أوديب ملكاً

أوديب ملكاً

المخرج: يوسف علاري

[email protected]

في تأملنا لعيون الأعمال الفنية والأدبية, نجد العديد من روائع الأدب العالمي باقية بقاء الحياة, لا تموت ولا تفنى, كما يموت ويفنى الجسد, فهذه الروائع مخلوقة من عمل فكر وروح الإنسان, وتراكم التجربة والخبرة والتنوعات الثقافيّة الثريّة, التي تلتقي مع بدعٍ فذ في عصرٍ ما فتجعله يخلق النفيس والفريد من روائع الإبداعات الإنسانية في شتى المجالات, وكأن حلم الإنسان الأزلي "بالخلود" وهو الحلم الذي طالما حلم به منذ القدم, ولم يحققه حققته منجزاته المخلوقة من عصارة عقله الذي منحه الله إياه, والروائع الباقية التي أبدعها الإنسان على مر العصور, والتي منحت نفسها صفت الخلود كثيرة, لا مجال لتعدادها, لكننا سنكتفي بالوقوف عند واحدة منها في مجال الفن المسرحي.

الرائعة المسرحية " أوديب ملكاً " للشاعر الإغريقي " سوفوكليس 495 –407 ق م " الذي أعتبر أعظم الكتاب المسرحيين في العصر الإغريقي, عالجت مسرحياته مشكلات أبدية ما تزال تخاطب الإنسان المعاصر, تعتبر مؤلفاته من أعظم المؤلفات في التراث الإنساني, فقد تربع على عرش التراجيديا الإغريقية ووصل بها إلى قمة النضوج, كاد سوفوكليس أن يبلغ في حياته المسرحية حد الكمال, حيث ظلت مهارته الحرفية معيارا للكتاب المسرحيين, ومثالا أعلى لهم, فلم يستطع كاتب مسرحي آخر أن يجاريه بين العمق في التفكير, والقدرة الفائقة على التعبير المسرحي, واعتبره النقاد أستاذا لا يضاهى في خلق الدوافع في صناعة التوتر, وإثارة التهكم الدرامي, وصياغة الحبكة لكل عناصر وتفاصيل أعماله الإبداعية, كما أبدع في خلق جوا شاعريا, مما جعل أعماله مناهل فنية لكل العصور.

أسهم سوفوكليس في الحياة الثقافيّة والسياسيّة في عصره إسهاما واسعا فتقلد عدة مناصب التي ماتت بموته وظل سوفوكليس الشاعر والمخرج والمؤلف.

  لماذا أوديب ملكاً

ما من مسرحي لم يقرأ مسرحية " أوديب ملكاً" منذ كتابتها وتمثيلها في العصر الإغريقي إلى الآن, وما من أديب لم يقم على دراستها الدراسة الوافية, لما تتضمنه من معان إنسانيّة قل نظيرها في تاريخ الأدب, وما من ناقد لم يقف عندها وقفت المتأمل المذهول من روعة حبكتها وعظيم قصتها, ووقع أثرها في النفس, فكتب فيها ما لم يكتبه في غيرها مستخلصا قدرة سوفوكليس على إدارة الصراع بين قوى الخير والشر, المتمثلة بين الإنسان وبني جنسه وبين الآلهة وأنصاف الآلهة والإنسان, وما من مثقفٍ إلا وقرأها, وتأثر بها وتعجب من هول الفاجعة التي ألمت بشخصيات هذه المسرحية, التي اعتبرها النقاد الأرقى والأعظم والأكمل بين المسرحيات التي ألفت خلال خمسة وعشرين قرنا من الزمان. وصف أرسطو أوديب ملكاً في كتابه الشهير "فن الشعر" أكمل نموذج لمأساة عرفها الإنسان. هذه المأساة لم تأثر فقط على المسرح أو الأدب العالميين بل تجاوزت ما هو أبعد من ذلك, فقد تناولها الكثير من الفلاسفة في نظرياتهم, وكذالك رجال الدين دار بينهم جدل واسع حول القدر والتسيير والتخيير في اتخاذ القرار, أما في علم النفس فقد جال الباحثون في أعماق النفس البشرية من خلال تصرفات, وأخلاقيات شخوص المسرحية حتى أنشأ عالم النفس الشهير "سيجموند فوريد" مفهوم "عقدة أوديب" المعروفة عالميا, مستوحيا هذه العقدة من أسطورة أوديب ملكاً التي حظيت بالبحث العلمي الوافر لديه, ومن ثم لدى تلاميذه العلماء من بعده.

