شخصية المتديّن في السينما العربية
شخصية المتديّن
في السينما العربية
نجدت لاطة
المتتبع للسينما العربية يرى الأضواء فيها مسلطة على جوانب محددة من حياة الناس, دون الجوانب الأخرى. وأحيانا تقترب الأضواء من تلك الجوانب الأخرى المهملة, ولكن لا لتصورها بكل جلائها وواقعيتها وإيجابياتها وسلبياتها,وإنما لتبرز سلبياتها فقط وتهمل الإيجابيات, فتتشكل في ذهن المشاهد صورة قاتمة عن تلك الجوانب.
وأهم الجوانب التي تم إبراز سلبياتها دون الإيجابيات شخصية المتدين, فقد شوهت صورته بشكل كبير, حتى خيل للمشاهد أن عامة المتدينين يتصفون بتلك الصفات السلبية.
وأنا في مقالي هذا لن أتناول أسباب تشويه صورة المتدين لأن الكل يعرفها, وإنما أريد أن أبيّن شخصيته بصورتها التي ظهرت في الأفلام العربية, لنرى حجم الظلم الذي وقع على المتدينين أجمع.
بداية لا أنكر أن بعض المتدينين سلبيون في الحياة, فنجد لديهم التعصب الأعمى والتحجر الفكري والتطرف السلوكي, مثل تطبيقهم بالقوة لبعض مفاهيم الإسلام الثانوية في مجتمع ينقصه الكثير من أساسيات الإسلام. وهذا خطأ كبير, وقد حذر العلماء منه ومن خطورته.
وأتساءل : كم نسبة هؤلاء المتدينين المتعصبين في المجتمع؟ الجواب: هم قلة, والواقع يشهد بذلك. والكل يعرف أن هناك أعداداً كبيرة من المتدينين المعتدلين, سواء أكانوا من الجيران أو من الأقارب أو من الأصدقاء. ولا ننسى الجامعات والنقابات والبرلمانات التي تكتظ بالمتدينين المعتدلين الذين تنتخبهم جموع الشعب, بل نجدهم يفوزون في كثير من المواقع الحساسة كالاتحادات الطلابية والنقابية. أما المتدينون المتعصبون فيندر أن نصادفهم في حياتنا. إذن, فلا يجوز أن نحاسب المتدينين المعتدلين الكثرة بجريرة غيرهم القلة.
وقد تم التركيز في السينما العربية على المتدينين المتعصبين بشكل دقيق ومدروس, بحيث ترى أن بعض المشاهدين يشتمونهم ويلعنونهم. وكحالة نفسية فإن المشاهد يكره عالم المتدينين كله, لأن صورة الجزء شوهت صورة الكل. ولعل الأفلام الآتية توضح صورة المتدين كما ظهرت في السينما العربية.
الإرهاب والكباب
في فيلم "الإرهاب والكباب" للكاتب وحيد حامد وإخراج شريف عرفة ظهر المتدين في صورة موظف ملتحِ يترك عمله خلال تأدية الوظيفة لكي يصلي في داخل مكتبه, في وقت ليس فيه صلاة فريضة, فقد كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً. فيعترض عليه المراجع أحمد (عادل إمام) قائلاً له: يا شيخ، قضاء حاجات المراجعين أهم من الصلاة في هذا الوقت. فيردّ الموظف المتدين عليه: يا كافر يا عدو الله أتنهاني عن الصلاة؟ ويحدث بينهما شجار وتقع المشكلة التي تكون على حساب الموظفين والمراجعين الذين وقعوا رهائن كما هو معروف في قصة الفيلم .
والكاتب وحيد حامد يضع الموظفين والمراجعين جانباً ويأتي إلى هذا الموظف المتدين الذي تجاوز الخمسين من العمر وبدا الشيب في شعره ويجعله يقع في فتنة المرأة المومس هند(يسرا), وكأن المتدين هو الإنسان الوحيد الذي يضعف أمام إغراءات النساء, علماً بأن المتدين ـ عموما ًـ لديه رادع ديني غير موجود عند كثير من الناس.
