيد حيث يبلغه تقدم هؤلاء لخطبة سعاد فيغضب ويتقدم هو لذلك.
في هذه الأثناء يمضي أحمد مع رفاقه إلى المقاومة الشعبية، ويستعدون للسفر إلى مصر متطوعين للقتال ضد الإنكليز وبقيت سعاد تعاني وحدها من ضغوط والدها لتقبل أحد هذين الرجلين.
نمضي إلى مراد الذي تقدم بطلب قرض من أحد البنوك لإقامة مشروع صناعي. فيرفض الطلب إلا بمشاركته، ويتعرف على نعيم ومقيم اللذين يختلفان مع بعضهما دائماً حول التعامل التجاري في السوق فينضم مراد إليهما شريكاً في التجارة. وشركاء في بناء معمل النسيج الجديد الذي يقع على السيد كمال كوقع الصاعقة خوفاً من هذا المنافس الجديد .
نعود إلى أبي محسن الذي راح يسأل الغادي والرائح عن ابنه إلى أن مضى أحمد وزوجة محسن يبحثان عنه فيصلان إليه وقد أصيب بالسل في مضارب البادية دون أن يوجد من ينقذه. وترى فضة ضرتها وتختصمان ثم يصر أحمد على أخذ محسن إلى حلب لمعالجته. وكانت فضة قد حملت من محسن. ويصل محسن ذو الشخصية الضعيفة إلى حلب ويتعالج. ويعرف أبوه وعمه السيد كمال أنه متزوج لهذه الغجرية فيصر على طلاقها. ويمضي أبو محسن ومحسن لإبلاغها بطلاقها.
ثم تكون جولة ثانية ينتزعان الولد من فضة حيث يغريان والديها بالنقود، وتغدو فضة بلا زوج ولا ولد. فتسيح مهاجرة في الأرض تاركة أهلها. وأقاربها ومضت إلى حلب تبحث عن زوجها وولدها. فتلقيهما الأقدار عند امرأة صالحة تقوم بتأجيرها غرفة عندها. لكن هذه المرأة عندها ولد غارق في لذاته يعمل عازفاً في فرقة موسيقية في إحدى كباريهات حلب (بيوت الدعارة). ويتعرف على فضة وموهبتها بالرقص والغناء. ويعرضها على مدير الكباريه فيوافق على عملها عنده. وسرعان ما تطير شهرتها في الآفاق. ويتقاطر الناس على حضور حفلاتها. وراح كبار القوم يترددون على هذا الكباريه لإمضاء الليالي معها في حفلاتها الساهرة. بينما تتسارع الأحداث السياسية في حلب. وتقوم مؤامرة لإسقاط النظام في سورية (التجمع القومي)، فتنكشف المؤامرة في الوقت الذي يقرر فيه السيد كمال حفل زواجه من سعاد رغماً عنها. وفي الليلة نفسها يصل أحمد من المقاومة الشعبية بعد انتهاء العدوان الثلاثي على مصر. وتتشكل حكومة قومية تريد أن تمضي قدماً في تحقيق الوحدة الفيدرالية مع مصر.
في الليلة التي كان مقرراً أن يمضي السيد كمال إلى بيت سعاد ليعلن زواجه منها تم اعتقاله بصفته مشاركاً في مؤامرة ضد الدولة، وأمضى في السجن فترة وجيزة ثم خرج.
خلال هذه المرحلة كانت سعاد تشاهد مراد في معمله وتطل عليه، وتمت بينهما علاقات حب من خلال شباك البيت وراح أبو عادل يوسّط مراد ليقنع أحمد بتزويج أخته سعاد له، ومضى مراد لذلك. لكن المفاجأة كانت صاعقة حين اكتشف أن الفتاة التي تبادله أحلام الحب والعشق هي أخت أحمد، وعندما عاد أحمد حسم الأمر، ورُفض السيد كمال وأبو عادل، وتم زواج مراد من سعاد، مما زاد ضغينة السيد كمال مضاعفة على مراد، في الوقت الذي تأزمت العلاقة بين أحمد والسيد كمال، حيث مضى إليه في محله ورماه أرضاً وأشهر البندقية عليه محذراً له من أي تدخل في شؤون بيته، بعد زواج مراد وسعاد.