  عظم أوديب ملكا,ً وعبقرية سوفوكليس لتتجليان في الأبعاد الرمزية العالية التي تشي بها هذه الملحمة الخالدة, والتي يمكن أن تستمد منها العصور أساساً لإبداع جديد ومعاصر, يمنح هذه الأبعاد دلالات ومعاني جديدة من خلال طرح المشكلات المعاصرة, كمشكلات الكوارث والأمراض التي تهدد البشر, والحروب والأيدي الآثمة التي تسوق الناس إلى الاقتتال, والإشكالات الدينية والعقائدية التي أضحت سبباً مفرقا وعاملا هداماً لبنية عقلية ومجتمع الإنسان.

ما تطرحه هذه المسرحية من صراعات شتى بين الإنسان وأخيه الإنسان من جانب, وبين الإنسان وآلهته من جانب آخر, دفع كتاباً عديدين وبلغات مختلفة, وفي العصور المتلاحقة إلى إعادة كتابة أوديب من جديد, انطلاقاً من واقع جديد وأحداث معاصرة, فعالجها أوربيدس في إحدى مسرحياته, كما نجد ذلك عند سينيكا وفولتير وأندرية جيد وجان جيرود وجان كوكتو ويوجيني أونيل وطه حسين وتوفيق الحكيم ووليد إخلاصي وفوزي فهمي وجان أنوي وصبحي حسن وأحمد علي باكثير, وغيرهم كثيرون من رواد المسرح والسينما والرواية والتشكيل والشعر والعلوم الإنسانية.    

قبل أن ننتقل إلى حكاية هذه المأساة الخالدة أحبذ أن أشير أن أوديب ملكاً ستظل أشهر الأساطير, وأكثرها ثراء, وعلامة ناصعة في تاريخ الأدب والمسرح العالميين. ولي رأي في هذا الخصوص أوجزته  بعد سرد الحكاية.  

 النبوءة الملعونة

كان الملك لايوس ملك طيبة يدعوا الآلهة أن ترزقه وزوجته الملكة جوكاستا ولياً للعهد. مضت سنوات طويلة ثم حملت الملكة, فابتهج الجميع وعمت الفرحة أرجاء المدينة, وضعت الملكة طفلها المنتظر, فأرسل الملك رسولا إلى مهبط الوحي في مدينة " دلفى " ليسأل كاهنه "أبولون" عما يكون مستقبل طفل الملك, عاد الرسول يقول " إن هذا الطفل إذا عاش فلسوف يقتل أباه ويتزوج أمه, وينجب منها أبناء يكونون له إخوة وأبناء في وقت واحد, فزع الملك والملكة من الخبر, وقررا أن يتخلصا من طفلهما فسلماه لأحد الرعاة ليذهب به إلى ظهر جبل "كتيرون" ليتركه هناك حتى يموت أو تفترسه الوحوش, لكن الراعي أشفق على الطفل ولم ينفذ الأمر, وآثر أن يسلمه إلى راع آخر من أصدقائه من رعاة مملكة مجاورة هي مملكة "كورنثة" وكان ملكها "بوليب " عقيماً ويتمنى أن ترزقه الآلهة ولياً للعهد. ذهب الراعي الكورنثي بالطفل إلى الملك, ففرح به وأدعى أن زوجته الملكة "موريب" حملت به, وأنه ابنه, وقد أسمته الملكة أوديب لأن قدميه متورمة. فكلمة أوديب تعني صاحب الأقدام المتورمة.

