نحو أنشودة إسلامية رائدة
نحو أنشودة إسلامية رائدة
نجدت لاطـة
منذ عشرين سنة ـ تقريباً ـ ولد النشيد الإسلامي , وصدحت الحناجر المؤمنة في كل نادٍ وحفل ومسجد , وهلل المؤمنون لهذا المولود الجديد .
وأعني ـ بداية ـ بالنشيد الإسلامي النشيد الذي واكب الحركة الإسلامية في كل نواحي العمل الإسلامي كالوعظ والإرشاد والروحانيات والدعوة والجهاد .
وكان النشيد قبلها أناشيد شفاهية مقتصرة على الروحانيات تُنشد في الموالد والمناسبات الدينية . أما بعد تلك الولادة فقد صار أناشيد مسجلة في الأشرطة والكاسيتات ، وطبعت أشعاره في الكتب . وأصبح النشيد الإسلامي حركة فنية منظمة ، بحيث صار لكل فرقة منشد خاص تعرف باسمه ، وبالتالي أصبح لكل شريط يصدره هذا المنشد أو ذاك رقم خاص أو عنوان يدل على مضمون الشريط .
وكانت هذه الحركة الفنية قويةً ً في نشأتها ، فقد كانت على أيدي منشدين كبار ذوي مواهب عالية في الصوت واللحن . وكان نتاجها غزيراً نوعاً ما كماً ونوعاً ، ففي خلال سنتين قدم المنشد أبو الجود سبعة أشرطة ، وقدم أبو مازن تسعة أشرطة ، وأبو دجانة أربعة أشرطة , وفرقة براعم الإيمان شريطين .
وقد لاقت أناشيدهم قبولاً حاراً من قبل الجماهير المسلمة التي كانت تتطلع إلى مثل تلك الأناشيد منذ زمن بعيد . لأن الأغاني العاطفية ـ التي لا تلتقي في كثير من الأشياء مع مفاهيم ديننا الحنيف ـ كانت قد انتشرت بشكل مذهل ودخلت إلى كل مكان . ومجيْ النشيد الإسلامي فتح متنفساً طيباً لوجدان المؤمنين كي يطرب وفق حدود الشرع .
ثم ما لبث أن توقف هؤلاء المنشدون عن الإنشاد توقفاً تاماً ، فلم يصدر عنهم أي شريط ، ولا ندري ما السبب .
وبعد هذا التوقف بقليل نبغ منشد جديد وهو أبو راتب ، حيث أكمل الطريق الذي بدأه المنشدون السابقون ، واستطاع هذا المنشد الجديد أن يُثبت حركة النشيد في الساحة الإسلامية ، وأنشأ يدرب الفرق المختلفة ، وخاض بأناشيده بعض المسرحيات الإسلامية الناجحة ، ثم أقام عدة مهرجانات للأنشودة الإسلامية في بعض الأقطار العربية والأجنبية .
وعمل المنشد أبو راتب مع إخوانه على إنشاء مؤسسات فنية خاصة بالنشيد الإسلامي , كان لهذه المؤسسات الفنية الدور الأكبر في استمرارية إصدار الأشرطة الواحد تلو الآخر , وما زالت هذه المؤسسات تمد الساحة الإسلامية بالأشرطة المختلفة .
هذه نبذة سريعة عن حركة النشيد الإسلامي منذ النشأة إلى يومنا الحاضر .
لكن الملاحظ أن حركة النشيد منذ مجيء " أبو راتب " إلى اليوم لم يدخلها التجديد والتطوير ، ولم تخرج أصوات جديدة ذات مواهب عالية تفتح آفاقاً جديدة في عالم النشيد . وإنما خرجت أصوات دون المستوى المطلوب ، ودون المستوى المقبول، وكانت دون مستوى " أبو راتب " ، وكانت ألحانهم دون ألحانه . وأستثني من ذلك عماد رامي و موسى مسفقة وأبو المجد وفرقة الروابي . فهؤلاء ساهموا في استمرارية النشيد الإسلامي وإحيائه ، وكان مستواهم مقبولاً , ولكن لم يتجاوزوا "أبو راتب " ولم يضيفوا شيئاً جديداً على ما قدمه .