تطور جديد تم في عالم السياسة هو أن قادة الأحزاب التقليدية وجدوا أن القطار قد فاتهم، وأن تيار الوحدة كاسح سيجرفهم إن وقفوا أمامه، فاتخذوا قراراً في الحزب بتأييد الوحدة العربية رغم أنها من صالح تجار دمشق، وليست من صالح تجار حلب، بينما ظهر بالمقابل دعاة الوحدة الفيدرالية الذين كان يمثلهم خالد العظم، وكان الجيش مندفعاً اندفاعاً للوحدة الفورية تجاوباً مع عواطف الجماهير، أما الشيوعيون فقد برزوا ضد الوحدة، وأعلن خالد بكداش موقفه ضد الوحدة، وفر إلى موسكو، كما كان في معمل مراد رجل شيوعي.
كان لابد من الانتقام من أحمد الذي أهان كرامة السيد كمال ومرغها في التراب، وخطط محسن للانتقام من أحمد بعد أن صار مع الرجعيين باستلامه موقعاً هاماً مع السيد كمال، وأصبح بمثابة ابنه بعد أن طلق زوجته البدوية، وأخذ ابنه بالقوة منها، وصارت زوجته.
تغيرت المواقع تغيراً كبيراً، وهيأ محسن فخاً رهيباً لأحمد فبعث من هجم عليه وأذاقه ضرباً وركلاً وإهانة وتركه مغشياً عليه من أحد الجزارين في حلب. وأفاق أحمد من هول الضربات وتذكر أن له موعداً مع أخت محسن للزواج بدون علم أبيها، ومضى معها إلى المأذون الشيخ علي، وعقد قرانه عليها، ووقع مغشياً عليه من أثر الضربة فأُدخل المستشفى ثم عاد إلى البيت مثخناً بجراحه، ووراءه أخت محسن وأعلم أباه وأمه بزواجهما فجن جنونهما بينما كان أبو محسن وأم محسن في جنون كامل كذلك يبحثان عن ابنتهما ولا يعرفان شيئاً عنها، ووصلت القضية إلى عقدة كبيرة تشابكت المصالح والمواقف. استطاع السيد كمال بعدها وبعد توجهات حزبية في تأييد الوحدة أن يتجاوز الأزمة مع أحمد أو يصلح بين البيتين بيت أبي محسن وبيت أبي أحمد، ويمضي زواج أحمد بأخت محسن، ويفصل بين مراد وأحمد لاختلاف موقفهما من الوحدة، فصار مراد ضد الوحدة الفورية، وصار أحمد والسيد كمال مع الوحدة الفورية التي تمت فعلاً، وقامت الجمهورية العربية المتحدة. أما فضة فقد بعثت صاحبة البيت تسأل عن محسن وابنها حيث زارت خان الحرير وتعرفت على دكانه، وجاء نعيم ومقيم فدلاها على بيت محسن، وتنكرت هي وصاحبة البيت بصفتهما عرّافتان، ورأت ولدها ولعبت معه.
كان للسيد كمال صديق من المخابرات استغله في سجن مراد وإيقاعه في تهمة حرب الوحدة مع الشيوعي الذي عنده في المعمل، في الوقت الذي توثقت العلاقة فيه بين أحمد والسيد كمال، وبدأ أحمد بصفته من البعثيين يوجه انتقاداته للوحدة، واستقال من الجيش، بينما بدأ طارق رجل المخابرات يأخذ السيد كمال إلى الكباريه الذي تغني فيه فضة وعرفها فيه وسلبت لبّه، ثم صار يتردد عليها في بيتها ويغدق عليها من الأموال ما تشاء.
وعرفت فضة أن السيد كمال هو عم زوجها محسن الذي طلقها، وأبو زوجته زكية التي سرقت منها زوجها، وخططت كي تسيطر على ثروة السيد كمال فوهبها شقة خاصة، وأعطاها من الأموال ما تشاء، وتدخلت من خلال صلتها بالمخابرات الذين يترددون عليها فأخرجت مراد من السجن، وحفظ لها هذا المعروف، وصار كل الكبار يتهافتون على مرضاة فضة حتى دلف محسن ذات يوم إلى الحفل، فدعته وطلبت منه العودة فأبى وطلبت منه ابنه فرفض، فانتقمت منه فيما بعد وأخرجته من الحفل.