  تمضي السنون ويصبح أوديب شابا قويا طيباً ومحبوبا من أهل المدينة كلها. في إحدى الأيام يقول له أحد رفاقه وهو ثمل إنه مجهول الأصل والنسب, فزع أوديب وساوره الشك والريبة, فذهب إلى مهبط الوحي في دلفى ليسأل أبولون عن صحة ما سمع, كان جواب الكاهن مبهما لا يشفي فضول أوديب في معرفة ما قيل عنه أنه مجهول الهوية, بل زاد في حيرته وأضاف إليها مأساة, فأخبره أنه إذا عاد إلى بلده فسوف يقتل أباه ويتزوج أمه, وينجب منها أطفالاً. من هول ما سمع من الكاهن يروّع أوديب ويهلع قلبه, فيقرر على الفور ألا يعود إلى كورنثة أبدا, حتى لا يقتل أباه ولا يتزوج أمه, معتقدا أن الملك بوليب والملكة موريب والديه الحقيقيين, فيسلك طريقا أخرى غير طريق كورنثة حتى إذا بلغ مفترق ثلاث طرق لقي جماعة مسافرة, على رأسها رجل وقور في عربة ولم يكن إلا أبوه الملك "لايوس" فيطلب إليه أحد مرافقيه أن يخلي الطريق حتى تمر العربة, لكن أوديب يصر على أن لا يخلي الطريق, وأن يمر هو أولاً, فتنشب بينهم معركة يقضي فيها أوديب على جميع أفراد الركب إلا أحد الحراس ولى هاربا ليخبر أهل المدينة بمقتل الملك, وهكذا تحقق جزء من نبوءة الكاهن فيقتل أوديب أباه وهو لا يدري, وقد كان الملك لايوس في طريقه إلى مهبط الوحي في دلفى, ليسأل الكاهن عن سبيل الخلاص من وحش يسمى أبو الهول  "سيفينكس" جسمه ثلاثي التكوين حيث له رأس امرأة وكتفيها وجسم لبوأه وصل بجناحي طير, وكان يقطع طريق بلده, ويقتل كل إنسان يمر بها إن لم يجبه عن حل لغز يطرحه عليه وهو "ما هو الشيء إذا كان الصبح مشى على أربع, وإذا كان الظهر مشى على رجلين, وإذا كان المغرب مشى على ثلاثة؟"

  تسوق الأقدار أوديب إلا بلده طيبة ويلقى ذاك الوحش فيقطع عليه طريقه ويلقي عليه اللغز, فيجيبه أوديب الإنسان, الإنسان الذي يحبو وهو طفل على أربع, فإذا شب مشى على رجلين, فإذا أدركه الهرم توكأ على عكاز فيكون قد مشى على ثلاثة. بعد أن عرف أوديب الجواب يستشيط الوحش غضباً, ويلقي بنفسه من فوق صخرة فيموت. ثمة رواية أخرى تقول أن أوديب هو الذي قتل الوحش بعدما عرف الجواب ليخلص أهل طيبة من شره.

  بعد انتصار أوديب على الوحش يقبل عليه أهل طيبة مرحبين به, سعداء بفعله العظيم الذي خلصهم من شر الوحش الجاثم على صدر مدينتهم, وقد أعلن من قبل "كريون" أخو الملكة جوكستا, الذي يستطيع أن يخلص المدينة من الوحش يكافأ بتاج المملكة, وبالزواج من الملكة. هكذا نصبَّ أوديب ملكاً على طيبة وتزوجت الملكة من الملك الجديد, لتتحقق النبوءة كاملة فيتزوج أوديب أمه, ويصبح ملكاً بدل أبيه دون أن يدري, ثم تمضي السنون, وينجب من أمه ولدين "ايتوكل و بولينيس" وبنتين "اسمينة و أنتيغون" يكونوا له أبناء وأخوة.

