هوليود في خدمة البيت الأبيض

 هوليود في خدمة البيت الأبيض

السينما . .

كيف تفتن العالم بالنموذج الأمريكي ؟

نجدت لاطة

        مع تدشين مصطلح "العولمة" كان هناك مصطلح آخر يضاهيه بل ويتفوق عليه وينال اهتمام الكبار وهو الذي طرحه زيجنيو بريجنيسكي مستشار الأمن القومي إبان إدارة كارتر. ذلك المصطلح هو tittytainment وحسب رواية "بريجنيسكي" فهو مصطلح منحوت من كلمتين tits ويعني حلمة الثدي في إشارة إلى الحليب الذي يفيض عن ثدي الأم ـ ويكون قليلاً كما هو معلوم ـ كناية عن قلة الغذاء. أما tainment فهي اختصار لكلمة tertainment ـen أي التسلية. فيصبح المصطلح خليطاً بين التسلية المخدرة  والتغذية الكافية التي يمكن من خلالها تهدئة خواطر سكان المعمورة. لأن 80 % من العالم يملكون 20 % من الموارد و20 % من العالم يملكون 80 %.. فينبغي أن نصنع لهؤلاء الفقراء الوهم  والمخدرات المسلية حتى نضمن ولاءهم وعدم ثورتهم على النظام العالمي الجديد.   والخطير في هذا المصطلح هو وروده على لسان أحد مهندسي السياسة الأمريكية حتى الآن وهو بريجنيسكي .. أردت أن أُظهر هذا الأمر بداية حتى نفهم أن السينما في أمريكا ما هي إلا خيال في أعين فقرائنا، وغزو ثقافي لشبابنا، وأحياناً أخرى سوط لكل من تسول له نفسه المساس بأمريكا.

       فالسينما هي التي تُشكل عقلية الأجيال القادمة وممارساتهم .. وحتى ملابسهم ..!! في إطار قرية صغيرة تضم العالم كله ومدخل هذه القرية هو تلك الإشارات والومضات الإلكترونية التي تظهر على شاشات السينما والتلفاز .

      السينما والسوط : فالسينما ـ واسمها بالمناسبة شاشة الوهم والخيال ـ قضية أمن قومي لضمان تدجين آمال الفقراء وتدجين المعارضين.

        كانت السينما الأمريكية دائماً سوطاً في يد السياسة الأمريكية تؤدب به كل من يخرج عليها .. فإذا احتجت الصين كانت في انتظارها كتيبة كاملة من السينمائيين تظهر وحشية الصين وامتلاكها الأسلحة النووية وغياب الحرية .. وإذا شكك أحد في الجيش الأمريكي وروحه المعنوية كان فيلم " إنقاذ الجندي راين " في مواجهته , وإذا ادعى أحد وحشية الحضارة الأمريكية في هيروشيما خرج علينا فيلم " بيرل هاربر" ليصور مأساة الجيش الأمريكي وكأن أمريكا هي المظلومة والمقهورة ولها كل الحق في الرد على الوحشية اليابانية .. ولو بالقنبلة الذرية, وإذا تحركت الشعوب الإسلامية وزاد اعتناق الناس في الغرب للإسلام خرجت مجموعة من الأفلام تظهر الشخص العربي دموياً يتقرب إلى الله بالقتل والتخريب. ولعل آخر هذه الأفلام فيلم "الحصار" لبروس ويلز.

      أين الخلل؟

        وفي الوقت الذي توظف فيه السينما الأمريكية للحفاظ على الإطار القيمي للثقافة الأمريكية نجد دعوات تنادي بالفن من أجل الفن .. فالعمل السينمائي لا هدف وراءه ولا قيمة تسنده إلا العمل السينمائي, والقيم والمثل والأخلاق والتربية لها مؤسسات أخرى كالمساجد والمدارس والجمعيات الخيرية .. فقط.

        وهذا منطق سخيف في عالم يستخدم كل الوسائل أسلحة يدافع بها عن نفسه ويهاجم بها الآخرين .

        فالسينما هي المسيطرة الآن على الثقافة والتوجيه بعد أن ضاع دور الكتاب وتراجعت الوسائل المسموعة فأصبح البصر والنظر المنفذ الوحيد إلى العقول والعواطف وحتى الضمائر.