وذات يوم جاء السيد كمال ومعه محسن لزيارة فضة في بيتها، وعرف طبيعة العلاقة الرهيبة التي تربط عمه بمطلقته، وكيف رفض السيد كمال الزواج من فضة خوفاً على سمعته، بعد أن وعدها بذلك.
وتمر الأيام وتضيق أحوال التجار، ويقع السيد كمال في أزمة مالية عنيفة حيث يطالب بمليون ليرة سورية وهي صك دين عليه من البنك، فيمضي لبيروت ويحوّل المبلغ وعند عودته من بيروت يُقتل في حادث سيارة.
تحاول فضة مع محسن أن يعود لها فيرفض فتقيم دعوى عليه، وتأخذ حكماً شرعياً بحقها بالتردد على بيت محسن لرؤية ابنها بشكل دائم ثم تتطور الأحداث ويبدأ الصراع بين جماعة السراج والمخابرات التابعين له. والسلطة العليا للدولة ومخابراتها، وتُكشف مؤامرة السراج، ويقوم رئيس المخابرات بالقبض على مجموعة السراج وإيداعها السجن، وتبدأ محاولات الإصلاح لكن بعد فوات الأوان، حيث يقوم الانفصال ويلتجئ رئيس المخابرات لفضة، فتهرب معه على بيروت بسيارة مراد، ويحاصر الشباب الوحدوي مكان محسن كمشهد أخير على اندفاع الشعب للوحدة.
نقد المسلسل:
الجوانب الإيجابية:
1 – كان تعبيراً صادقاً ونقلاً حياً للبيئة الحلبية في سورية، واستطاع السيد كمال أن يمثل هذه البيئة أصدق تمثيل بنجاحه الباهر في أداء دوره.
2 – استطاع المسلسل أن يعرض البيئات الثلاث: المترفة من خلال بيت السيد كمال، والفقيرة البائسة من خلال بيت أبي عبد القادر، والبيئة المتوسطة من خلال بيت أبي محسن، وأن ينقل لنا بدايات التطور الاجتماعي إضافة إلى الجانب السياسي الفاعل في هذه البيئات، وخصوصاً الفتاة المنخرطة بالسياسة واختلاطها مع الناس.
3 – وبرزت أمامنا معالم البادية السورية على طبيعتها بسلبياتها وإيجابياتها من خلال دور فضة فيها وأهميتها بالنسبة لحياة أهلها وقومها.
4 – كما برزت حياة الذين يرتادون المقهى والكباريهات والأندية الليلية التي تغيب فيها الرقابة، وتنهار فيها القيم، ويمارسون ملذاتهم بعيداً عن الأعين.
5 – كانت القصة محكمة الحبك، غاية في الإثارة، تشد المشاهد بعنف لمتابعة حلقاتها، مع وضوح جانب المبالغة في حياة فضة، أن تصبح النديمة الخاصة للسيد كمال عم محسن.
6 – لقد كان الإخراج الفني موفقاً تسلط الأضواء على مواقع التأثير في المسلسل، وربط الجوانب الاجتماعية بالجوانب السياسية في توازن غير مخل في أي من الجانبين، يجعل المشاهد كأنه يعيش هذه الأحداث ويشارك فيها بعواطفه ومشاعره بحيث يجد كل مشاهد بغيته فيما يراه من أحداث وشخوص.
7 – إبراز دور المخابرات السورية وما فعلته في تشويه صورة الوحدة وارتباط رجالاتها بمواقع النفوذ في سورية، وإبراز عنصري الشراكة الرئيسيين عند رجال المخابرات الخمر والنساء، وتوظيفهما في تحقيق المآرب الشخصية بحجة المصلحة العامة، تكاد تكون الأساس في كل دولة شمولية لا حرية فيها للأحزاب والاتجاهات المتعددة إلا لاتجاه الدولة الحاكم.
8 – إبراز شعور الوحدة عند الشباب وارتباطه بعبد الناصر هو تعبير صادق عن الواقع بغض النظر عن خطئه وصوابه، فقد كان يمثل الشارع السوري والحلبي خاصة.
9 – عرض الحزب الشيوعي أفكاره وانتماءاته، كان عرضاً يمثل الواقع تمثيلاً كاملاً في معاقرة الخمر والفقر المدقع والإيمان بالواقع المحسوس.
10 – عرض أمين لمرحلة كاملة استغرقت قرابة تسع سنوات يستطيع المشاهد أن يتعرف عليها من خلال هذا المسلسل.