وإن معظم ألحان الأناشيد الحالية التي تصدر بين الحين والآخر ضعيفة وميتة ,
والأُُُذن تملُُُُّ من سماعها من المرة الأولى , وكم من أناشيد سمعتُها لم أطق سماعها مرة أخرى. وكنت أشعر بالأسى تجاه منشديها , لأن هؤلاء المنشدين يُعانون معاناة شـديدة مـن عدم وجود ملحنين علـى مستوى " أبو الجود وأبو دجانـة وأبو راتب " , وفي الوقت نفسه لا يستطيعون الدخول فـي معاهد الموسيقى لِتعلم فن التلحين , بسبب اقتران دراسة الموسيقى بالآلات الموسيقية . لذا يكتفي المنشدون الجدد بتكرار بعض الأناشيد القديمة , أو يحاول البعض منهم سرقة ألحان الأغاني , أو محاولة التلحين الشخصي الذي يكون في الغالب ضعيفاً جداً . وشأن ألحانهم شأن الأبيات الشعرية المكسورة عروضياً , أي فيها نشاز يصم الآذان , بالإضافة إلى فقدان عنصر الطرب فيها .
وإذا كان المنشدون الجدد لا يجيدون التلحين ، ولم يجدوا من يلحن لهم أناشيدهم، فلماذا ينشدون من أصله ؟ لأن عدم وجود أناشيد ذات مستوى عالٍ في الصوت واللحن في الساحة الإسلامية لن يعيب العمل الإسلامي بقدر ما يعيبه الأناشيد الحالية التي ملأت الأسواق دون أن تؤدي دورها المطلوب ، لا من حيث الوعظ والإرشاد ، ولا من حيث الطرب والترويح عن النفس . وأزداد غيظاً عندما أقرأ هذه العبارة المكتوبة على الشريط : " حقوق الطبع محفوظة " . أما كان الأولى بالمنشدين الجدد أن يبحثوا عن حلول لإيجاد اللحن الجيد ؟ .
وإلى متى تظل عقبة التلحين واقفة أمام تجديد النشيد وتطويره ؟ وهل عجزت الحركـات الإســـلاميــة أن تُنجب المنشــدين والملحنين مـن ذوي المواهب العاليــة ؟ م أن النشيد لم يدخل بعد في أولويات العمل الإسلامي فكان أن أكتفي بما هو موجود ولا داعي لبذل أي جهد فيه ؟ أرى أن الأمر يحتاج إلى مراجعة جدية في موقفنا تجاه النشيد ودوره كوسيلة دعوية مرادفة للوسائل الأخرى , وباعتباره البديل للأغاني العاطفية التي زرعت الانحلال في جيل الشباب .
وهناك مشكلة أخرى تُضعف من حركة النشيد , وهي أن جمهور الإسلاميين لا يهتم بالمنشد, وأعني هنا الأمور المادية . فهؤلاء يطلبونه لإحياء الحفلات والأعراس مجاناً , أويعطونه مكافأة رمزية ,وينسون أن المنشد يعطي من وقته الشـيء الكثير للنشــيد وبروفاتـه . فكمـا نعلم أن الظروف الحياتيـة أصبحت صعبـة , وحال المنشـد من حال الناس , وقد يستطيع إعطاء جزءٍ من وقته ـ أحياناً ـ للنشــيد , لكن بعد ذلك قد يضطر إلى تركه ,لأنه يُشغله عن أعماله التي يعيش منها , وخصوصاً عندما يتزوج وتزداد مسؤولياته تجاه أسرته , وقد رأيت نماذج من هذا النوع .
وإن عدم اهتمام الإسلاميين بالمنشد في جانب الأمور المادية قد تجعل المنشد ينجر وراء الشيطان فيتحول إلى الأغنية . لأن المطرب يحصد أموالاً طائلة من أغانيه , وهذا ما حصل مع المطرب صباح فخري الذي كان منشداً للمدائح النبوية والأناشيد الدينية , وكانت حالته المادية عادية جداً, فتحول بعد ذلك إلى الغناء والطرب وأصبح من أهل الملايين .
فنحن لمـاذا لا نكفي المنشـد مادياً ويكفينا نشــيداً ؟ وقديماً اشـتكى الأديب الكبير مصطفـى صادق الرافعـي ـ رحمـه الله ـ من الشـيء نفسه فقال :عجباً لهذه الأمة , لو فتني مالياً لكفيتها أدباً .لأن الرافعي كان مرهقاً في وظيفته الحكومية .