        الأحداث الأخيرة في أفغانستان أعادت ذكريات الفيلم الأمريكي الضخم "رامبو" الذي خصصت هوليوود الجزء الثالث منه للحرب التي تدور بين الأفغان و الروس في الثمانينيات، ولكن لم يكن هذا الاهتمام في هوليوود بالحرب الأفغانية لأجل سواد عيون الأفغان الذين وقفت أمريكا معهم في تلك الحرب, و إنما لاستعراض عضلات الجندي الأمريكي على تلك الأرض بزعمها ـ أي أمريكا ـ أنه لا يوجد منافس له على وجه المعمورة.

        ويظن البعض أن هوليوود ـ وهي معقل صناعة السينما الأمريكية ـ بعيدة عن السياسة الأمريكية التي يصنعها قادة البيت الأبيض, وأنه لا يوجد أدنى ارتباط بين الاثنين, باعتبار هوليوود مصنع أفلام لتسلية الشباب بقصص الجنس والعنف ولاشيء غير ذلك. ولكن المتابع للسينما الأمريكية يجد في خفاياها غزواً فكرياً مدروساً ومدعوماً من أعلى سلطة في أمريكا, وأن هذا الغزو الفكري يخدم كافة المصالح الأمريكية المختلفة: السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية. وقد تنبه لخطورة هوليوود الرئيس السوفييتي السابق" خرتشوف" الذي قال بأنه" يخشى هوليوود أكثر من خشيته الصواريخ الأمريكية العابرة للقارات" .

        وقد أدرك ذلك أيضاً الممثل الفرنسي العالمي" آلان ديلون" فقال مخاطباً شعبه الفرنسي: "ألم أقل لكم منذ ثلاثين سنة إن أمريكا تغزونا بأفلامها ". وفي هذا الصدد يذكر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش

ـ الأب ـ الذي أشرف على هندسة المراحل الأخيرة من الانهيار السوفييتي أن مدير شركة " مترو جولدوين ماير" كان يقول له: إن الهمبورجر والجينز وهوليوود وشركات السجائر هي التي حسمت الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

        ولا غرو في أن أقول إن السينما الأمريكية ترافق السياسة الأمريكية الموجهة إلى العالم وتعمل معها جنباً إلى جنب وكأن هوليوود وزارة تابعة للبيت الأبيض لا يقل شأنها عن وزارة الخارجية أو عن البنتاجون.

        وسوف أتحدث عن نموذجين للسينما الأمريكية يبرزان بوضوح معالم الغزو الفكري لهذه السينما, النموذج الأول خاص بفترة الثمانينيات, والنموذج الثاني خاص بفترة التسعينيات, والنموذجان لعبا دوراً خطيراً في تغيير بعض المفاهيم التي سادت في هذين العقدين .

        وكون معظم رواد السينما في العالم من فئة الشباب فإن السينما الأمريكية تكون قد أصابت في المقتل كما يقولون .

        ـ النموذج الأول: فيلم " رامبو" المكون من ثلاثة أجزاء.

        كل جزء من هذا الفيلم له هدف يختلف عن الجزأين الآخرين و"رامبو" اسم لبطل الفيلم, ويقوم بأداء الدور الممثل  سلفستر ستالوني و"رامبو" جندي أمريكي عائد من حرب الفيتنام يحمل كل مرارة الهزيمة التي لحقت بالجنود الأمريكيين من قبل الشعب الفيتنامي المقاتل.

        ـ الجزء الأول: يعتبر هذا الجزء توطئة وتمهيداً للجزأين الثاني والثالث, وتجري أحداثه على الأرض الأمريكية من خلال حوادث فردية تقع مع "رامبو"، وهو لا يحمل من الأهداف إلا استعراض العضلات وقوة الجندي الأمريكي "رامبو" فكأن الفيلم يريد أن يقول للمشاهد إن صورة "رامبو" التي حملت كل معاني القوة هي الصورة الحقيقية للجندي الأمريكي, وأن هزيمة أمريكا في فيتنام كانت نتيجة أخطاء سياسية وقعت بها الحكومة الأمريكية, وليس نتيجة ضعف عسكري في الجيش الأمريكي.

