من تراثنا الفلسطيني، الألعاب الشعبية الفلسطينية
اللعبة الثانية
لوح الصبر
أدوات اللعبة:-
1 - موسى، وكان هذا الموسى يحمل اسما خاصا، وهو الموسى الكباس، ويأتي بحجمين، حجم صغير وحجم كبير، فالحجم الصغير هو الموسى الذي يحمل على الحديدة التي تحتضن الجسم الخشبي حتى منتصفه ثلاثة نجوم، أما الحجم الكبير فهو التي تحمل حديدته خمسة نجوم، وقد اخذ تسميته هذه من عدد الكبسات التي يجب أن نكبسها حتى يتم إغلاقه. وهو موسى حاد جدا، ووصلت شهرته إلى حد أن الناس حين كانت تود إعطاء كلمة وتؤكد مدى التزامها بها تقول " كلمتي زي حد الموسى الكباس" أي أن كلمتي قاطعة تماما مثل الموسى الكباس، وكان يستخدم موسى اخر، وكان يحمل اسم الموسى الفقاس، وهو اصغر حجما من الموسى الكباس، ولكن الطريف والمشوق فيه انه يخرج من المقبض خروجا مفاجئا وسريعا بمجرد الضغط على زر حديدي يقع في أعلى المقبض، وقد استمد اسمه كموسى فقاس من كونه يفقس من مكانه بمجرد الضغط على الزر الخاص بذلك، وكذلك سرعة عودته واختفائه داخل المقبض بمجرد الضغط على نفس الزر.
2- مجموعة من ألواح الصبر الطازجة.
عدد اللاعبين:-
لا تحتاج هذه اللعبة إلا إلى اثنين من الذكور، فهي لعبة تحتاج إلى جهد كبير من التحضير، جهد لا يخلو من المخاطر أثناء التحضير، وكذلك مخاطر اللعبة ذاتها.
ولوح الصبر تعتبر من الألعاب التي تحتاج إلى احتراف شديد، وقدرة خاصة وفائقة، لان حركات اللعبة كما سيأتي لاحقا، تستند إلى كم من القدرة والمهارة والإتقان التي يجب أن يتحلى اللاعب بها من اجل الفوز، ولأن الموسى يعتبر من الأدوات التي يمكن أن تتسبب بضرر شديد، وكذلك ألواح الصبر، فان حظ الإناث كان معدوما في هذه اللعبة، إلا من محاولات التجربة لمرة واحدة أحيانا للأخت أم ابنة العم أو ابنة الخال.
طريقة اللعب:-
يوضع لوح الصبر على الأرض بين اللاعبين تماما، ويكون كل منهما متخذا وضع القرفصة – وهو شرط من شروط اللعبة – ثم تجرى قرعة بينهما، إما باستعمال قطعة من النقود تطير في الهواء، أو بوضع حجر صغير بإحدى اليدين وهما خلف الظهر، ومن يعرف بأي اليدين الحجر يكون هو صاحب الحق في البدء.
في هذه اللحظة يوضع الرأس الشديد الاستدقاق من النصل على أنملة الخنصر اليسرى، ويثبت بسبابة اليد اليمنى برفق، ثم يقلب الموسى بسرعة خاطفة وبحركة دائرية في الهواء ليسقط راس النصل في لوح الصبر منتصبا انتصابا تاما أو مائلا بعض الميل، ويتم الانتظار للحظات للتأكد من أن الموسى إنغرز باللوح بشكل جيد لا يسنح بسقوطه بعد لحظات، ثم يتم الانتقال لأنملة البنصر فالأوسط فالسبابة فالإبهام.
ينتقل اللاعب بعدها إلى العقدة الثانية من الخنصر فالبنصر فالأوسط فالسبابة فالإبهام، وتعاد الكرة حتى يتم الانتهاء من جميع العقد.