والأعجب من ذلك أن المتدين ظهر في أحد المشاهد وهو يتحدّث مع المومس وبُسمعها كلمات غرامية مثل(يا حلوة) بزعمه أنه يدعوها إلى التوبة وإلى الرجوع إلى الله. فتقول له المومس: هو يلي بينصح بيبص مثل هذه البصة؟ لأن المتدين حين كان يدعوها إلى التوبة كان ينظر إليها نظرات لا عفة فيها.
فالكاتب أراد أن يُفهم المشاهد أن بعض المشكلات في حياتنا تقع بسبب سوء تصرف المتدينين الذين يفهمون الدين فهماً مغلوطاً. وأنا لا أنكر أن بعض المشكلات تقع ـ فعلاً ـ بسبب هذا النوع من المتدينين, ولكن حين نظهر ونقدم هذا النوع فقط نكون قد ظلمنا المتدينين أجمع. فلو أن الكاتب أتى بشخصية متدينة أخرى معتدلة ومتفهمة لأمور الدين بشكل صحيح وسليم لما اعترض عليه أحد, ولكانت قصة الفيلم ـ حينئذ ـ من أروع القصص التي تدعو إلى الخير وتحارب المفاهيم الخاطئة للدين. ولو كان هذا الفيلم مختصاً بهذا النوع من المتدينين, وكانت هناك أفلام أخرى مختصة بالمتدينين المعتدلين لما تضايق أحد أيضاً. أما أن تظهر شخصية المتدين مشوهة دائماً فهذا أمر دُبر بليل.
طيور الظلام
في فيلم "طيور الظلام" للكاتب وحيد حامد وإخراج شريف عرفة أيضاً, ينحو فيه الكاتب منحى آخر في تشويه صورة المتدين. فقد طرق في هذا الفيلم قضية دور المتدينين في الوصول إلى أغراضهم وأهدافهم بطرق غير شرعية وغير رسمية كالرشوة والخدمات المشبوهة مقابل قضاء طلباتهم من قبل المسؤولين في الدولة .
وطيور الظلام هم الخفافيش, والخفافيش تعيش حياتها في ظلام الليل ولا تحب النور والضياء. والمعني بـ "طيور الظلام" في الفيلم شخصان, الأول: المحامي علي ( رياض الخولي) وهو المتدين. والثاني: المحامي فتحي نوفل( عادل إمام) الذي يُرافع في قضايا مشبوهة كالجنس وغيره.
والمحامي علي ـ المتدين ـ لا يقوم بأعمال غير أخلاقية مثل التي يقوم بها المحامي فتحي نوفل, وإنما يظهر عفيفاً أمام إغراءات النساء ولا يشرب الخمر وما إلى ذلك. ولكن الأحداث تُشعر المشاهد بأنه يقوم بأعمال سياسية مشبوهة, فيقف المشاهد منه موقف سلبياً.
وفي نهاية الفيلم تظهر الشخصيتان ـ المحامي علي والمحامي فتحي نوفل ـ وهما تقتسمان المسؤوليات في البلد. الأول وهو المحامي فتحي نوفل وله الوزارات, والثاني وهو المحامي علي ـ المتدين ـ وله النقابات. فيشعر المشاهد ـوقد توّلد في نفسه كره شديد للشخصيتين ـ أن البلد تحت سيطرة أخطبوطين كبيرين, أحدهما المتدين ومن وراءه من المتدينين, لأن المحامي علي كان كثيراً ما يتكلم بضمير الجمع( نحن, نريد... الخ ) . فصورة المتدين هنا أخذت شكل السياسي المشبوه, وهو يختلف عن صورته في فيلم" الإرهاب والكباب", أو بمعنى آخر أخذت شخصيته في هذا الفيلم وجها آخر أكثر خطورة.
الإرهابي
يمكن أن نعتبر فيلم "الإرهابي" للكاتب لينين الرملي وإخراج نادر جلال أكثر الأفلام العربية تشويها لصورة المتدين, لأن صورته في هذا الفيلم أخذت أشكالاً متعددة وليس شكلاً واحداً كما في الفيلمين السابقين. وقد تم حبك مجريات الأحداث بدقة متناهية, وأُعطي الفيلم إمكانيات ضخمة, ولعل كاتبه ومخرجه أصابا ثلاثين عصفوراً بحجر.