ولا زِلت أذكر أن أحد المنشدين الكبار تولى بنفسه ـ فقط ـ إقامة أحد المهرجانات الضخمة للأنشودة الإسلامية ,وبذل من وقته وجهده الشيء الكثير وعلى مدى شهرين متكاملين , ودرّب الفرق المختلفة صغاراً وكباراً . وفي ختام المهرجان قدم له مدير المهرجان مبلغاً تافهاً كأجرته على عمله . قال لي هذا المنشد : لقد دفعت من جيبي أضعاف هذا المبلغ على المواصلات بالإضافة إلى المصروفات الجانبية التي صرفتها في سبيل إنجاح هذا المهرجان .
وفي حال عدم دعم حركة النشيد الإسلامي من قبل القائمين على العمل الإسلامي فإن ذلك سينشىء تصوراً قائماً عند الناس عن كل ما هو إسلامي ,سواء أكان في الشعر والأدب أم في السينما والمسرح والتلفزيون , أو أي فنٍ من الفنون الأخرى التي تصاحب حياة الإنسان المعاصر . وأعني أن الناس إذا وجدوا أن النشيد الإسلامي في حالة ضعف مستمر دون أن يدخله التجديد المستمر فإنهم سينقلون هذه النظرة إلى الفنون الأخرى . بمعنى أنهم سيقولون بأنه في حال وُجدت السينما الإسلامية فإنها ستكون ضعيفة مثل النشيد الإسلامي ، وهكذا مع سائد الفنون الأخرى ، مما يؤدي ـ هذا ـ إلى ضعف إقبال الناس على الدعوة ، ويؤدي ـ أيضاً ـ إلى ضعف الإقبال على كل ما هو جديد في الفنون الإسلامية . ومما يؤسف له أن العلمانيين ينظرون إلينا على أننا ـ نحن الإسلاميين ـ بسطاء وسذّج في عالم الفنون . ولعل هذه النظرة تكونت لديهم من رؤيتهم لحال النشيد الإسلامي اليوم ، مقارنة بحال الغناء عندهم . بينما كان الأمر على العكس تماماً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد كان حسان بن ثابت مبدعاً في فن الشعر ، وكان أشعر من شعراء المشركين . لأن فن الشعر كان ـ آنذاك ـ الفن الوحيد المنتشر بين العرب ، فأبدع فيه المسلمون وقدموا نماذج فيه أفضل مما قدمه شعراء المشركين ، وكان هذا نصراً للإسلام والمسلمين .
والنشيد الإسلامي لا يقل دوره عن دور الشعر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم . فلماذا لا يكون المنشدون أجمل صوتاً من المطربين ؟ ولماذا لا تكون الأنشودة الإسلامية أجمل لحناً من الأغنية ؟ . ومما يؤسف له أن كثيراً من القائمين على العمل الإسلامي لا يُولون النشيد اهتمامهم , وهو عندهم من الوسائل الثانوية جداً في الدعوة . لذا نجدهم يتركون أمره إلى أنشطة الشباب الصغار دون توجيه واعٍ ودون عمل منظم يقدمونهما إلى هؤلاء الشباب .
ولا أريد أن أختم مقالي إلى بعد أن أقدم مقترحين خاصين بقضية الألحان والتلحين ، عسى أن يكون فيهما ـ في حال تطبيقهما ـ الحل لمشكلة ضعف الألحان في النشيد الإسلامي .
المقترح الأول : يوجد في مدينة حلب ( السورية ) منشدون كبار مختصون بالأناشيد الدينية كأمثال صبري مدلل وحسن حفار وأديب الدايخ وغيرهم , وهم يحيون الموالد والأعراس ذات الصبغة المحافظة ، وهؤلاء على مستوى عالٍ في الصوت واللحن ، بل إن أناشيدهم وألحانهم لا تملها الأذن مهما كثر سماعها . وقد خرج أبو الجود وأبو دجانة من عباءة هؤلاء ، بمعنى أنهما تتلمذا على أيدي المنشدين الحلبيين .
وهؤلاء المنشدون الحلبيون هم جزء من حركة الغناء في حلب , ولا يخفى على أحد القدود والمواويل الحلبية . وألحانهم متوارثة عبر الأجيال الماضية ، وقد يصل عمر اللحن عندهم إلى عشرات السنين ، وهي كثيرة العدد وقد تصل إلى المئات ، وهي مشاعة للجميع وليس لها حقوق .