بعد ذلك تغلق قبضة اليد اليسرى جيدا ويوضع الموسى فوق القبضة بحيث يكون اتجاه النصل معاكسا تماما للوح الصبر، يقلب الموسى بعدها بحركة دائرية في الهواء ليستقر نصل الموسى في لوح الصبر استقرارا تاما.
في المرحلة اللاحقة تلصق أصابع اليد باستثناء الإبهام ببعضها وهي مفتوحة، ويتم إبعاد الإبهام عن الأصابع إبعادا تاما، ثم يوضع الموسى فوق العضلة الواقعة بين الإبهام وبين السبابة ويثبت برفق بسبابة اليد اليمنى، وبحركة سريعة يقلب الموسى بشكل دائري في الهواء ليستقر في لوح الصبر كما في الخطوات السابقة.
يقف اللاعب بعد ذلك بحيث يكون جسمه منتصبا بشكل مستقيم تمام الاستقامة، ثم يضع الموسى على ذقنه بحيث يكون اتجاه النصل باتجاه لوح الصبر ولكن دون أن يرى لوح الصبر، ويترك الموسى يسقط ليستقر في لوح الصبر، ومن ثم يضعه على انفه ويسقطه بنفس الطريقة، والمرحلة الأخيرة بإسقاطه عن جبهته بنفس الطريقة أيضا.
تنويه:- هناك اختلاف بسيط في تفاصيل اللعبة من منطقة إلى أخرى، وهو اختلاف لا يؤثر في جوهر اللعبة ونواتها.
تحليل اللعبة:-
تتميز هذه اللعبة بأنها معقدة التركيب في الحركات التي تحتاج إلى احتراف وإبداع ودقة، وتحتاج إلى انتباه شديد في حركة الموسى حين يوضع فوق الأنامل حتى لا يتسبب بإحداث جروح أو ثقوب. كما تحتاج إلى مهارة فائقة ومعقدة في توجيه الموسى بشكل دائري في الهواء حتى يعود ساقطا في لوح الصبر بشكل ثابت، لأن الخطأ يعني انتقال اللعبة من اللاعب الخاسر إلى اللاعب الاخر، فليس هناك أي قانون يدعو إلى التسامح مع المخطىء حتى ولو كان الخطأ قد أتى من الحركة الأخيرة، ولكن إذا ما نجح اللاعب في تخطي كل المراحل فانه يحصل على ما يسمى" حياة "، وهذه الحياة الجديدة التي يحققها يمكنه استخدامها إذا ما فشل في المرة التالية في الوصول إلى المرحلة الأخيرة من هذه اللعبة، وحين يفشل يستخدم لفظ" الموت "، لذلك سمي النجاح في المرة الأولى " حياة ".
وبسبب الاحتراف الدقيق الذي تحتاجه هذه اللعبة، فان المشاهدين الذين يكونون خارج اللعبة يشكلون نوعا من الإحراج الشديد للاعب المهزوم، فهم أصلا يشجعون المنتصر بطريقة مستفزة، سواء بالألفاظ التي يوجهونها للمنتصر والتي تحمل غمزا ولمزا للمهزوم، أو بتوجيه الهزء المباشر إليه. مما يضفي على الجو السائد نوع من التحامل الشديد في النفس، والذي كان في اغلب الأحيان يؤدي إلى عراك بالأيدي والأرجل قد يمتد إلى الأقارب والأصدقاء.
لكن الأجواء التي تسبق البدء في اللعبة، تعطي هذه اللعبة بعض الخصوصية التي لا تحظى بها ألعاب كثيرة. فهي لعبة صيفية، وعلى من يود اللعب أن يجهز نفسه فور الخروج من المدرسة للتوجه نحو السهل أو الجبل كي يقطع ألواح الصبر التي تحتاجها اللعبة، فاللوح الواحد يتعرض للدمار والتلف بسرعة بسبب سقوط الموسى المتكرر في جميع أجزاءه، لكنها رحلة ممتعة مؤلمة.