بدت صورة المتدين ـ وهو الإرهابي علي (عادل إمام) ـ وهو يدمر كل المظاهر التي يعتقد أنها مصدر الفساد في البلد كمحلات بيع الفيديو وقتل السائحين الأجانب. وظهرت المجموعات الإرهابية التي ينتمي إليها الإرهابي علي كالحة الوجه, تلبس زياً موحداً, وتعيش في أماكن مهجورة تخيّم عليها الكآبة وروح الشر، وتسيّر هذه المجموعات من قبل أمير لها, له عليهم حق الطاعة العمياء. فيشعر المشاهد كأنه أمام عصابة من الحشاشين ومهربي المخدرات, وأنه أمام أُناس متطرفين في كل نواحي الحياة, في أشكالهم وأفكارهم وبيوتهم ونظام حياتهم.
وحرص الكاتب أن يُطلع المشاهد على نفسية المتدين الذي أخذ في هذا الفيلم شكل الإرهابي, فأظهره وعينه شاردة وراء النساء، والمرأة الجميلة التي يراها في الشارع نجده يراها في منامه وهو يعاشرها في فراشه. بمعنى أن المتدين يعيش حالة كبت جنسي توّلد عنده ـ بحسب نظريات علم النفس ـ العنف والعدوان على الآخرين.
وإن أي إغراء جنسي يتعرض له المتدين يضعف أمامه ويستجيب له مباشرة دون رادع ديني أو أخلاقي, وهو ما حدث له مع الفتاة المتحررة فاتن(حنان شوقي) حين كان يلاعبها لعبة الورق. وتزداد صورة المتدين قتامة , وذلك حين يسرق الإرهابي علي أموال الطبيب 0(صلاح ذو الفقار), بحجة أن الناس ـ برأيه ـ كفار لا عهد لهم ولا ذمة, فأموالهم حلال ونساؤهم جوار وسبايا لدى الإرهابين كما قال له أميره الأخ سيف(أحمد راتب).
ولكن إشكالية الفيلم ليست في هذه الصورة السوداوية التي رسمها الكاتب لينين الرملي لعالم المتدين ونفسيته وأفعاله, وإنما الإشكالية في شيء أبعد من ذلك وأخطر، وهي أن الإرهابي ـ عموماً ـ ممكن تغييره، وقد طرح الكاتب حلاً لذلك, وهو نقل الإرهابي من البيئة التي يعيش فيها مع الإرهابين إلى بيئة أخرى كبيئة الفتاة سوسن(شيرين) التي صدمت الإرهابي علي, فقد تغير فكره وسلوكه في البيئة الجديدة التي عاش فيها خلال العلاج, بمعنى أن الإرهابي عندما يعيش وسط الناس يتغير ويبتعد عن الإرهاب والتطرف.
وأتساءل: هل الحل الذي طرحه الكاتب لينين هو الحل الصحيح لمشكلة التطرف والإرهاب؟ وهل في استطاعتنا أو في استطاعة الدولة أن تُهيىء لكل إرهابي بيئة كبيئة الفتاة سوسن كي يتم تغيير فكره؟ ولو افترضنا أن"الإرهابي علي" عاش في بيئة مختلفة عن بيئة الفتاة سوسن, كأن عاش ـ مثلاً ـ في بيئة عادية, ولم يجد في هذه البيئة حباً ولا غراماً ولا مرفهات ولا أفكار الكاتب فؤاد مسعود(محمد الدفراوي). لأن هذه الأشياء هي التي عملت على تغيير فكر الإرهابي علي. وقد ذكر الكاتب لينين ما يؤيد ذلك, فقد جاء في مجلة روز اليوسف العدد(3426) على لسان الكاتب: (أن الإرهابي ليس من السهل تغيير موقفه أو استبدال يقينه بيقين آخر, لكنه إنسان يمتلك مشاعر, لذا يمكن للعاطفة أو الحب أن تبدل مواقفه). فالسؤال الذي يأتي بعد الافتراض: هل سيتغير الإرهابي في البيئة العادية؟ الجواب: قد لا يتغير, بل على الأكثر أنه لن يتغير. لأن الإرهابي يعرف أنماط وأحوال البيئة العادية, بل وكلنا نعرفها وليس الإرهابي فقط .أما البيئة التي عاش فيها الإرهابي علي مع الفتاة سوسن فهي ليست معروفة بكل تفصيلاتها عند الناس ولا سيما عند الإرهابين, باعتبارها بيئة أرستقراطية مقتصرة على الأغنياء فقط الذين هم جزء صغير من المجتمع. ومن غير المعقول أن نوجد لكل إرهابي بيئة أرستقراطية لكي نغيره. ومن غير المعقول ـ أيضاً ـ أن نوجد له جواً غرامياً وحبيبة ذات دلال وجمال لكي تساعده في الانتقال إلى الحياة الجديدة.
