نفسية الشيشان من خلال نشيدهم الوطني

نفسية الشيشان

من خلال نشيدهم الوطني

نجدت لاطـة

لا أكون مبالغاً إذا قلت إن النشيد الوطني لجمهورية الشيشان يُعبّر تماماً عن سمات هذا الشعب الأبي الذي لطالما قارع الغزاة الروس خلال القرون الطويلة . وهذا ما سنلمحه من خلال التحليل الآتي للنشيد الوطني لجمهورية الشيشان .

النشيد الوطني :

في ليلة مولد الذئب خرجنا إلى الدنيا

وعند زئير الأسد في الصباح سمَونا بأسمائنا

وفي أعشاش النسور أرضعتنا أمهاتنا

ومنذ طفولتنا علمنا آباؤنا فنون الفروسية

والتنقل بخفة الطير في جبال بلادنا الوعرة

لا إله إلا الله ...

لهذه الأمة الإسلامية ولهذا الوطن ولدتنا أمهاتنا                    

ووقفنا دائما شجعاناً نلبي نداء الأمة والوطن

لا إله إلا الله ...

جبالنا المكسوة بحجر الصوان

عندما يدوي في أرجائها رصاص الحرب

نقف بكرامةٍ وشرفٍ على مرّ السنين

نتحدى الأعداء مهما كانت الصعاب

وبلادنا عندما تتفجر بالبارود

من المحال أن ندفن فيها إلا بشرفٍ وكرامة

لا إله إلا الله ...

لن نستكين أو نخضع لأحد إلا الله

فإنها إحدى الحسنيين نفوز بها

الشهادة أو النصر

لا إله إلا الله ...

جراحنا تُضمّدها أُمّهاتنا وأخواتنا بذكر الله

ونظرات الفخر من عيونهنّ تُثير فينا مشاعر

القُوّة والتّحدّي

لا إله إلا الله ...

إذا حاولوا تجويعنا سنأكل جذور الأشجار

وإذا مُنع عنّا الماء سنشرب ندى الّنبات

فنحن في ليلة في ليلة مولد الذئب

خرجنا إلى الدنيا

ونحن دائماً سنبقى مطيعين لله .. ندافع عن الوطن

وندافع عن هذه الأمة

لا إله إلا الله

شعر أبو ذر أيد ميرو

تزاحم صور القوة من البداية :

في ليلة مولد الذئب خرجنا إلى الدنيا

يبدأ النشيد بثلاث صور مرعبة, بل في منتهى الرعب (ليلة مولد الذئب, عند زئير الأسد, في أعشاش النسور) فنفهم منها أن الشيشانيين يعيشون في مثل هذه الأجواء والأماكن.

البيئة الطبيعية للشيشان

جبال شامخة لا تعرف سهولاً ولا صحراء، وصخور صماء متناثرة هنا وهناك على سفوح الجبال, كل صخرة منها تحكي قصة حرب أو ملحمة أو شهيد. ووديان سحيقة ليس لها قرار, من ينظر إليها تزوغ عيناه ويفقد توازنه. وشلالات عالية تصمّ الآذان عند ارتطامها بالأرض, فالمياه هناك لا توحي بمعاني الرقة والانسياب. وذئاب ضارية تخرج من كل منعطف. وثلج شاخص طيلة أشهر السنة يجمّد الدم في عروق الرجال. في تلك الطبيعة القاسية ولد شعب الشيشان, وعلى توالي السنين والقرون طبعت نفسه بمعاني تلك الطبيعة.

ليلة مولد الذئب

والصورة الأولى (ليلة مولد الذئب) أكثر الصور الثلاث رعباً, لأن الذئب أكثر الحيوانات المفترسة وجوداً في بلاد الشيشان, والنساء العجائز الشيشانيات تحكي قصصاً كثيرة عنه, بحيث أصبح الذئب مصدر الرعب عند الأطفال، شأنه شأن قصص الغول أو الوحش في البلاد العربية.      

وتزيد صورة الذئب رعباً أن الحالة حالة ولادة, لأن حالة الولادة لها رهبة حتى ولو كان المولود إنساناً, فكيف إذا كان المولود ذئباً, لا شك أن الصورة تزداد رعباً. وكما أن المرأة تصيح صياحاً شديداً كذلك الذئبة التي تلد، فهي تعوي عواءً شديداً فتزداد الصورة رهبة  ورعباً أيضاً. فكأن النشيد يريد أن يقول: إن الشيشانيين ولدوا مع ولادة الوحوش,  وولدوا ـ أيضاً ـ ليكونوا النقيض المضاد  للوحش فلا تكون له سيادة ما داموا ـ هم ـ  على قيد الحياة.

وتضيف الصورة الأولى رهبة إلى رهبتها  في أن الليل هو مكان ولادة الذئب وزمانها، لأن الذئب ـ عادة ـ لا يخيف في النهار مثلما هو مخيف في الليل. فتكون الصورة الأولى كالآتي: (الذئبة في حالة ولادة, عواؤها شديد, الزمان هو الليل)  ففي هذا الجو الرهيب ولد شعب الشيشان. لذا كان إحتفاء النشيد بهذه الصورة شديداً حيث كررها مرة أخرى وذلك عند مجيء ذكر التحدي الموجود في نهاية النشيد, ولكي تلقي الصورة بظلالها على مسار النشيد كله.