 يحلِّ في طيبة طاعون أسقط الطيور من السماء وتلف الأشجار وقضى على المواشي وقتل العديد من الناس, يعجز الأطباء عن تخليص مدينتهم من هذا الوباء اللعين, ويقبل الشعب المنكوب وعلى رأسهم بعض الكهنة ليقدموا القرابين إلى تماثيل الآلهة في ميدان القصر الملكي, وهم ينشدون الأناشيد الحزينة, فيخرج الملك أوديب إليهم, ويسأل كبير الكهنة عن سبب مجيئهم.

هنا تكون ذروة المسرحية, لتكتمل المأساة الأسطورية الخالدة في تراث المسرح العالمي, وفي ذاكرة ووجدان البشرية جمعاء.

تقول الكهنة لأوديب أن الناس يتهمونك بالتقصير في مقاومة الطاعون, فيشير كبير الكهنة على الملك بأن يأمر باستدعاء الكاهن الأعمى "ترزياس" الذي يستطيع التنبؤ بالغيب, ليسأله عن سبب الطاعون حتى يعود "كريون" الذي ذهب إلى دلفى لسؤال الكاهن أبولون.

يأتي بترزياس ويسأله عن سبب الطاعون. يتلكأ الكاهن بالإيجاب. يستعطفه أوديب.

أوديب: بحق الآلهة لا تعرض عنّا, أنبأنا بما تعلم, ها نحن جميعاً نتوسل إليك ضارعين.

ترزياس: لا أريد أن أؤذيك أو أن أؤذي نفسي. لماذا تسألني في غير طائل؟ لن تظفر مني بشيء.

 يتصاعد الحوار بينهما ويحاول ترزياس أن لا يقول الحقيقة لكن أوديب يصر على معرفتها فهو السائر دوما إلى حتفه من خلال محاولته كشف الحقائق. فيستفز أوديب ترزياس محقراً إياه.

أوديب: ماذا يا أشد الناس ضيعة وأجدرهم بالمقت, إنك لا تعيش إلا في الظلمة ولن تستطيع أن تسوءني ولا أن تسوء أحدا من الذين يرون الضوء.

ترزياس: إنك لترى الضوء الآن, ولكنك عما قليل ستعيش في ظلمة الليل, ستهيم في كل مكان وستردد الجبال كلها أصداء صياحك, حين تعلم هذا الزواج التعس الذي انتهيت إليه في بيتك البائس.

أوديب: ما أشد الغموض والألغاز فيما تقول.

ترزياس: الست في طبيعتك ماهراً في حل الألغاز؟

أوديب: أهني في مصدر عظمتي.

ترزياس: مع ذلك فهذه العظمة قد اهلكتك.

  يحضر كريون قائلاً: إن الكاهن أبولون يقول: إن الطاعون لا يفارق طيبة حتى يقتل قاتل الملك لايوس. هكذا قال له الكاهن دون أن يذكر من هو هذا القاتل. فكان جوابه كعادته مبهما ومحيرا.ليشتعل الشك بين الناس  

يسارع أوديب في البحث عن المجرم وطلب المساعدة من أهل طيبة في القبض عليه, ويحاول مع ترزياس لمعرفة القاتل فيستعطفه حيناً ويتوعده حيناً آخر. فيأبى ترزياس.

يثور أوديب على كريون وترزياس ويشك بهما, ويتهمهما بالتآمر ضده, ويقول للكاهن لولا عماه لفعل به..., يثور الكاهن ويقول لأوديب أنه هو هذا  الدنس الجاثم على صدر المدينة, وأنه هو أصل البلاء, وهو الرجل الذي يدنس فراش أبيه, وأنه إذا كان يعيره بالعمى فإنه "أي أوديب" أعمى البصيرة, ولن يغادر هذا المكان الليلة إلا وهو أعمى يرى بعيني غيره.. لم يصدقه أوديب ويصر على أنه متآمر مع كريون لسلبه الملك, ويتوعد بكشف الحقيقة.