الجوانب السلبية في المسلسل:
1 – أكبر خطيئة في المسلسل أن تكون الشخصية الأولى فيه راقصة، وهذا يخرج المسلسل عن مساره الرئيسي لتصبح المتعة في الرقص والغناء ويتحول المسلسل إلى إثارة جنسية تبعد المسلسل عن هدفه الذي يريد الوصول إليه. هذه الخطيئة التي تتكرر دائماً في الأفلام والمسلسلات المصرية، وحاولت المسلسلات السورية البعد عن هذه الهوة، لكنها أخفقت هنا ووقعت في هذه الخطيئة.
2 – السيد كمال هو الموجه الحلبي الأول وهو الشخصية الأولى في المسلسل، أعطى صورة مشوهة سوداء عن حلب العريقة في أخلاقها ومبادئها وأصالتها، وأساء إلى سمعتها فهو مادي، وصولي، انتهازي، رأسمالي، استغلالي، جشع، ونحن لا ننكر وجود مثل هذه النماذج في المجتمع السوري عموماً، لكن أن يكون هو الصورة الأساسية للشخصية الحلبية تحمل إساءة كبيرة إلى الجانب الخلقي العريق في المجتمع الحلبي الأصيل، وقد يقال إن شخصية مراد هي التي تمثل هذا الجانب، لكن تقديم مراد بصفته ذلك الشاب الذي درس في أوربا وعاد ليضع علمه ومهارته في خدمة بلده، ورفع مستوى اقتصادها، يبقى مراد بمثل القلة القليلة من هؤلاء الشباب في هذا المجتمع، ولا يمثل القطاع الأكبر منه، والدليل على ذلك أن التجار صغارهم وكبارهم واقعين في مصيدة السيد كمال والذي يخرج عن إرادته لابد أن يتحطم. كنا نريد أن نشهد الوجه الأصيل الخلوق، الذي ينتصر في النهاية في صراع القيم في المجتمع السوري.
3 – في المسلسل شخصيتان دينيتان رئيسيتان هما الشيخ علي والحاج قدري، تعمد المؤلف أن يسيء إساءة بالغة إلى الدين من خلالهما مع حرصه أن يبرز نفسه حيادياً في هذا المجال، فالحاج قدري قد تبدو عنده أحياناً بعض النوازع الخيّرة، ويحاول أن ينصح لكنه في النهاية أداة مطواعة في يد السيد كمال، ينفذ له كل مآربه، ويستعين به كمال في كل المهمات الصعبة، فهو العراب للسيد كمال لزواجه من سعاد على رغم فارق السن الكبير، وهو مع أبي محسن هما اللذان سيشاركان السيد كمال في إنهاء زواجه، وهو الذي يقوم بإجراءات طلاق محسن من زوجته فضة استجابة لرغبة السيد كمال والد زوجته.
وهو الذي يمضي إلى مقيم ومقيم باسم السيد كمال يعرض عليهما بعض الصفقات الاستغلالية له، وبجانب الحاج قدري يطالعنا الشيخ علي الذي يمثل صورة المشايخ الجشعين الذين لا يهمهم إلا بطونهم.. يسيل لعابهم على الولائم الدسمة، ومن يسمونهم في سورية بـ (مشايخ السلتات) وينشدون الأناشيد لهم بذلك، وهذه هي شخصية (المأذون) في المسلسلات المصرية تتكرر في هذا المسلسل، فالصورة مهزوزة تشمئز منها النفوس، وتكره هذه النماذج الدينية.
4 – والهدف الأبعد الذي يحرص المسلسل عليه من هذا العرض هو تشويه صورة الدين من خلال ممثليه من جهة، وتشويه صورة الاتجاه الإسلامي عموماً من طرف آخر، فالتيار القومي عموماً والبعثيون خصوصاً يتهمون خصومهم من الإخوان المسلمين بأنهم أدوات في يد الإقطاع والرأسمالية، وخاصة في حلب حيث يبرز حزب الشعب كأكبر قوة تمثل الإقطاع والرأسمالية، وينجح في الانتخابات دائماً ويقود البلاد ضد الاشتراكية والوحدة، بل كانوا يحملون الإخوان المسلمين مسؤولية مواقف الدكتور الدواليبي بصفته عالماً إسلامياً إضافة إلى موقعه السياسي كأمين عام لحزب الشعب، ولم يكن الدواليبي يوم من الأيام عضواً في الحركة الإسلامية.
