ما هكذا (باب الحارة)
ما هكذا (باب الحارة) يا ست نوال السباعي
وقضية : متى يعي الإسلاميون عصرهم؟
نجدت لاطة
فوجئتُ بما كتبتْه الكاتبة نوال السباعي عن مسلسل ( باب الحارة ) وهذا يعني عندي أنها لا تختلف عن كثير من الإسلاميين الذين يعيشون خارج عصرهم، ويُخاطبون أناساً يسكنون في المريخ أو في المشتري أو في عطارد، ويكتفون بأن يلعنوا الظلام.. وبالتالي يفشلون في استقطاب الجماهير نحو التديّن.
فالمقال الذي كتبته الست نوال السباعي في قسم الفنون في موقع رابطة أدباء الشام عن مسلسل ( باب الحارة ) يوحي بعدم تفهّم كاتبتنا للعمل الفني المذكور من حيث إدراك مغزاه ومراميه، وأنا بصراحة شعرت أن تحليل كاتبة المقال للمسلسل كتحليل بائعة خضار، وليس تحليل كاتبة لها باع في الصحافة والثقافة، لأن تحليلها للمسلسل كان بعيداً كل البعد عن حقيقة المسلسل. والمشكلة أن الكاتب أو الناقد الفني الذي يريد أن ينتقد عملاً فنياً لا بد أن يعرف شيئاً عن الفنون التمثيلية، فيقرأ كتباً عن هذه الفنون وأثرها، وكيف يتم تقييمها، وكيف يُبرز إيجابياتها، وكيف ينتقد سلبياتها.
مشكلة بعض الكتّاب الإسلاميين أننا نجدهم متخصصين في لون من الثقافة، ولكن فجأة نجد لهم مقالاً بعيداً عن ذلك التخصص، فتراهم يشطّون في مقالهم، ويكتبون فيما لا يعرفون، فيكون مقالهم تخبيصاً في تخبيص، وتعفيساً في تعفيس، فيسيئون للعمل الإسلامي من حيث لا يشعرون، مع أن الله تعالى قال في كتابه العظيم ( واتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ) أي: قولوا قولاً سليماً وصحيحاً، ويمكن أن نفهم من هذه الآية أيضاً: وقولوا شيئاً تفهون فيه حتى يكون كلامكم صواباً. أما أن نطلق العنان لأقوالنا ولكتاباتنا دون وعي ودون تخصص ودون معرفة بما نكتب عنه فهذا ليس تقوى وليس تقرّباً من الله، وإنما هو تبعّدٌ من الله.
وهذه ليست مشكلة الكتّاب الإسلاميين فحسب، وإنما كذلك فقهاء هذا الزمن يقعون في ذلك، فتجد فقيهاً لم يقرأ كتاباً واحداً في الاقتصاد، ولم يمسك شيكاً واحداً بيده طيلة حياته، تجده يفتي في قضايا البنوك والاقتصاد.. وتجد فقيهاً آخر لا يعرف شيئاً عن قضايا الطب ولا حتى عن الإسعافات الأولية .. تجده يفتي في قضايا الطفل الأنبوب والاستنساخ ونقل الأعضاء البشرية، وتجد فقيهاً ثالثاً لا يدرك أهمية الأفلام والمسلسلات في حياتنا المعاصرة، ولم يقرأ كتاباً واحداً عنها، تجده يحرّم التمثيل، ويحرّم تمثيل الصحابة وسائر الشخصيات الإسلامية. مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار) والخطاب هنا للفقهاء وليس لي ولك أيها القارئ، لأن الفتوى من اختصاص الفقهاء، فالفقيه الذي يُطلق الفتاوى على عواهنها دون تفهّم للموضوع الذي يُفتي فيه، ودون تفهّم للواقع الذي يعيشه، يكون للنار أقرب. لذا نجد كثيراً من فتاوى هذا الزمن تعفيساً في تعفيس، ولا تدلّ على أن الفقيه يعيشه عصره. مما أدّى في النتيجة إلى تنفير الناس من هؤلاء الفقهاء، وأدّى أيضاً إلى تنفيرهم من التديّن، بل ونفّرهم من كل شيء إسلامي. لذا فأرجو أن لا يستغرب القارئ من عدم إقبال الناس في هذا الزمن على التديّن، فالعيب ليس في ديننا، وإنما فيمن يحمله من هؤلاء الفقهاء والكتّاب الذين أعنيهم بكلامي. وديننا العظيم ليس أرضاً مشاعاً لكل من هبّ ودب لكي يفتي فيه، وإنما هو لكل من تعمّق وتخصص في علوم الشريعة، ثم عايش واقعه كاملاً، ثم مزج تلك العلوم مع الواقع، ثم أفتى بما يصلح للناس، وهذا شيء يفعله قليل جداً من فقهاء هذا الزمن.