ممتعة بسبب الاندفاع العجيب لروائح الصيف الساكنة أعماق السهول والوديان والجبال، رائحة الأرض التي تخرج من مساماتها بفعل ضربات الحرارة الشديدة، ولا أروع أو أعذب من اللحظة التي يتم الاحتماء فيها من السنة اللهب التي تصبها الشمس بين أغصان أشجار البيارات المرصوفة بالبرتقال والليمون وأنواع الحمضيات الأخرى، وليس أشهى من شربة الماء التي تضخه محركات من تحت الأرض، ماء بارد زلال، يقع في الحلق وقوع الروح في الأعضاء، وكذلك البرتقال المنقوع بالماء لفترة حتى يبرد برودا كنا نراه كنسمة باردة تخترق الجسد الملوح بشمس حارقة.
ومؤلمة بسبب الحرارة التي تضرب أجسادنا بغير رحمة، وبسبب العرق الذي ننزفه مما يجعل ملابسنا تلتصق بأجسادنا، بل وبما ينتج من رائحة تعافها الأنوف وتأباها النفوس، والألم الأشد يأتي من جدار الصبر الذي نواجهه من اجل الحصول على الألواح منه، فالصبر يحمل أشواكا ناعمة لا ترى بالعين بسهولة، وهي أشواك تشبه نعومة الحرير، لكنها تحمل قدرة على الإيلام بحيث تبكينا طوال ساعات.
فحين كنا نصل جدار الصبر المطلوب، ونبدأ بقص اللوح من جذره، كانت الأشواك الناعمة تتطاير لتدخل في ملابسنا وأجسادنا، أضف إلى ذلك وصول نسمة ريح مفاجئة، فإنها تضيف إلى الحركة كميات من تلك الأشواك، ناهيك عن وخزات الأشواك الكبيرة.
وحين كنا نحصل على الألواح، تبدأ عملية تنظيفها من الأشواك بالموسى باسلوب احترافي لا يؤدي إلى جرح الألواح، ثم نقوم وبحركات لطيفة بدلك الألواح بكومات من التراب، وكنا في أكثر الأحيان ندلكها بالتراب الذي يخلفه الخلد وراءه أثناء حفره تحت الأرض. وحين نبدأ خطوات العودة، يشتد الم الأشواك الناعمة بسبب الشمس والعرق، ولكننا لم نكن نجرؤ على حك أجسادنا خوفا من التهاب الألم إلى حد لا يمكن احتماله، وكنا فور وصولنا المياه المنتشرة بالبيارات نبدأ وبلهفة عارمة بصب الماء على أجسادنا حتى يهدأ الألم قليلا.
وفي البيت كان علينا أن نواجه صفعات والدينا الشديدة، والتي كانت تنهال علينا شفقة بنا حتى لا نعود لتكرار الأمر، وكان الحمام الساخن والدلك الشديد بليفة خشنة، ثم دهن الجسم بزيت الزيتون ينهي أزمة الالام المبرحة التي تستبد بأجسادنا بفعل تكاتف الأشواك مع الشمس الحارقة والعرق المالح الكريه الرائحة.
هي لعبة شاقة عسيرة، لكنها بكل ما تحمل من مشقة وعسر وألم كانت تحلو لنا وتجعل كل الأوجاع عذبة على النفس، محببة إلى الروح. والان وبعد مرور سنوات طويلة من العمر فإنها ترجع بذكراها إلى روح النفس المعلقة ببراءة السهول والوديان والجبال، إلى موقع خطانا الصغيرة الأقدام، الكبيرة الأحلام، تعود لتتدفق الدموع على ربوع احتضنت أنفاس طفولتنا احتضان الأم أنفاس وليدها البكر، تعود لتعود بنا إلى أتراب قضوا وهم يدافعون بأجسادهم وأرواحهم وأحلامهم عن تلك الأشواك التي سكنت أجسادهم وسكنوا هم في وخزاتها، تعود لتعود بنا إلى أيام هيهات أن تعود، لأنها أيام خارج زمن التاريخ والإحصاء، هي أيام تقاس وتحسب بخفق الروح ووجيب النفس.
وسوم: العدد 752