        ـ الجزء الثاني: سيعمل"رامبو " في هذا الجزء على تحطيم أسطورة القوة الفيتنامية التي هزمت الجيش الأمريكي, لأن قوة الشعب الفيتنامي كانت قد تحولت في العالم ـ في فترة السبعينيات ـ إلى ما يشبه الأسطورة,

ومازلت أذكر وأنا في مرحلة الطفولة أننا كنا نغني أغاني خاصة بالانتصار الساحق للفيتناميين على أمريكا.

        وتجري أحداث هذا الجزء من خلال عودة "رامبو" إلى فيتنام لتحرير الأسرى الأمريكيين المحتجزين في أحد المعسكرات الفيتنامية.

        ويمكن أن أحصر هذا الجزء في محورين اثنين يتم خلالهم تحطيم الأسطورة الفيتنامية وإعادة رد الاعتبار لقوة الجيش الأمريكي بعدما تزعزعت في أذهان شعوب العالم .

        ـ المحور الأول: تشويه صورة الشعب الفيتنامي وقد تم ذلك من خلال الآتي:

       1ـ الفتاة الفيتنامية التي أسند إليها دور البطولة النسائية, والتي تعمل لصالح الاستخبارات الأمريكية, حيث قامت بمساعدة "رامبو" بتحرير الأسرى الأمريكيين, ولا  يخفى على   القارىء أ ن دور هذه الفتاة سيوحي للمشاهد أن جزءاً من الشعب الفيتنامي خائن لبلاده, حيث رضيت الفتاة وأبوها ـ الذي قتله الجنود الفيتناميون من قبل ـ بالعمل ضد مصلحة الوطن .

       2 ـ معاملة الجنود الفيتناميين للأسرى الأمريكيين: فقد كانت المعاملة سيئة جداً ويمكن أن نشبهها بالبربرية, فظهر الأسرى الأمريكيون بحالة مزرية جداً, والفئران تلعب بين أرجلهم وتأكل في أجسادهم, وظهرت المعاملة السيئة أيضاً عندما وضع الجنود الفيتناميون "رامبو" بعد أسره في مياه القاذورات الخارجة من الحمامات, مما أعطى صورة همجية للشعب الفيتنامي الذي لا  يراعي النواحي الإنسانية للأسرى.  

       3ـ القوة العسكرية الساذجة للجنود الفيتناميين وهم يطاردون "رامبو" فلا توجد لديهم خبرة عسكرية ولا قوة جسدية, بالإضافة إلى خضوعهم المهين للضباط الروس الذين يسيطرون على المعسكرات الفيتنامية.

        ـ المحور الثاني: إبراز قوة الجيش الأمريكي, والجندي الأمريكي, وقد تم ذلك من خلال:

       1ـ التكنولوجيا المتقدمة التي يتمتع بها الجيش الأمريكي فقد كان المعسكر التابع للجيش الأمريكي الذي انطلق منه "رامبو" يحتوي على أجهزة إلكترونية حديثة, بخلاف المعسكر الفيتنامي الذي بدا حاله ينم عن عدم التكافؤ مع المعسكر الأمريكي, وهذا يطبع في ذهن المشاهد عظمة الجيش الأمريكي وهشاشة أسطورة انتصار الفيتناميين.

       2ـ القوة الجسدية والخبرة العسكرية الفائقة التي يتمتع بها الجندي الأمريكي, وقد تجسدت هذه المعاني في شخص "رامبو" وهو يجابه

ـ بمفرده ـ مئات الجنود الفيتناميين, فهو يصطادهم كما يصطاد العصافير, وتجسدت معاني القوة أيضاً في مقاومة "رامبو" للضباط الروس, التي انتهت بغلبته عليهم.

         ومن خارج هذين المحورين اللذين تم فيهما تحطيم أسطورة انتصار فيتنام على أمريكا, والتقليل من أهمية الحرب الفيتنامية الأمريكية, يحاول كاتب سيناريو فيلم "رامبو" الدخول في قضية صراع الشرق والغرب, فالشرق هنا يمثله الفيتناميون الذين يؤمنون بالغيبيات والخرافات, والغرب تمثله أمريكا التي لا تؤمن بالغيبيات أبداً, وإنما تؤمن بالقوة المادية التي تحقق لها الحياة السعيدة والآمنة .