والمسلسل بهذا العرض يحقق الهدفين معاً: تشويه الإسلام من خلال عرض شخصيتين رئيسيتين، وتشويه صورة الحركة الإسلامية والتيار الإسلامي بصفته حليفاً أو أداة للإقطاع والرأسمالية في حلب. والسيد كمال وهو من أكبر وجوه حزب الشعب الذي كان ينادي بالوحدة مع العراق، وفسر موقعه في الساحة السياسية لذلك خاصة بعد قيام حلف بغداد، واشمئزاز الشعب السوري منه.
5 – ولا يكتفي المسلسل بموقفه من الإسلام والتيار الإسلامي عند هذا التشويه، بل يقدم مسخاً جديداً للحقائق من خلال شخصية (عادل) الشاب المتدين في الجامعة الذي يصطدم دائماً مع أحمد (البعثي الوحدوي الثوري) فهو ومجموعته ضد الوحدة وضد عبد الناصر، وواضح لكل ذي عينين القصد من هذا العرض.
فهو يقدم عادل ورفاقه بصفتهم من الإخوان المسلمين الذين كانوا ضد عبد الناصر، فهم بالتالي ضد الوحدة العربية، ثم تقيم كيف انطووا على أنفسهم أمام التيار اليسار البعثي الزاحف، من خلال شخصية عادل الذي امتلأ بالعنف وهجر بيته وأوى إلى مسجد يعيش في خط خلافاته مع أبيه، وكيف أن الشيخ علي كان يعذبه ضميره لتأييده أبا عادل في صفقته اللاأخلاقية حيث مضى معه للزواج من ابنة أبي لعادل، ثم عقدها تحت ضغوط أبي عادل له دون ابنه، وكيف ضعف أمام مغريات الفتاة الخرساء ثم تزوجها بعد ذلك، ولسنا نحن أمام الجزئيات الواردة في المسلسل بمقدار ذلك الانطباع العام الذي يحرص المسلسل على إبرازه وهو الطعن في وطنية (الإخوان المسلمين) وأنهم أعداء الوحدة العربية.
الشيء الذي تجاهله المسلسل تماماً هو أن أكبر مظاهرات قامت في سورية في تأييد الوحدة هي مظاهرات الإخوان المسلمين، وكنت آنذاك في السادسة عشرة من عمري مشاركاً فيها، والتي تحركت من المرجة في دمشق ومضت إلى البرلمان وكنت أحمل على أكتافي شباب شعراء الإخوان الهتافين بذلك وكلاهما حلبيان وهما الشاعر محمد منلا غزيل، والشاعر محمد الحسناوي، وتميزت هتافاتهم بأرفع المستويات. لا أزال أذكر منها:
هبي يا رياح الجنة هبّي علينا نحنا حققنا الوحدة الوحدة الزينا
هبي يا رياح الجنة من فلسطين هبي وهاتيلنا معك صلاح الدين
وأمضينا نهارنا كله في هذه المظاهرات.
فقد أثبت الإخوان المسلمون في سوريا أنهم فوق خلافاتهم وجراحهم وثاراتهم، وفرّقوا تماماً بين الوحدة وبين عبد الناصر، فعبد الناصر زائل والوحدة مبدأ خالد من مبادئ الإسلام، فمضوا مع المبادئ وتركوا الأشخاص. أيدوا الوحدة ولو كانت دولة الوحدة سوف تمضي بهم إلى المعتقلات والسجون.
بينما يقف المسلسل مخفياً تماماً هذه الحقيقة، وماضياً في خدمة التيار الحاكم في دمشق، بحيث يبقى الإخوان المسلمون ضمن اللوحة السوداء لأن هذا هو الذي يريده البعث الحاكم والطائفة الحاكمة.