وفي الأثناء يأتي رسول من كورنثة ينبئ أوديب بموت الملك بوليب داعيا له لتسلم عرش كورنثة.

لكن إذا كان بوليب قد مات فأن موريب ما زالت على قيد الحياة, وهو ما يقف حاجزاً أمام عودة أوديب خوفاً أن يتحقق الجزء الثاني من النبوءة وهو الزواج من الأم موريب. ما يكاد أوديب يعبر عن أفكاره, وهواجسه حتى يتدخل الرسول الكورنثي ويكشف لأوديب حقيقته التي تبين أنه ليس ابنا لموريب, وإنما سلمه راعي إلى بوليب وهو طفل, ثم يأتي الراعي الذي كلف بقتله فيعترف بالحقيقة, ويأتون بالحارس الذي هرب يوم مقتل الملك لايوس فيتعرف عليه.

  تتجمع الأدلة ضد أوديب, ويعرف أن الملكة التي تزوجها هي أمه, وأن الرجل الذي قتله هو أبوه. وكان أوديب قد خشي أن يقتله معتقدا أن بوليب أبوه الحقيقي فهرب إلى طيبة ليواجه قدره المحتوم, فيقتل أباه الحقيقي لايوس ويتزوج أمه الحقيقية جوكاستا للتحقق نبوءة الكاهن.

  عندما عرفت الملكة أنها زوجة ابنها الذي قتل أباه, وأنها أماً لأبناء ابنها دخلت غرفتها وانتحرت, يلحق بها أوديب فينزع دبوسين من شعرها فيغرسهما في عينيه وبذلك يصبح أعمى كما تنبأ له الكاهن تريزياس ليهيم على غير هدى خارج أسوار المدينة.

 الآلهة والأيدي الخفية

تخبرنا مسرحية أوديب ملكاً بالكثير من خفايا الأمور التي تحاك وتدور خلف أعين و تفكير ووعي البشر, منذ تاريخٍ موغلٍ بالقدم, وتنبئنا بوجود أيدٍ خفية تصنع مصائر الناس, وتقودهم من قدرٍ إلى قدرٍ دون علمٍ منهم بما يحاك حولهم, وبما يصنع بهم, فيسيرون دون إرادة منهم إلى حيث يظنون أنهم يعلمون. تلك الأيدي الخفية التي تكتب أقدار الناس, وتسيرهم, متمثلة بما يعرف في ذاك الزمان بالآلهة, فهي تمنح السعادة لمن تشاء, فيحيا حياة سعيدة هانئة لا يشوبها تكدير, وتصب لجام غضبها, ولعنتها ونقمتها على من تشاء. فتتكالب على المغضوب عليه المآسي والأحزان والناس جميعاً.

النبوءة الكاذبة

سنترك كل الحقول التي تناولت قضية أوديب في الأدب, والفنون والفلسفة وعلم النفس ...الخ. وسنكتفي في لفت الانتباه إلى موضوع القضاء والقدر اللذان صنعا مأساة أوديب.

وقائع الحكاية تقول أن أوديب وقع في جرمين الأول قتله لأبيه والثاني زواجه من أمه, وعلى هاتين الجريمتين كانت بنيت الحكاية التي أثارت العالم منذ نشأتها إلى الآن. تناسى البعض أن أوديب كان ضحية الإجرام الثلاثي منذ ولادته, فالأب والأم أجرما بأمرهما قتل ابنهما وهو في المهد ليتخلصا منه كي لا تتحقق النبوءة الكاذبة, والآلهة المتمثلة في رجل الدين أو الكاهن أجرمت بالتحريض على القتل. إذاً أصبح لدينا أربعة مجرمين أقلهم إجراما أوديب لأنه قتل أباه دفاعا عن النفس ولم يعلم أنه أباه, وتزوج أمه وهو لا يعرف من هي, ورغم ذلك يحكم على نفسه بالعمى, أما الأب فيأخذ جزاءه بأن يقتل على يد ابنه الذي أمر بقتله وهو في المهد. والأم تحكم على نفسها بالانتحار. كل الشخوص نالوا عقابهم على جرائمهم التي ارتكبوها بقصد أو بغير قصد ما عدا اليد الخفية, العقل المدبر, وهو العنصر الأساسي, والرئيسي المسبب بهذه الجرائم البشعة كلها, وهو الكاهن, أو رجل الدين الذي حرض الجميع على ارتكاب جرائم القتل لم يصب بأذى وبقي في معبده يقرر مصائر الناس باسم الآلهة.