        وقد برزت هذه القضية في المشهد الذي جمع بين "رامبو" والفتاة الفيتنامية التي تعمل مع الاستخبارات الأمريكية, ويحسن هنا أن أنقل نص الحوار الذي جرى بينهما: 

         يقول رامبو للفتاة بعـد أن رأى في عنقها طوقاً يحمل خرزة زرقاء: ما هذه؟

     فتجيبه: هذه تجلب لي الحظ الحسن .

     فتسأله بدورها: وأنت ما الذي يجلب لك الحظ الحسن؟  

     فيخرج "رامبو" خنجراً صلباً براقاً ويجيبها: هذا. فترتاع من إجابته .

     وكما لا يخفى على القارىء أن الخرزة الزرقاء تعتبر من الخرافات الشائعة في منطقة الشرق كله, وهي توظف في الفيلم لترمز إلى إيمان أهل الشرق بالغيبيات دون الحاجة إلى الاعتماد الكامل على القوة المادية التي تحمي الإنسان.

      وفي نهاية هذا الجزء تكون النتيجة مقتل الفتاة الفيتنامية وانتصار

"رامبو" بمعنى أن الخرزة الزرقاء لم تنفع الفتاة ولم تجلب لها الحظ المزعوم, وبمعنى آخر أن الغيبيات التي تؤمن بها شعوب الشرق لا قيمة لها أمام القوة المادية, في حين أن الخنجر الذي اعتمد عليه "رامبو" في مجابهة الجنود الفيتناميين قد ساعده في الدفاع عن نفسه وجلب له الحظ الحسن كما كان يعتقد. ولا ينسى "رامبو" أن يأخذ الطوق الذي يحمل الخرزة الزرقاء من عنق الفتاة الفيتنامية المقتولة بأيدي الجنود الفيتناميين كتذكار منها, وسوف يعود كاتب السيناريو إلى ذكر الخرزة الزرقاء ولكن ليس في هذا الجزء وإنما في نهاية الجزء الثالث .

الجزء الثالث

      تدور أحداث هذا الجزء في أفغانستان, وكما يعلم القارىء أن المجاهدين الأفغان قدموا نموذجاً رائعاً في المعارك الطويلة التي خاضوها أمام الجنود الروس, وأعطوا السوفييت درساً لن ينسوه, وفي الوقت نفسه لن تنساه ذاكرة الأيام .

       وقد كان الجزائريون قد ذاع صيتهم في عقد الستينات كأكبر مقاومة شعبية في تلك الفترة بعدما قدموا مليون شهيد .

       وحقق الفيتناميون الصيت نفسه في عقد السبعينات, بعدما قدموا أكثر من مليون فيتنامي ذهبوا فداء لانتصارهم على أمريكا.

       والمجاهدون الأفغان هم أيضاً أخذوا الصيت نفسه في عقد الثمانينيات, وكانت أخبارهم الجهادية تغطي كافة الوسائل الإعلامية, وأصبح المجاهدون الأفغان قوة إسلامية لا يشق لها غبار. فكان لابد لأمريكا ـ عندئذ ـ أن تعمل على تحويل هذه النظرة التي سادت في العالم إلى القوة الأمريكية فكان هذا الجزء من سلسلة أفلام " رامبو" .

       تدور أحداث هذا الجزء حول قيام "رامبو" بعملية إنقاذ ضابط أمريكي متعاون مع المجاهدين الأفغان وقع في أسر الجنود الروس.. والأحداث كلها من أولها إلى أخرها حول عملية الإنقاذ, وخلال العملية يبدي " رامبو" قوته الهائلة في مجابهة الجنود الروس وينتصر عليهم .

       وبما أن قوة المجاهدين الأفغان قامت على أنقاض الاتحاد السوفييتي المتمثل في جنوده الذين هزموا أمام الأفغان, كان لابد من قتال الجندي الأمريكي مع الجندي الروسي, لأن الجندي الأمريكي هو المرادف للمجاهد الأفغاني, وإذا كان هذا الأخير قد تغلب على الجندي الروسي كان من الضروري جداً انتصار الجندي الأمريكي على الجندي الروسي والتغلب عليه, فيربط المشاهد في ذهنه بين المجاهد الأفغاني الذي تغلب على الجنود الروس حقيقة وعلى أرض الواقع وبين الجندي الأمريكي المتمثل في

" رامبو" الذي تغلب على الجنود الروس في الفيلم.

