مسرحية الملك تشرشل

التاريخ يعيد نفسه

جميل السلحوت

[email protected]

صدرت عام 2008 مسرحية " الملك تشرشل " للأديب الروائي أحمد رفيق عوض عن دار الماجد للطباعة والنشر في رام الله ، تقع المسرحية التي صمم غلافها وليد القنة في 190 صفحة من الحجم المتوسط ، وقدّم لها الأديب يحيى يخلف .

عودنا الأديب أحمد رفيق عوض أن يدهشنا في كل عمل ابداعي له ، ففي كل عمل من أعماله الروائية السبعة كان يأتينا بجديد من حيث الشكل والمضمون ، ومن اللافت أن أحمد رفيق عوض يتكىء في أعماله الابداعية على التاريخ ، يغرف من بحر هذا التاريخ ، ويسحبه على الواقع المعاش للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية بشكل خاص ، وعلى الشعوب والدول العربية بشكل عام ، حتى في رائعته الأولى " العذراء والقرية " الصادرة عام 1992 والتي حظيت بردود فعل ايجابية واسعة ، فإنه عاد الى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الى القرية الفلسطينية ، فرواها بلغة أدبية ، وخرج لنا برواية يمكن اعتبارها رواية كل قرية فلسطينية ، وهذا نتاج ثقافته ، وعمق هذه الثقافة في فهم طبيعة الأحداث في القرى الفلسطينية .

أما رواياته الأخرى  " مقامات العشاق والتجار " الصادرة عام  1997

و " آخر القرن " الصادرة عام 1999 ، و " القرمطي " الصادرة عام 2001 ، و " عكا والملوك " الصادرة عام 2003 ، و " بلاد البحر " الصادرة عام 2006 فقد عاد فيها الى التاريخ الرسمي، وعاد الى قراءة هذا التاريخ بطريقته الخاصة ، وفهمه بطريقته الخاصة أيضاً ، وانتقى منه ما أراد ، ليسحبه على الواقع الفلسطيني والعربي، وكأنه يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه مرتين ، واحدة على شكل مأساة والثانية على شكل ملهاة ، مع ان الواقع العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص يكسر هذه القاعدة لكثرة " المآسي " و " الملاهي " التي مرت وتمر به . ولا يفهمن أحد أن المبدع أحمد رفيق عوض يكتب رواية تسجيلية أو تاريخية ، بل هو يكتب رواية ابداعية متميزة ومتجددة ، ومن هنا فإنه لم يفاجىء أحد عندما فاز بجائزة الملك عبد الله الثاني للابداع في الرواية العربية للعام 2002 .

ومن منطلقات أديبنا أحمد رفيق عوض في استلهام التاريخ جاءت مسرحية " الملك تشرشل " والتي يعيد فيها كتابة قصة" أول وفد فلسطيني مفاوض ، ذلك الوفد الذي سافر الى لندن عام 1921 بعد الانتفاضة الأولى في يافا برئاسة موسى كاظم الحسيني ، وعضوية كل من : الحاج توفيق حماد ، أمين التميمي ، روحي عبد الهادي ، معين الماضي ، شبلي جمال ، فؤاد سعد ، جمال الحسيني ، ابراهيم شماس ، وفرانس نيوتن ابنة القنصل البريطاني في بيروت ، وبعد سنة كاملة من المحاولات والجهود الكبيرة للقاء تشرشل وزير المستعمرات ، فاجأهم بالقول : أنهم متعصبون وأن عليهم الاتفاق مع حاييم وايزمن " ص9

ويهدي الكاتب مسرحيته " الى بريطانيا العظمى التي أوقعت بفلسطين وشعبها كارثة لا تنسى ولا تغتفر " ص 5 وهذا الاهداء لم يأتِ حباً ببريطانيا، بل هو تأكيد على تحميل بريطانيا مسؤولية الهجرات اليهودية الى فلسطين تنفيذاً لوعد بلفور بعد الحرب العالمية الثانية ، واقامة دولة اسرائيل في 15 أيار 1948 وما حلّ بالشعب الفلسطيني من نكبات أدت الى ضياع وطنه وتشريده في أصقاع الأرض .