أنا لا أدري كيف يفكر هؤلاء الكتّاب, ألم يجد الكاتب لينين الرملي إلا الحب والغرام لحلّ مشكلة الإرهاب؟ لم يخفَ افتراضي الذي ذكرته قبل قليل عن الكاتب، لكنه أراد أن يفهم المشاهد ـ من خلال إشكاليته التي طرحها في الفيلم ـ أن المتدينين لا سيما المتطرفين يحقدون على المجتمع بسبب الحرمان والفقر اللذين يعيشهما بعضهم, لا بسبب الفساد المنتشر في كل مكان.
ولو أن الكاتب عالج قضية الإرهاب بدعوته إلى إبعاد مظاهر الفساد الفاضح من المجتمع باعتبارها المسبب الأول للإرهاب, لكان أجدى بأن تحترم قصته ويشاهد فيلمه, أما أن يلقي اللوم على الإرهابين فقط دون الآخرين الذين يسمحون بالفساد ويروّجون له فهذا أمر مرفوض.
ومما يؤسف له في هذا الفيلم(أي فيلم الإرهابي) أن الكاتب أتى بشخصية متدينة أخرى معتدلة وسوية في أخلاقها وأفكارها, ولكن ـ للأسف ـ لم يجعلها من المسلمين, وإنما جعلها من المسيحيين الأقباط. فقد كان المسيحي هاني( مصطفى متولي) خلوقاً ومحترماً يقوم بأداء العبادات المسيحية على أكمل وجه, وظهر وهو صائم, علماً بأن المسيحيين العاديين لا يصومون, وقد عشت قرابة عشرين سنة من عمري في بيئة مسيحية فلم أجد أحداً منهم صائماً, بل لم أجد متديناً. لأن التدين عند المسيحيين مقصور على الرهبان والقساوسة. ولكن حين يكون هدف الكاتب تشويه صورة المتدين المسلم فممكن اختراع أديان كاملة. وقد ذكرت مجلة روز اليوسف في العدد نفسه(3426) أن البابا شنودة تدخل في أحداث فيلم " الإرهابي" وغيّر مجراه لصالح المسيحيين. أما المسلمون فلا بواكي لهم. وأما شيخ الأزهر ومفتي الديار فهما في غفلة يعمهون.
قد يعترض عليّ القارىء فيقول: لماذا جعلتَ "الإرهابي علي" من المتدينين؟ فأجيب: أن الإرهابي ـ عموماً ـ مادام يأخذ شكل المتدين في مظهره وبعض أفعاله كالصلاة وغيرها, فإنه يبقى محسوباً على المتدينين, ولكن شذ في بعض أفكاره وأعني هنا الأعمال الإرهابية. وشيء آخر, الكاتب لينين لم يقدم التدين السليم المعتدل كبديل للتدين المتطرف, وإنما قدم الحب والغرام كعلاج فعّال لهؤلاء المتدينين المتطرفين.
وخلاصة الأمر فإن المتدين لم يحظ من السينما العربية إلا بتشويه صورته. ومن خلال
هذا التشويه ستنطبع في ذهن المشاهد العربي فكرة عدم وجود تدين حقيقي في مجتمعنا
المعاصر الذي نعيشه.