       ولكن الأمريكان لم يقبلوا المساواة في القوة مع المجاهدين الأفغان, فعملوا على أن يقدموا نموذجاً مضخماً للجندي الأمريكي "رامبو" بحيث يتهاوى أمامه المجاهد الأفغاني, وعندئذ تتلاشى صورة هذا المجاهد من مخيلة المشاهد, لذا كانت الأحداث كلها منصبة على إبراز قوة "رامبو"

دونما إشارة إلى قوة المجاهدين الأفغان, اللهم إلا في المشهد الأخير حيث يقوم المجاهدون الأفغان بمساعدة "رامبو" في تحقيق النصر على الجنود الروس وإنقاذ الضابط الأمريكي المأسور.

       وفي الختام يعود كاتب السيناريو إلى الخرزة الزرقاء, فبينما يلملم

"رامبو" حاجياته للعودة إلى أمريكا يقف بجانبه طفل أفغاني يبتسم له فيخلع "رامبو" الطوق الذي يحمل الخرزة الزرقاء ـ والذي أخذه من الفتاة الفيتنامية ويقدمه إلى الطفل كهدية له, ـ وهو ما يوحي للمشاهد بأن"رامبو" يترك هذه الخرافات لشعوب الشرق ليعيشوا بها .

        ومن المدهش جداً أن يقدم صناع هوليوود هذا الجزء من سلسلة أفلام "رامبو" هدية إلى الشعب الأفغاني, فتخرج اللوحة الأخيرة من الفيلم وقد كتب فيها هذه العبارة: " هذا الفيلم هدية من الحكومة الأمريكية إلى شعب أفغانستان", مع أن هذا الفيلم لم يبرز شيئاً من مأساة الشعب الأفغاني, ولم يظهر جهادهم أو نضالهم ضد الروس, وإنما كان الفيلم استعراضا لعضلات الجندي الأمريكي, أهكذا تكون الهدية أم أن الأمر هو الضحك على ذقون الشعوب؟!

        ومن المدهش جداً أيضاً واللافت للنظر وعلى غير العادة خلو هذا الجزء من عنصر النساء, فلم تظهر أية امرأة فيه, والمعتاد في السينما الأمريكية اعتمادها الشديد على النساء, ويمكن القول بان هذا الجزء ( وهو يعد فيلماً مستقلاً ومتكاملاً ) هو الفيلم الوحيد في تاريخ السينما الأمريكية في خلوه من النساء, فهل وضع صناع هوليوود في حسبانهم المسلمين المتدينين, باعتبارهم لا يشاهدون الأفلام التي تحتوي على عناصر نسائية ؟ كل هذا وارد, فالأمريكان دهاة في التخطيط, ولأن المستهدف الأول هنا هو المسلم المتدين الذي أبدى تعاطفاً قوياً مع حركة الجهاد الأفغاني, والفيلم جاء لزعزعة النظرة التي خلفها هذا الجهاد في نفوس المسلمين عامة والمتدينين خاصة. ومما يؤيد قولي الذي ذكرته في بداية المقال عن أن السينما الأمريكية الموجهة ترافق السياسة الأمريكية هو أني سمعت مؤخراً أن الممثل " سلفستر ستالوني" الذي أدى دور "رامبو" يقوم الآن بتمثيل فيلم عن الحرب الأمريكية الحالية في أفغانستان .

      وهناك الآن استنفار في هوليوود للقيام بأفلام عديدة عن حادث 11سبتمبر الذي قلب الموازين رأساً على عقب, ونحن الآن بانتظار غزو فكري جديد ستبثه عشرات الأفلام القادمة في هوليوود وستكون الفكرة الأساسية في هذا الغزو تشويه صورة الإسلام والمسلمين .

      عقد التسعينيات ..  وعصر الهيمنة الكاملة

      شهد عقد التسعينيات سقوط الاتحاد السوفييتي, وبروز أمريكا نحو الواجهة دون منافس لها, وانتقل المجتمع الدولي إلى نظام عالمي جديد تقوده أمريكا. والتحول الكبير الذي طرأ على العالم أجمع جعل على الدولة التي تريد أن تتربع على عرش العالم أن تبذل جهوداً جبارة كي تستطيع أن تحل محل الاتحاد السوفييتي الذي كان يسيطر على نصف المعمورة.