والقارىء للمسرحية لا يحتاج الى كثير من الذكاء كي يستنتج أن الكاتب لم ينتق موضوع المسرحية عبثاً ، أو لمجرد اعادة التذكير بقصة أول وفد فلسطيني مفاوض فقط ، وانما ليقول " ما جرى بالأمس يجري اليوم " مع أنه في النص المسرحي لم يخرج ولو بكلمة واحدة عن قصة ذلك الوفد المفاوض عام 1921 ولم يتطرق أيضاً للمفاوضات الحالية . غير أن هذه المقارنة لا يمكن أن تغيب عن عقل وفكر القارىء النبيه . فالمفاوضون الفلسطينيون والعرب في هذه المرحلة ، وهم كثيرو الحجيج الى واشنطن وغيرها من العواصم الاوروبية، تعرضوا الى ضغوطات كثيرة وخضعوا لها ، وأول هذه الضغوطات هي الذهاب بوفود منفردة ، فتم اسقاط الوفد العربي الموحد منذ مؤتمر مدريد في تشرين أول 1991 وحتى يومنا هذا ، ومثلما تنكرت بريطانيا لما يسمى مبادىء ويلسون في حق الشعوب في تقرير مصيرها ، وأوضح قادتها للعرب وللفلسطينيين بأن عليهم " التفاهم " مع حاييم وايزمن أحد مؤسسي ومنظري الحركة الصهيونية، كما تنكروا لتعهدات بريطانيا وحلفائها للشريف حسين بن علي بإقامة مملكة عربية في المشرق العربي بعد هزيمة تركيا في الحرب الكونية الأولى ، فإن " حليفتنا " أمريكا و " حلفائها وحلفائنا " في أوروبا يتنكرون للقانون الدولي ، ولقرارات مجلس الأمن الدولي،وللوائح حقوق الانسان ، ويعيدوننا الى التفاهم مع قادة اسرائيل ، وأعادوا المفاوضين العرب للجلوس مع رؤساء الوزارات الاسرائيلية المتعاقبة منذ بدء عمليات التفاوض في مدريد وهم اسحاق شامير ، واسحاق رابين ، شمعون بيرس ، بنيامين نتنياهو،ايهود باراك ، ارئيل شارون ، وايهود اولمرت ... وهكذا . وفي الفصل الخامس والأخير من المسرحية ركّز الكاتب أن تشرشل كان " يضرط " أمام الوفد الفلسطيني بطريقة مقززة ، ولم يعطهم جملة مفيدة واحدة سوى" جرّبوا أن تتحدثوا مباشرة الى الدكتور وايزمن ... وأنا متأكد أن لديه أجوبه شافية" ص188 و " انكم تخطئون بعدم التحدث مع الدكتور وايزمن واقتسام الأرض واقتسام السلطة معه " ص 189 ، و " أنتم لا تفهمون مقاصد الحركة الصهيونية انها خير على الجميع ... استفيدوا منها .. تعاونوا معها .. ستجلب لكم الماء والكهرباء والصناعة والزراعة وستطور الموانىء " ص 187 أي أن الكاتب يصل الى نتيجة مفادها أن الوفد الفلسطيني لم يحصل على شيء من مقابلته لتشرشل وزير المستعمرات البريطاني عام 1921 الا على " الضراط " وهذه مقولة فلسطينية وعربية، حيث نقول لمن يعود من مهمة خائباً " أنه لم يأت الا بالضراط " ومعروف ما يصاحب الضراط من ازعاج وروائح كريهة .

واذا ما تساءلنا عن المكاسب التي حققتها وفودنا المفاوضة ، ودائمة الحجيج الى البيت الأبيض طالبة المساعدة في تحقيق حل سلمي عادل ، فإننا سنجد أنها لم تحصل الى على " الضراط " أيضاً . فمثلما أعاد تشرشل الوفد الفلسطيني الأول للمفاوضات عام 1921 للتفاهم والاتفاق مع وايزمن ، وكان يقدم الدعم المادي والعسكري للهجرات اليهودية لاقامة دولة اسرائيل ، فإن الادارة الأمريكية تعيد وفودنا المفاوضة للتفاهم مع الحكومات الاسرائيلية التي تقدم لها الدعم المادي والعسكري لمواصلة الاستيطان ولتثبيت احتلالها للأراضي العربية المحتلة .

ان هذه المسرحية تنكأ جراحا ،وتلفت الانتباه الى أمور يجب الاستفادة منها ،انها أقرب ما تكون الى الكوميديا السوداء.وتمثيلها على خشبة المسرح سيكون له مردودات ايجابية .