فأقترح على المنشدين الجدد أن يستفيدوا من خبرة المنشدين الحلبيين ، وتكون الاستفادة من خلال الآتي :
1ـ الإكثار مـن الاستمتاع إلـى أشرطتهم . و أشـرطتهم موجودة فــي الأسواق . أن الاسـتمتاع إلـى النغم الأصيل ينمي القدرة علـى التلحين عند مـن يملك شيئاً من موهبة التلحين ، وينمي ـ أيضاً ـ حسن التعامل مع الألحان خلال الإنشاد .
2ـ السفر إلى مدينة حلب ومخالطة المنشدين الحلبيين عن قرب , والتلمذة على أيديهم . وممكن خلال ثلاثة شهور أن يخرج المنشد الجديد بحصيلة فنية لا بأس بها وخصوصاً إذا قام بالزيارة إلى بيوتهم , وعقد معهم جلسات خاصة عن فن النغم . لأن هؤلاء المنشـدين بسـطاء فــي حياتهم , ولا توجد حواجز ومـوانع لديهم , ويمكن أن يصل إليهم كل من يريد .
وأرجو أن لا يستغرب المنشدون الجدد من قضية السفر , لأن فن النشيد كبقية الفنون الأخرى يحتاج إلى دربة ودراسة على أيدي أهل الاختصاص . ومما يُروى عن الموسيقار الكبير سيد درويش أنه قام بزيارتين إلى مدينة حلب , واستفاد جداً من حركة الغناء الموجودة في حلب , وكانت مدة الزيارتين سنة تقريباً, وكان هدف الزيارتين هو اكتساب الخبرة من المدرسة الحلبية , لأن مدينة حلب لها شهرة كبيرة في فن الغناء .
3ـ نقل ألحان الأناشيد التي ينشدها الحلبيون إلى النشيد الإسلامي ووضع كلمات جديدة لها تناسب معاني وموضوعات النشيد الإسلامي . وبذلك نكون قد ابتعدنا عن سرقة ألحان الأغاني التي يقوم بها بعض منشدي النشيد الإسلامي . لأن سرقة ألحان الأغاني توحي بظلال تلك الأغاني ومطربيها ، ويزداد الأمر سوءاً إذا كان صاحب الأغنية مطربة ً وليس مطرباً . فهذا يؤثر في وجدان المسلم الذي يحب الابتعاد عن أجواء المطربين وعالمهم المليىء بالحب والغزل .
المقترح الثاني : ذكر المنشد أبو راتب في مقابلة معه في مجلة " العالم " العدد ( 611) أنه استفاد في النشيد الإسلامي من خبرته الموسيقية التي اكتسبها من دراسته في أحد معاهد الموسيقى قبل التزامه خط الدعوة والانتقال إلى النشيد الإسلامي . فمن خلال هذا أقترح أن يقوم المنشدون الجدد بالاتفاق مع الملحنين الذين يدرّسون في معاهد الموسيقى على إعطائهم دورات خاصة في فن النغم وفن التلحين . وتكون هذه الدورات بعيدة عن طلاب ومعاهد الموسيقى وغير مقترنة بالآلات الموسيقية . وتتلو هذه الدورات دورات أخرى متعمقة ، بحيث يتخرّج المنشد من هذه الدورات وقد ألمّ إلماماً تاماً بهذا الفن وأصبح متقناً له ومحترفاً فيه وقد يكون عند بعض المنشدين الذين يتخرّجون من هذه الدورات القدرة على تدريس ما تعلموه في الدورات ، فيقيم هؤلاء دورات مشابهة لتلك الدورات لمنشدين جدد ، فتتخرّج الدفعات تلو الدفعات . وبذلك نكون قد أوجدنا طبقة من ذوي أهل الاختصاص بفن النشيد . وبالتالي نكون قد قضينا على مشكلة ضعف الألحان بالنشيد الإسلامي ، ونكون ـ أيضاً ـ قد خطونا خطوات حقيقية نحو أنشودة إسلامية رائدة .
فهذان المقترحان سهل تطبيقهما ، ولا يحتاجان إلا إلى دعم ٍ مالي من قبل القائمين على العمل الإسلامي . أما أن يُترك الأمر إلى المنشد نفسه فلا أظن أنهما سيطبقان .