      النموذج الثاني: فيلم" طائرة الرئيس الأولى" 

        وتأدية دور القيادة الأمريكية للعالم يحتاج إلى إقناع شعوب العالم بأحقية أمريكا بهذه القيادة, لذا كانت السينما الأمريكية ترى أن من الضروري, قيامها بدور فعال في توجيه الشعوب والتأثير عليهم لإخضاعها للقيادة العالمية الجديدة, فكان فيلم" طائرة الرئيس الأولى" الأخطر في هذا التوجيه والتأثير، وقد اخترناه كنموذج آخر للسينما الأمريكية الموجهة.

        أخرج الفيلم في عقد التسعينيات، وهو من الأفلام القليلة التي تناولت ـ بقوة ـ الهيمنة الأمريكية الجديدة على العالم, بكل مفردات الهيمنة كالقوة والغطرسة الكاملة على منافذ القارات الاستراتيجية والتكنولوجيا المتقدمة وأخذ دور القيادي الذي يصدر الأوامر، ويمكن القول بأن مخرج الفيلم وممثليه أصابوا عصافير كثيرة بفيلم واحد.

        الفيلم, تدور أحداثه حول قيام أمريكا وروسيا بخطف أحد رؤساء الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي, بعد رفض هذا الرئيس الرضوخ لهما وتهديده لهما بالصواريخ النووية التي يمتلكها منذ زمن الاتحاد السوفييتي قبل تفككه, ويتم الخطف بكوماندوز أمريكي يهبط من طائرة هيلوكبتر على قصر الرئيس, ثم يوضع الرئيس المخطوف في أحد السجون الروسية .

        ويحتفل الرئيسان الأمريكي والروسي في موسكو بهذا الإنجاز الكبير وخلال عودة الرئيس الأمريكي يصعد معه إلى الطائرة الرئاسية مجموعة من الصحفيين المزيفين, وهم كوماندوز تابع للرئيس المخطوف لإجبار روسيا على إطلاق سراح الرئيس المسجون, وحينما تحلق الطائرة في السماء يقوم هؤلاء الصحفيون باختطاف الطائرة الرئاسية, ويحاولون الوصول إلى غرفة الرئيس الأمريكي ولكن حرس الرئيس ينجحون في تهريبه, وذلك بوضعه في صندوق خاص لإسقاطه من الطائرة للهبوط إلى الأرض عن طريق المظلة التي تحمل الصندوق, ويسقط الصندوق من الطائرة, ولكن الرئيس الأمريكي كان قد خرج من الصندوق قبل انفصاله عن الطائرة دون علم الحرس بذلك, ويدخل في مخزن الطائرة الخاص بالحقائب, ويختفي هناك, فيكتفي الخاطفون بحجز زوجة الرئيس الأمريكي وابنته اللتين كانتا برفقته بعد أن علموا بهروب الرئيس, وبعد ذلك تتم المفاوضات بين الخاطفين والإدارة الأمريكية في واشنطن, وخلال هذه المفاوضات يخرج الرئيس الأمريكي من مخبئه ويحاول القضاء على الخاطفين الذين يحتجزون زوجته وابنته وطاقم الطائرة كله, ولكنه يفشل في مهمته ويقع في أيدي الخاطفين, فيطلبون منه التحدث مع الرئيس الروسي لإطلاق سراح الرئيس المسجون, وخلال عملية إطلاق سراح الرئيس يقوم الرئيس الأمريكي بحركات بهلوانية في محاولة للتخلص من الخاطفين, وينجح في ذلك ويقضي عليهم, ويتصل مباشرة بالرئيس الروسي ويطلب منه استرجاع الرئيس المسجون الذي كاد أن يصعد إلى الطائرة للعودة إلى بلاده, وعندها يطلق حرس السجن النار عليه ويردونه قتيلاً.. وبذلك تفشل عملية اختطاف الرئيس الأمريكي, وفي الوقت نفسه يقتل الرئيس الذي خطف في البداية, وينتهي الفيلم .