أوديب كان مجبرا على ارتكاب الخطأ, وتدنيس حياته, فلم يكن مخيرا بل مسير, فقد اختار أن لا يقتل أباه وأن لا يتزوج أمه, وبتعد عن ذلك, لكن الأيدي الخفية سيرته -كما سيرة والديه - ليرتكب أبشع جريمتين عرفهما التاريخ البشري.

الأيدي الخفية القذرة تعاضدت على بث الفتن والفساد في الأرض, والعبث بمقدرات وأقدار العباد, ولتحقق ذلك خلقت آلهة وهمية لتنفرد في التخطيط المدمر لحياة الناس باسم تلك الآلهة لتخرب كل منجزات الإنسان, فتصادر حضارته, وتسرق تاريخه, وما كان ليحدث هذا لو لم تتربع على عرش المعابد.

الاقتتال على الله

الصراع في أوديب ملكا دار بين قوى الشر الممثلة في الكاهن الأكبر " أبولون " وقوى الخير الممثلة في أوديب وترزياس الرجل المصلح, فالصراع لم يكن بين البشر الذي يمثله أوديب وبين الآلهة المعتقد بوجودها في ذاك الزمان, الصراع كان بشري مئة بالمائة. أوديب آدمي والكاهن آدمي,  لكن الكهّان أحسوا بحاجة البشر إلى إله فنّصبوا أنفسهم آلهة أو المتحدثين باسم الآلهة, فسادوا الأرض وعاثوا بها فسادا وجعلوا الناس يقتتلون من خلال زرع الفتن والدسائس بينهم, فبنو لهم معابد هي في الحقيقة معابد شيطانية جعلوها قبلة الناس, ليبثوا من خلالها الشعوذة والهرطقة, حتى أغرقوا العالم في الظلام الذي امتد لقرونٍ عدة في كل أرجاء أوروبا, حتى جاء عصر العلم والتنوير فانتفضت النهضة الأوروبية على الكنيسة, وفصلتها عن حياة الناس. إلا أن الكهنة المتألهين والذين يحكمون باسم الرب ككهنة أوديب ما زالوا يندسون قرب هياكلهم الشيطانية الوهمية إلى الآن. أولائك الذين ما زالوا يقولون أنهم أوحياء الله, وينفذون إرادته ويعاقبون باسم الله ويكفرون باسم الله ويقسّمون العالم باسم الله, فيخلقون النزاعات بين البشر, ويفرقون الأديان حتى باتت قضية أصحاب الأديان الرئيسية أن كل جماعة منهم تحاول أن تثبت أنها شعب الله وأهله وخاصيته, والقضية الثانية التي خلقها الكهان المتألهين هي خلق دين يفصّل الله على هوى أتباع ذاك الدين, يريدون بذلك أن يكون الله بما يناسب مصالحهم, ونفسيتهم وسلطتهم, وكأن الله خاضعا لمطالبهم, ويأتمر بأمرهم (حاشى وكلا) ولذا نشبت المعارك الطاحنة بين أصحاب الأديان, ولا زالت ناشبة وإن تعددت أوجه وأشكال الصراعات بين المؤمنين بالله, أو الزاعمين بأنهم مؤمنين به, والاهتمام عندهم ليس عبادة الله بل القتال على الله, وكل ذلك من أجل السلطة والتسلط والسيادة واثبات أنا العليا.