واقرأ معي قوله( خرجنا إلى الدنيا) كي تشعر بأن الشيشانيين جاؤوا من قوة, لأن عملية الخروج عادة ما تكون أشد وأصعب من الدخول. والشاعر لم يقل( نزلنا إلى الدنيا) أو( جئنا إلى الدنيا) أو (ولدنا) لأن كل هذه الاختيارات لا تفي بمعاني (خرجنا إلى الدنيا) .

وعند زئير الأسد في الصباح سمَونا بأسمائنا

من عادة البطل أو الشجاع أو الفارس أن ينتقي لنفسه لقباً ملائماً لشخصيته لفظاً ومعنى، والعرب كانت تفعل شيئاً من هذا عند تسمية أولادها, فنجد أسماء القعقاع, أرطأة, علقمة, حمزة, عنترة...) تفاؤلاً منهم بأن يكون المولود مثل اسمه. والشاعرـ هنا ـ اختار زمان تسمية الأسماء لحظة زئير الأسد، كي يلقي هذا الزئير بظلاله على الأسماء التي ينتقيها الأب لابنه, أو كأن الآباء يتفاخرون أمام الأسد قائلين: ها هو زئيرك وها هي أسماؤنا.

في أعشاش النسور أرضعتنا أُمهاتنا

هذه هي الصورة الثالثة, ففي أعشاش النسور تمت تربية أطفال الشيشان وحضانتهم ورضاعتهم، هكذا يتخيل رجال الشيشان مرحلة تربيتهم, وإلا فمن أين جاءتهم هذه القوة وهذه الشجاعة؟. وكثيراً ما ينسب الناس إلى بعض الأبطال الأسطوريين أنهم رضعوا حليب السباع أو حليب الأسود, ولذلك كانوا أبطالاً أقوياء، أي أنهم تربوا مع السباع والأسود، وخير مثالٍ القصص التي تحكي عن طرزان ربيب الأسود والنمور. ففي مخيلة الإنسان أنّ من تربى بين حيوانات الغابة لا بدّ أن يكون بطلاً وشجاعاً. والأمر نفسه هنا مع الشيشانيين الذين يتخيلون أنهم تربوا في أعشاش النسور. ولفظة (النسور) تلقي بظلال القوة والهيمنة والرعب على هؤلاء الشيشانيين ، لأنه كما هو معروف أنّ النسر سيد الطيور.

ونظرات الفخر من عيونهن تثير فينا مشاعر

القوة والتحدي

هؤلاء الشيشانيون عندما يحين الجدّ وتشتعل الحرب لا يبالون بكل جميل حولهم، حتى ولو كان هذا الجميل عيون الشيشانيات. وقبل أن أتابع هذه الفقرة أتوقف قليلاً عند نساء الشيشان كي ألقي الضوء على جمال الشيشانيات. فأقول إن الشيشان هم جزء من سكان بلاد القوقاز، والشركس والداغستان والأنجوش هم بقية تلك البلاد. وهؤلاء جميعاً يشكلون أمة واحدة في دينها وعاداتها وتقاليدها، وقد قاد الإمام شامل (وكان داغستانياً) هذه الشعوب الصغيرة ضدّ القياصرة الروس في القرن التاسع عشر، وقدّم نماذج رائعة في البطولة والجهاد.

ويروي أحد الأوروبيين المؤرخين عن جمال أهل القوقاز فيقول إنه تجوّل في كثيرٍ من بلاد العالم فلم يجد أجمل من نساء بلاد القوقاز. والكاتب الروسي المشهور (تولستوي) ذكر شيئاً من هذا، بل وألف قصة اسمها (حسناء القوقاز).

فالجمال الموجود في عيون الشيشانيات يتحول إلى قوة تشحن نفوس الرجال وتمدها بمعاني القوة والشجاعة . وأتساءل: أي نساء هؤلاء إذا كان الفخر لا الضعف يشعّ من عيونهن؟ وهذا يذكرنا بنفسية خولة والخنساء.

إذا حاولوا تجويعنا سنأكل جذور الأشجار

وإذا مُنع عنا الماء سنشرب ندى النبات

نشعر هنا أن الشيشانيين يفضلون الحياة القاسية على الحياة الذليلة، ولو وصلوا إلى درجة أنهم يأكلون جذور الأشجار ويمصون ندى النبات.

إيحاءات التهليل المتكرر

وهذا التهليل (لا إله إلا الله ...) المتكرر في نهاية كل فقرة يوحي بأن هذه القوة وهذه الشجاعة النادرتين مرتبطتان بمعاني تعاليم الإسلام، فالقوة يستمدونها من الله، ويضعونها في سبيل الله، والشجاعة يُبرزونها عند الصعاب وعند حاجة الأمة إليها.

ونفوسهم تأبى الخضوع لغير الله، فحياتهم إما نصر وعزة، وإما موت في سبيل الله:

فإنها إحدى الحسنيين نفوز بها

الشهادة أو النصر

لا إله إلا الله ...