المقامة السرطانية

مقامات آخر الزمان

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

حدثنا صابر بن حيران. قال : كُنْتُ بِالبَصْرَةِ. في زمن العولمة المرّة. وبصحبتي شبح أَبن الرومي. رَجُلُ الفَصَاحَةِ يَدْعُوهَا فَتُجِيبُهُ، وَالبَلاغَةِ يَأَمُرُهَا فَتُطِيعُهُ. وكان أشعر أهل زمانه بعد البحتري. وأكثرهم شعراً. وأحسنهم أوصافاً. ومن المتأثرين بما أصاب البصرة على يد الزنج من خراب. بعد أن كانت منارا للعلوم والفنون والآداب. وصوّر ما فعلوه بالناس من تعذيب. وما ألحقوه بالبصرة من تخريب. في قصيدة جسدت مصيبة اهلها. ومأساة سكانها. فمررنا بدَارٍ قَدْ مَاتَ بالسرطان نجل صَاحِبُها، وَقَامَتْ نَوادِبُهَا، واكتظت بِقَوْمٍ قَدْ كَوَى الجَزعُ قلوبَهُمْ، وَشَقَّتِ الفَجِيعَةُ جُيُوبَهُمْ، ونِسَاءٍ قد نَشَرْنَ شعُورَهُنَّ، يَضْرِبْنَ صُدُورَهُنَّ، وَشَدَدْنَ عقُوُدَهُنَّ، يَلْطِمْنَ خدُودَهُنَّ. .

قال صابر بن حيران : وضقت ذرعا. ولم املك صبرا. فصرخت من الأعماق. وضاقت بنحيبي الآفاق. فانتفض الشبح كالبحر إذا ماج. وكالسيل إذا هاج. ورفع عقيرته. وردد مرثية ابن الرومي :

عَرِّجا صاحبيَّ بالبصرةِ الزّهراءِ

تعريجَ مُدنَفٍ ذي سقامِ

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام

شغلُها عنه بالدموع السِّجام

أيُّ نومٍ من بعد ما حلَّ بالبصرة

ما حلَّ من هناتٍ عظام

كم رضيعٍ هناك قد فطموه

(بالسرطان) قبلَ حينِ الفطامِ

قال صابر بن حيران : وتجولت في أحياء البصرة. فإذا اليوارنيوم يخصّبها. والسرطان يغتصبها. فتظافرت المروءات. وعقدت المؤتمرات. وأعدت البحوث والكتابات. وحذرت مما هو آت. وطالبت بفتح الملفات. وكشف الغطاء عن ما فات. فتحدث الدكتور المقدادي. عن الإشعاع في بلادي. وتكلم الدكتور جواد العلي. بكلام جلي. ونشر الفيزياوي خاجاك . بحوثه على الأكشاك. وأعلن الدكتور وجدي هيلو من جامعة ستوني بروك الأمريكية. بأن ذخيرة اليورانيوم المنضب انتهكت البيئة العراقية.  وأكدت الدكتورة جنان. على تفاقم اصابات السرطان. عند الإنسان والحيوان. وأيدها الدكتور قيس السلمان. وحذر من صيد الأسماك والروبيان. في الأنهار والشطآن. وقرع الدكتور عمران سكر. ناقوس الخطر. مع منظمة السلام الأخضر. وتحدث الدكتور عدنان عذافة. عن سرطان الثدي وخلافه. بعد أن اسودت الغيوم. وتسللت السموم. وانتشرت إشعاعات اليورانيوم. والثوريوم. والراديوم. والبروتكتونيوم. وتجاوزت الحد المسموح. وبلغت المستوى المفضوح. فباتت البصرة من غير سماء. وتلوث الماء. وفسد الغذاء. وتوسع الوباء. واشتد البلاء. وشح الدواء. وذعرت النساء. من بتر الأعضاء. واستئصال الأثداء. وتألمت المرأة المرضع. فهجرت المضجع. وهي تستغيث من السرطان. ومن تحامل الزمان. حتى غدت أنحَفَ منَ المَغازِلِ. وأضعَفَ منَ الجَوازِل. واستحال الحال. وتشوهت الأطفال. وتيتمت العيال. واستفحلت الاورام. وهلكت الأجنة في الأرحام. وتعذب الوليد. من الوجع الشديد. واستنشق اليورانيوم في الهواء. فلاذ بالبكاء. وهو يرضع السم. من حليب الأم. وتسرطنت الغدد اللمفاوية. والخلايا الدماغية. والمسالك البولية. واستبد السرطان. فمات الإنسان. ونفق الحيوان. وتقزمت النباتات. وانحنت النخلات. وجادت بالقليل. وطفح الكيل. والسرطان يطفئ النور ويستفيق. ويشب من شعاعه ألف حريق. وغط المتواطئ في نوم عميق. ودفن رأسه بالرمال كما النعامة. متسترا على ما أقترفه أعمامه. ولاذ بالصمت والتعتيم. والتستر والتكتيم. .