      وقد أراد صانعوا الفيلم أن يكون الرئيسان الأمريكي والروسي في داخل الفيلم هما نفس الرئيسين في الواقع أي" بيل كلنتون وبوريس يلتسن" اللذين كانا يترأسان أمريكا وروسيا في زمن إخراج الفيلم, فكما نعلم أن

" كلنتون" لديه زوجة وبنت, وكذلك ظهر في الفيلم, وظهر " الرئيس الروسي" في الفيلم سميناً كما هو حال " يلتسين" مما يوحي للمشاهد بواقعية الأحداث  .

       ومن عنوان الفيلم تبرز معالم الهيمنة الأمريكية على العالم, فالطائرة الأولى ـ تعني أنها الطائرة الأولى في العالم, ولا مجال لأي طائرة أخرى للتنافس معها, ليس لأنها طائرة الرئيس الأمريكي فحسب, وإنما أيضاً للتكنولوجيا المذهلة التي تتصف بها هذه الطائرة, ففيها ـ مثلاً ـ أسلحة تكفي لغزو دولة "بنما" وهي تستطيع تفادي الصواريخ المضادة, وغير ذلك من الأمور التي تجعل المشاهد مشدوهاً أمام عظمة هذه الطائرة . 

       وطرح الفيلم مفاهيم جديدة, بحيث تبدو كأنها حقائق واقعية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, وأبرزهذه المفاهيم هي:

      1 ـ  ضعف الدولة الروسية التي ورثت الاتحاد السوفييتي إلى درجة انصياع الرئيس الروسي للأوامر التي يصدرها إليه الرئيس الأمريكي دون إبداء أي اعتراض على ذلك أو حتى تشاور أو نقاش, وقد ظهر ذلك ضمن مجريات الأحداث لا سيما عند طلب الرئيس الأمريكي من الرئيس الروسي إطلاق سراح الرئيس المسجون, فوافق الرئيس الروسي على الطلب مباشرة, وقد بدت على وجهه علامات الامتعاض وعدم الاقتناع, ولكنه مجبر على ذلك, لأنه لا يملك رفض أوامر الرئيس الأمريكي, مما أشعر المشاهد بدونية الرئيس الروسي أمام الرئيس الأمريكي.

       وقد حرص الفيلم على إبراز هذا المفهوم الجديد بشكل واضح, لأن البعض مازال عالقاً بذهنه أنه باستطاعة روسيا بما تمتلكه من أسلحة ضخمة وصواريخ عابرة للقارات التصدي لأمريكا, أو أنها ـ أي روسيا ـ بمقدورها أن تقول "لا" لأمريكا, فجاء الفيلم ليحطم هذه المفاهيم القديمة, ويقلل من حجم الدولة الروسية الجديدة .

      2 ـ  بث بذور الضعف في شعوب العالم عامة وشعوب الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي السابق أمام الهيمنة الأمريكية, فأمريكا ـ كما ظهر في الفيلم ـ تستطيع أن تفعل ما تشاء, وإن خطف الرؤساء من داخل القصور الرئاسية شيء يصعب على العقل أن يستوعبه أو يصدقه, ولكن أمريكا تستطيع أن تفعل ذلك, وإذا كان الرؤساء أصبحوا في متناول أيدي القوات الأمريكية فمن باب أولى من هم دون الرؤساء.

       وقد أعطى المخرج الرئيس الأمريكي ـ وهو بطل الفيلم ـ قوة غير عادية, حتى خيل للمشاهد أنه أمام جيمس بوند, مما يزرع الرهبة في نفوس المشاهدين أمام عظمة الرئيس الأمريكي .

       الخلاصة

       فمن خلال هذين النموذجين يتبن لنا خطورة الغزو الفكري الذي تقوم به السينما الأمريكية, وهناك نماذج كثيرة لا حصر لها تقوم بنفس الغزو, ومن أمثلة ذلك فيلم خاص بالحرب القصيرة التي قامت بها القوات الأمريكية في الصومال, وكان شعار الفيلم المقولة التي كان يرددها الجنود الأمريكيون في داخل الفيلم وهي :"لا تطلق النار إلا على من يطلقه عليك", من أجل إضفاء النواحي الإنسانية لمهمة القوات الأمريكية في الصومال .