6 – وإذا كنا شهدنا تحيّز المسلسل ضد (الإسلام) و(التيار الإسلامي) و(الإخوان المسلمين) ها نحن نعرض تحيزه مع (البعث) الحاكم في سورية، فشخصية (أحمد) هي التي تمثل حزب البعث في حلب، وشهدنا اندفاعه الجارف نحو الوحدة وقيادته المظاهرات، ومشاركته في المقاومة الشعبية أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ومواجهته للرجعيين أعداء الوحدة حتى أنه يتحدى كل هيمنة السيد كمال وسطوته، ويذل في السوق أمام التجار جميعاً بينما نشهده في الجزء الثاني يبتدئ الحديث عن سلبيات الوحدة عندما ابتدأ البعث يصطدم مع عبد الناصر ويتيح الفرصة كاملة لعرض كل مثالب الوحدة وأخطائها مع محاولة فتح مجال ضعيف للرد عليها من خلال موقف (سلوى) الرفيقة الحزبية التي بقي موقفها مع الوحدة، وارتفعت فوق حزبيتها وبقيت وحدوية (ناصرية للعظم، ورفضت مواقف (الرفاق الحزبيين) وطعنهم في الوحدة وحكومتها، لكن الخط العام يمضي في تأييد موقف حزب (البعث) ضد الأطراف جميعاً.
الطرف الأول: دعاة الاتحاد الفيدرالي ضد الوحدة الاندماجية حفاظاً على المكتسبات الديمقراطية السورية والاقتصاد السوري والذي كان يمثله مراد، وكان (خالد العظم) المليونير الأمر هو السياسي الذي قاد هذا الاتجاه وأبعد من اللحظات الأولى عن موقعه الريادي في التجمع القومي حيث كان وزيراً للدفاع.
الطرف الثاني: دعاة تأييد الوحدة مهما كان موقف عبد الناصر ورفض العمل ضدها والذي مثل التيار الشعبي العام البعيد عن الحزبية، وانضم إليه الرفيقة سلوى من الحزب، وناقشت رفاقها الحزبيين في خطأ مواقفهم.
والطرف الثالث: هو التيار الشيوعي الذي أعلن موقفه ضد الوحدة منذ اللحظات الأولى، وقد مثله خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري الذي فر إلى روسيا ولقي الشيوعيون حرباً لا هوادة فيها من عبد الناصر خاصة حين أقام عبد الكريم قاسم مع الشيوعيين في العراق على مرتاد الثورة الشعبية الوحدوية بقيادة الشواف، وأقصي عبد السلام عارف على ضوئها فحزب البعث مصيب في تبني الوحدة الفورية رغم ظهور أخطاء هذا الموقف، وحزب البعث مصيب في نقده لممارسات النظام الحاكم أثناء الوحدة، ولو أدى إلى الانفصال، وحزب البعث مصيب في تعاونه مع الشيوعيين ضد الرجعيين قبل الوحدة، ومصيب في حربه لهم بعدها، ومع ذلك نقول: ماذا يفعل المؤلف أو المخرج وهم في ظل هذا النظام.
7 – ومن المواقف التاريخية التي لا تنسى كذلك في قضية الوحدة والانفصال هي أن اثنين من قادة حزب البعث قد وقعوا على وثيقة الانفصال عن مصر، بينما رفض المراقب العام للإخوان المسلمين الأستاذ عصام العطار أن يوقع عليها، وبقي موقفه واضحاً في تأييده للوحدة رغم إعلان معارضته للدكتاتورية. صحيح أن المسلسل توقف عن إعلان الانفصال لكن الصورة التي عرضها هي صورة اندفاع شباب حلب للوحدة وقيامهم بالمظاهرات ضد الانفصال، ومحاصرتهم (محسن) الذي يمثل بقايا حزب الشعب المتهم بمحاربة الوحدة.
8 – (سلوى) الفتاة المندفعة للوحدة العربية والتي كسرت قيود (البعث) ولم تتقيد بتعليمات الحزب وعُرضت وهي تكسر قيود (التقاليد) وتتحدى أخاها وتهرب من البيت، وتنضم للمظاهرات ولا تكتفي بذلك، بل ترفع على رؤوس الشباب لتعلن هتافاتها وزغاريدها للوحدة، وهذا (التقليد) في ظاهره هو (دين) في حقيقته. والمسلسل يعرض بشكل غير مباشر التعصب الديني عند أخيها الذي يريد أن يمنعها من الخروج، ومقابل هذا المنع هو الانفلات الكامل بلا قيد، فتمضي أوقاتها ولياليها في السهر مع رفاقها الحزبيين، وتوافق على الزواج منهم بدون الرجوع إلى أهلبها وتختلط بمظاهرات الشباب وترمي حجابها وترضى أن تحمل فوق رؤوسهم للهتاف للوحدة، إنها دعوة إلى إقرار هذا الواقع واعتباره صواباً كاملاً مقابل رفض ذلك الواقع من ضرب أخيها لها، ومحاولة تزويجها من أمي جشع وإظهار البطولة في خنق المرأة.