ذكرت الكاتبة نوال السباعي في مقالها أن (باب الحارة) فاشل وساقط وتافه، واستدلت على ذلك بالمشاكل التي حدثت في حارة (باب الحارة) وما رافق ذلك من خلافات حادة ومشادات كلامية بين النساء والرجال. وأنا أسأل الكاتبة: هل ما جرى في تلك الحارة خيالي لا يحدث في الواقع؟ هل كانت أحداث المسلسل بعيدة عن الحارة الدمشقية في تلك الفترة؟ ألم تكن تلك الخلافات وتلك المشادات طبيعية جداً في حياة الناس؟ فالمسلسل يصوّر الحياة الواقعية للحارة الدمشقية في تلك الفترة الزمنية، ليتذكّر الناس أصولهم وعاداتهم وتقاليدهم العريقة التي غابت عن أجيالنا الحالية.
وكاتب السيناريو كان يستخرج الفضائل والأخلاق الحميدة من تلك الخلافات والمشادات التي كانت تحدث في المسلسل، ليتأثر المشاهد بتلك الفضائل والأخلاق ويقتدي بها، وفي الوقت نفسه ينفر من الأخلاق السيئة التي ظهرت من بعض أبطال المسلسل. وهذه طبيعة القصص والروايات والأفلام والمسلسلات، لأنه من غير المعقول أن تكون كل أحداث المسلسل فضائل وأخلاقاً حميدة وألفاظاً حسنة، لأنه سيكون المسلسل حينئذٍ بارداً ولا قيمة له، لا من الناحية الفنية ولا من الناحية الموضوعية ولا من الناحية الأخلاقية. ولكن حين يكون في أحداث المسلسل شيء من الشر وشيء من الخلافات ثم يأتي الخير فينتصر، فتحدث الفائدة المرجوة من الأعمال الفنية.
فالمسلسل يبيّن لنا كيف كان الناس يحترمون بعضهم ، فالصغير يوّقر الكبير، والكبير يعطف بحنوٍ على الصغير. وكيف أن الغني يحفظ التوازن الاجتماعي في المجتمع، فيكون عوناً للفقراء والمحتاجين، ويساهم مساهمة فعّالة في حل مشكلات الناس، ويكون يداً بيد مع عضوات الحارة، وبالتالي يكون محبوباً ومحترماً من الفقراء. والفقير لا يكون دنيء النفس، ولا يكون شرهاً للمال، وإنما نجده يعيش قانعاً محتسباً، وبالتالي لا يحقد على الأغنياء. وطبعاً سيكون هناك استثناءات قليلة جداً لبعض الفقراء السيئين، بحيث تكون نهاية هؤلاء الفقراء وخيمة وعاقبتهم أليمة ليرتدع المشاهد ويعتبر، كما حدث مع ( الإدعشري).
ويبيّن المسلسل أن العلاقات العاطفية قد تحدث في المجتمع، ولكن ليس بحجم الكم الكبير الذي نراه في المسلسلات الأخرى، فكل ما رأيناه من العلاقات العاطفية كان بين ابن الفرّان وبنت حكيم الحارة فقط، ومع ذلك فقد كان حبهما راقياً لم يتجاوز الحديث والنظر، أي بقي ضمن إطار العفة والخلق السليم.