  الصراع الذي مثلته التراجيديا في العصور القديمة هو صراع بين الخير والشر بين الإنسان والطبيعة, والقوى اللإهية الوهمية المسيطرة على الكون, ما زال ذاك الصراع مستمرا ولكنه بملامح جديدة محددة نعرفها جيدا. الكاهن الآن هو تلك اليد الخفية التي تدير الأرض فتخلق عدة قوى في قارات العالم, فتبث بينهم الفتن والفساد, وتعمل جاهدة لخلق عناصر التفرقة, وتغرز فيهم بذرة الأصولية لتنشب بينهم حروبا لتسود هي تبعا لنظرية فرق تسد. اليد الخفية الآن هي التي تتحكم بموازين القوى, وبسعر العرق البشري أيهما أغلى ثمناً, وأيهما أرخص ثمناً, وأيهما بلا ثمن, اليد الخفية الآن هي التي تغلق سوق المال العالمي على ارتفاع قدره.. وانخفاض قدره.. هي التي ترسم للشعوب مصائرها, وتجبرهم على سلوك طريق مخطط لها, لتصل بهم في النهاية إلى أهداف وغايات لم يريدوا أن يصلوا إليها, ولا يسعون لها.

  في الأساطير القديمة كانت تتهم الآلهة بإيقاع العقاب, في الحقيقة لم تكن الآلهة هي التي تعاقب لأنه أصلا لا يوجد آلهة, يوجد فقط إله واحد خلقنا لنعبده ولا نعبد سواه, وأمرنا بالعدل والمساواة. لكننا اتجهنا إلى عبادة آلهة الأرض الذين نصبوا أنفسهم علينا آلهة, واخترعوا لنا أديانا ما أنزل الله بها من سلطان, وصار لتلك الأديان المزعومة أتباع يحكمون باسمها ويأمرون باسمها ويعاقبون باسمها. مأساة أوديب تتكرر في كل عصر, واليد الخفية ذاتها ما زالت تمسك بزمام المعبد تخطط وترسم الطريق وأوديب ينفذ مختارا, زاعما أنه لا يريد المعصية, وأنه ثوري يكافح ويناضل من أجل الحرية والرفعة والشرف ثم يقع في الآثام ويدنس كل ما هو مقدس.

  الأيدي الخفية هي التي تخلق القوى المتنافرة والمتناحرة لتقتتل فتسود تلك الأيدي الملعونة, وخير وسيلة لتفرقة البشر هي خلق أديان مضللة هنا, ومعتقدات وهمية هناك, والاقتتال بين أتباعها على الله ودين الله المزعوم, وعامة البشر غافلون عما يصنع بهم غارقون في بحر من الأوهام والخرافات والخزعبلات الغريبة العجيبة, فلو أن الناس تفكروا وتعقلوا لوجدوا أن جميع الأديان السماوية تدعوا لعبادة ربٍ واحد لا شريك له, وأن جميع الأديان السماوية الصحيحة تحث على حرمت سفك الدم فأي دينٍ هذا يدعوا إلى سفك الدم سوى دين السلطة, والأنظمة العالمية المخترعة لتتولى قيادة البشر باسم الله.

  ختاما

لا شك فيه أن أوديب ملكا حكاية غنيّة, وأرى غناها بالدرجة الأولى هي الشهرة العالمية التي حظيت بها على مدار مئات السنين, فيجب استثمار هذه الشهرة في قضية الإله البشري أو الأيدي القذرة, أو الأيدي الآثمة, أو الأيدي الخفية التي تقود البشرية جمعاء إلى الهاوية وهم غافلون, وقطعها كي لا تظل ممتدة لرقاب العباد. والوصول إلى تلك الأيدي ليس صعبا فقد أصبحت واضحة المعالم مفضوحة الوجه من كثرة صولاتها وجولاتها في زرع الفتن والفساد في الأرض فهي متربصة كالحشرة المبصوقة حول معبدٍ وهمي, خلف سورٍ عنصري.