      ومن السذاجة أن نظن السينما منهجاً دراسياً, ولن تكون بالطبع وثيقة تاريخية توضع في دواوين المكتبات وعلى أرفف المتاحف, ولكن السينما أحد المحركات لفهم العالم لما لها من تأثير في المشاهد. وسوف تؤدي دورها القيمي والتربوي بطرقها ووسائلها . ولكن من أين نبدأ؟ هذا السؤال على بساطته يحمل الكثير من التعقيد والإجابة قد تكون سهلة كما عبر عنها أحدهم بقوله: "المشكلة مشكلة ورق ونص, خاصة إذا تحول السيناريو إلى مجموعة من الأفيهات.. وأصبحت مهمة السيناريست الأولى هي تركيب هذه الأفيهات على بعضها البعض بطريقة مكعبات الأطفال ".

      هل عندنا كتّاب سينارست يشعرون بقضايا الأمة؟ ليس التعبير عن قضايا الأمة كما يدعى البعض الآن في أفلامه إدخال مشهد أو إشارة باهتة إلى صورة القدس في وسط فيلم طوله ساعة ونصف الساعة .. وكأنها بقعة في وسط العمل الفني خارجة عن إطار التسلسل المنطقي للفيلم.. وليس التعبير عن قضايا الأمة مجرد موجة عابرة ثم تأتي ظاهرة أخرى لتغطي عليها.

       نحن في حاجة إلى عرض أمين ومتزن وواضح للمشكلات التي تعانيها الأمة بالفعل فهناك من يرجع المشكلة السينمائية إلى الإمكانيات, وهذا الرأي فيه وجاهة ولكنه يحمل في ثناياه تبسيطاً مخلاً للأزمة, فلماذا لا توجه الإمكانيات التي أنفقت خلال الأعوام الماضية للإنفاق على أفلام موجهة تهتم بمشكلات الأمة وقضاياها ؟ إذن المشكلة ليست مشكلة إمكانيات وحسب. وهناك من يعترض على الأعمال الدرامية ذات المعاني التربوية والنواحي القيمية بالقول إنها مباشرة وخطابية وتحمل العمل الدرامي إلى المشاهد بطريقة مباشرة قد تؤدي إلى السطحية, وكما نعرف فإن الرمز والإيحاء من أساسيات العمل الدرامي .. ولعل أكثر الفنانين المتهمين بذلك الممثل   محمد صبحي .. ونراه يرد بالقول إنني أقصد ذلك حتى لا يتوه الجمهور في تحليل الرمز وينسى ما أريد أن أصل إليه, وأن الخطابة على المسرح هي صراخ لإيقاظ النائمين على حد قوله ..

      مفهوم مغلوط

       هناك مفهوم مغلوط عن العمل الدرامي الإسلامي يتلخص في خلط البعض بين العمل الدرامي الإسلامي والعمل التاريخي.. فكل ما هو إسلامي تاريخي وهذا المعنى في منتهى الخطورة فهو يشير من طرف خفي إلى أن الإسلام تراث وماضي وتاريخ لا يشار إليه إلا في إطار الزمن البائد, ولا يخفى على القارىء ما في هذا المعنى من ابتسار وتشويه للقيم الإسلامية .

       فعندما نتعامل مع التاريخ لا نتعامل معه كقصص وحكايات وإنما نستدعيه إلى المستقبل, لنأخذ منه العبرة والدروس المستفادة . وما يزيد هذا المفهوم خطورة هو ذلك الحاجز الذي يقوم بين العمل الدرامي والمشاهد ويتمثل في اللغة التي تكون بالفصحى غالباً والملابس التي تكون تراثية مبتورة عن الحاضر وطريقة الحياة في الماضي فلا يكون أمام المشاهد إلا أن يطالع هذه الأعمال بمنطق الحكايات المسلية وأقصى نجاح هو أن يمصمص شفتيه ويتحسر على الماضي.

      ينبغي للعمل الدرامي الإسلامي أن يتخطى التاريخ لنراه أمام أعيننا فنرى فيه نموذجاً إسلامياً يلبس كما نلبس ويتكلم كما نتكلم بل ويضحك كما نضحك حتى يستشعر المشاهد التوحد المطلوب مع هذه الأعمال الدرامية .