الذي نود أن نقوله: أن الموقفين والتصرفين مرفوضان، فالإسلام لا يقر زواج الإكراه، والإسلام لا يقر الحبس في البيت، والإسلام لا يقر الضرب المبرح للفتاة، ومن جهة ثانية فهو لا يقر هذا الاختلاط المفرط وهذه العلاقات المتفلتة بلا حدود ولا قيود، ولا يقر رمي الحجاب وازدراءه. إن الموقف الوسط الصحيح يتجاوزه المسلسل، يمضي مع الموقف المتطرف الثاني دون أن يدع موقفاً لها معقول بين البيت والمجتمع ورسالة المرأة ضمن ثوابتها الإسلامية في بيتها ومجتمعها.
9 – والملاحظ كذلك في المسلسل أن (التدين) الذي يظهر به السيد كمال إنما هو خضوع للتقاليد، ففي الوقت الذي تباح فيه المشاركة في المباذل والمرافقة إلى أماكن اللهو والدعارة لا يتردد في ذلك إلا خوفاً من حديث الناس عنه، والذي يمنعه من الزواج من فضة هو خوفه على سمعته أن يقال أنه تزوج براقصة، وعندما يتاح له أن يسرق أموال الحزب لا يجد حرجاً في ذلك طالما أنه لم يره أحد ولم يحاسبه أحد.
ليس في المسلسل موقف ديني إلا إذا كان تعصباً وتزمتاً، أو خوفاً من المجتمع أما الدين الذي يحل مشاكل الأمة، ويسعد الإنسان بتطبيق تعاليمه، فلا وجود له إطلاقاً في المسلسل لأنه لا وجود له في ذهن المؤلف ولا في ذهن المخرج.
10 – ومع أن أصدق صورة شعبية لطيب الإنسان الحلبي ظهرت من خلال الحاج عبد القادر وزوجته، لكن سعاد الشخصية الرئيسية في الفيلم، تخرج كثيراً عن حدود اللباس الشرعي، وتمضي لتقود المصنع وكأنها في لباس السهرة، واختلاطها مع الجميع دون حجاب، أو التزام بالحدود الدنيا من اللباس الشرعي، لم يثر أخاها إطلاقاً ولم يطالبها أبداً بالحشمة والعفاف، لقد كانت المرأة العربية المسلمة تعمل بجوار أهلها وزوجها أشق الأعمال في القرية محافظة على لباسها الإسلامي بينما نراها هنا تنتقل من زينة إلى زينة، ومن لباس هو سمة العائلات الأرستقراطية وهم أول من تجاوزوا حدود اللباس الشرعي. كل هذا لم يثر عند الحاج عبد القادر أو زوجته كلمة أو غضباً أو عتاباً أو إشارة، وهذا مخالف للواقع العربي الإسلامي في مدينة مثل حلب، ودمشق..
وخلاصة القول: إن المسلسل نجح نجاحاُ فائقاً من خلال التأليف والإخراج والإنتاج في عرض الأوضاع السياسية والاجتماعية للمجتمع في البيئة الحلبية، ونقل صورة صادقة من خلال اللهجة والتعابير واللباس والديكور والأسواق والبيوت، لكنه من جهة ثانية كان متحيزاً تحيزاً كاملاً ضد الإسلام، ومتحيزاً تحيزاً كاملاً للبعث ومبادئه وتاريخه، وكان مشوهاً للحركة الإسلامية وموقفها من أهم قضايا الأمة، قضية الوحدة العربية، أو متجاهلاً تجاهلاً تاماً لدورها ووجودها في مكان آخر.
وهذه حلب اليوم لا تزال عريقة بأعرافها الإسلامية، وحماسها الإسلامي، ودورها الريادي ولا يزال البعث فيها محصوراً ضمن المواقع الرسمية ولعل مشاركتها الكبرى في معارضة النظام في بداية الثمانينات تؤكد هذه الهوية العربية الإسلامية لها، والتي نزعتها منها أحداث المسلسل وقدمت الشعب في حلب هواة لهو وطرب، وأهل مصالح وأنانيات، لا مبادئ عندهم إلا الاندفاع العاطفي من شبابها نحو الوحدة والحرية الاشتراكية.