قال صابر بن حيران :  لقد اشترك الأمريكان. وبمساعدة الإنجليز والطليان. ودعم مطلق من الأسبان. بشن الغارات. وتنظيم الهجمات. واستخدموا الأسلحة ذات التأثير العشوائي. ومقذوفات التدمير الجماعي. والقنابل الفراغية. والحاويات العنقودية. والذخيرة الفسفورية. والغازات الكيماوية. والأسلحة المحرمة التجريبية. بأعداد هائلة. وكميات قاتلة. منتهكين القوانين الدولية. والقيم السماوية. وستترك أثارها لسنوات. وتقتل كل أنواع الحياة. ويعلم الإنسان الفاهم. إن هذه الجرائم. لن تسقط بالتقادم. .

قال صابر بن حيران : ووصلت مركز المدينة. وقد وشحتها المآتم الحزينة. وإذا امرأة تقف في بوابة مركز الأورام. وحولها أطفالها الأيتام. فتمزق قلبها من الأسى. كتمزق فؤاد أم موسى. وقالت : لقد تفرد بنا السرطان. فأسقمنا حميم الأحزان. ثم رفعت عقيرتها بالنواح. وأنشأت تقول :

أشكو الى اللهِ اشتِكاءَ المريضْ

ريْبَ الزّمانِ المتعدّي البَغيضْ

يا قومُ إني منْ أُناسٍ غَنُوا

دهراً وجفنُ الدهرِ عنهُمْ غَضيضْ

فنهرهم ليسَ به جائع

ونفطهم بينَ الوَرى مُستَفيضْ

فغيّضَتْ منهُمْ صُروفُ الرّدى

بِحارَ جودٍ لمْ نخَلْها تَغيضْ

وأُودِعَتْ منهُمْ بُطونُ الثّرى

أُسْدَ المشّافي وأُساةَ المَريضْ

وأفرُخي ما تأتَلي تتتقي

موتا لهُ في كلّ يومٍ وميضْ

إذا دَعا القانِتُ في ليلِهِ

موْلاهُ نادَوْهُ بدمْعٍ يَفيضْ

يا شافي أيوب وما ناله

وجابِرَ العظْمِ الكَسيرِ المَهيضْ

فهلْ فتًى يكشِفُ ما نابَهُمْ

ويغنَمُ الشّكْرَ الطّويلَ العريضْ

فوالّذي تعْنو النّواصي لهُ

يومَ وجوهُ الجمعِ سودٌ وبيضْ

لولاهُمُ لمْ تبْدُ لي صفحَةٌ

ولا تصدّيْتُ لنَظْمِ القَريضْ

قَالَ صابر بن حيران: فَوَاللهِ مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى حِجَابِ سَمْعي كلاَمٌ رَائعٌ أَبْرَعُ، وَأَرْفَعُ وَأَبْدَعُ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْها. فعزمت إرسال مذكرة إلى اليونيسيف على عجل. وإذا رجل بجانبي يتصل هاتفيا بالأمل. ويسأله على مهل : هل ممكن أن يخرج العطر لنا من الفسيخ والبصل؟ . وهل يمكن أن تشعَل النار بالبلل؟ . وهل من حنظل يمكن تقطير العسل؟. وهل يمكن وضع الأرض في جيب زحل؟.  قال له الأمل : نعم أجل. بلى أجل.. فكل شيء محتمل. فقال المتصل : إذن عربنا سيشعرون بالخجل؟ . قال: تعال ابصق على وجهي . . إذا هذا حصل . .

قال صابر بن حيران : ثم إنه انساب انسياب الأيم. وأجفل إجفال الغيم. فعلمت إنه الشاعر البصري أحمد مطر. وكان قلبه يتفطر من القهر. فتحرقت لبعده. والتفرق من بعده. .