ومعاني الشهامة والرجولة والنخوة والمروءة والنجدة والعفة وإعانة المحتاج والقضايا الوطنية.. كانت في أوجهها، وكان لها نصيب كبير في غرزها في نفوس المشاهدين، لا سيما أنها أُبرزت بشكل جميل ورائع ليتأثر المشاهد بها ويقتدي.
ومعاني التديّن المحافظ واحترام الشعائر الدينية وتوقير شيخ الجامع والتحذير من حلف اليمين الكاذب وأهمية طاعة الوالدين وإقامة الصلاة وصوم رمضان وإبراز أهمية الحجاب.. كانت هذه المعاني واضحةً أيضاً بشكل رائع ومؤثر في أحداث المسلسل.
وصحيح أنه كانت هناك شـخصيات سـلبية في الحياة كشـخصيات (فريال والإدعشـري وأبو النار وأبو غالب ورئيس المخفر أبو جودت) ولكن كانت هـذه الشـخصيات منفّرة ولم يخطر فـي بال أحد من المشاهدين أن يقتدي بها.
فمسلسل باب الحارة ناجح بكل المقاييس ، الفنية والدرامية والموضوعية والتهذيبية، وأنا أخذت رأي أحد كبار الأدباء الإسلاميين عن المسلسل، لأن الأدباء هم أهل الاختصاص بفن الدراما، باعتبار أن المسلسل في كل الأحوال قصة ممثّلة، فقال لي بأن المسلسل ناجح ورائع.
وينبغي على الإسلاميين إذا وجدوا مسلسلاً نظيفاً أن يقفوا معه ويشجّعوا أصحابه عليه، لا أن يقفوا ضده وينتقدوه.
متى ينتهي الإسلاميون من ظاهرة ( لعن الظلام ) في قضايا الفن الدرامي؟ :
كم أشعر بالأسى على حال الإسلاميين وهم يرَون بأم أعينهم كيف أن الأجيال تُمسخ بالأفلام والمسلسلات الهابطة وهم لا يفعلون شيئاً، وإنما يكتفون بأن يلعنوا الظلام، وهذه ـ كما نعلم ـ عادة الإنسان البائس واليائس، وعادة الإنسان السلبي في الحياة. فمتى يتوقف الإسلاميون عن لعن الظلام في قضايا الفن الدرامي؟ ومتى ينتقلون إلى إشعال النور فيه؟ متى يُنتجون الأفلام والمسلسلات الإسلامية؟
التقيت مؤخراً رئيس رابطة الأدب الإسلامي الدكتور عبد القدوس أبو صالح وتحدثت معه عن ضرورة انتقال الرابطة إلى دور كتابة السيناريوهات للأفلام للمسلسلات، فقال لي: الرابطة تتعرّض لهجمة شرسة وأنه هناك ما هو أهم من كتابة السيناريوهات. فقلت في نفسي: وهل هناك أحد يسأل عنكم يا أدباء الرابطة حتى يهاجمكم. فأنا لم أجد أفشل من هذه الرابطة، فهي نائمة نومة أهل الكهف، فلا أحد يُحسّ بها، ولا يوجد لها دور في الناس، وإن أصغر كاتبٍ من كتّاب السيناريوهات له دور أكبر وأخطر من كل أدباء رابطة الأدب الإسلامي، إذاً ما قيمة أدباء هذه الرابطة في حياتنا؟ طبعاً ليس لهم قيمة، وإنما هم صفر على الشمال، وليتهم كانوا صفراً على الشمال، وإنما هم أصفار على الشمال. ورئيس الرابطة يعيش في المريخ، ولا يدرك ماذا يجري حوله، وسيسأله الله تعالى عن هذا تقصير الرابطة في كتابة السيناريوهات.
على أية حال أنا أعرف أن هناك جيلاً قادماً، يلوح في الأفق، هذا الجيل هو جيل الأستاذ عمرو خالد، سوف يجتاح كل هذه العقول القديمة في التيار الإسلامي، وسيتوقف عن لعن الظلام، وسيشعل النور، وسينشئ الفيلم الإسلامي والمسلسل الإسلامي والمسرح الإسلامي.