سئمت من أبي
يقول صاحبي .... سئمت من أبي ...
من صراخه ... من نقده ... من عتابه ...
إذا دخل غرفتي ووجد المصباح مضاءا أو المروحة وأنا خارجها صرخ في وجهي: لم لا تطفئه ولم كل هذا الهدر في الكهرباء ؟؟؟
إذا دخل الحمام ووجد الصنبور يقطر ماءا صرخ بعلو صوته لم لا تحكم غلقه قبل خروجك ولم كل هذا الهدر في المياه؟؟؟
دائما ما ينتقدني ويتهمني بالسلبية !!!
يعاتب على الصغيرة والكبيرة !!!
حتى وهو على فراش المرض !!!
إلى أن جاء يوم الخلاص ...
اليوم الذي لطالما انتظره.
اليوم سأجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي للحصول على وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبرى.
وإن تم قبولي فسأترك هذا البيت إلى غير رجعة وسأرتاح من أبي ومن صراخه وتوبيخه الدائم لي.
استيقظت في الصباح الباكر واستحممت ولبست أجمل الثياب وتعطرت وهممت بالخروج فإذا بيد تربت على كتفي عند الباب.
التفت فوجدت أبي متبسما رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جلية على وجهه....
وناولني بعض النقود وقال لي أريدك أن تكون إيجابيا واثقا من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال.
تقبلت النصيحة على مضض وابتسمت وأنا أتأفف من داخلي، حتى في هذه اللحظات لا يكف عن التنظير وكأنه يتعمد تعكير مزاجي حتى في أسعد لحظات حياتي.
خرجت من البيت مسرعا واستأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى الشركة.
وما أن وصلت ودخلت من بوابة الشركة حتى تعجبت كل العجب !!!
فلم يكن هناك حراس عند الباب ولا موظفو استقبال سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة.
وبمجرد أن دخلت من الباب لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضة للكسر إن اصطدم به أحد.
فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون #إيجابيا، فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيدا.
ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقة بالمياه التي كانت تطفو من أحد الأحواض الذي امتلأ بالماء الى آخره. وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه. فتذكرت تعنيف أبي لي على هدر المياه فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته في حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلأ بسرعة إلى حين عودة البستاني.
ثم دخلت مبنى الشركة متتبعا اللوحات وخلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار فقمت لا إراديا بإطفائها خوفا من صراخ أبي الذي كان يصدح في أذني أينما ذهبت.
إلى أن وصلت إلى الدور العلوي ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة
قمت بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين وجلست انتظر دوري وأنا أتمعن في وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتني أشعر بالدونية من ملابسي وهيئتي أمام ما رأيته. والبعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية.
ثم لاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج في أقل من دقيقة.
فقلت في نفسي ان كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد تم رفضهم فهل سأقبل أنا ؟؟؟!!!
فهممت بالانسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتي قبل ان يقال لي نعتذر منك.
وبالفعل انتفضت من مكاني وهممت بالخروج فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول.
فقلت لا مناص سأدخل وأمري إلى الله.
دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاص نظروا إلي وابتسموا ابتسامة عريضة ثم قال أحدهم متى تحب أن تستلم الوظيفة ؟؟؟
فذهلت لوهلة وظننت أنهم يسخرون مني أو أنه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه.
فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بألا أهتز وأن أكون واثقا من نفسي.
فأجبتهم بكل ثقة: بعد أن أجتاز الاختبار بنجاح ان شاء الله.
فقال آخر لقد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر.
فقلت ولكن أحدا منكم لم يسألني سؤالا واحدا !!!
فقال الثالث نحن ندرك جيدا أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أي من المتقدمين.
ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عمليا ...
فصممنا مجموعة اختبارات عملية تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها ومدى حرصه على مقدرات الشركة، فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه في طريق كل متقدم، وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وضعت في كل أروقة الشركة.
يقول صاحبي ...
حينها فقط اختفت كل الوجوه أمام عيني ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شئ ...
ولم أعد أرى إلا صورة أبي !!!
ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والمودة والحب والحنان والطمأنينة.
شعرت برغبة جامحة في العودة إلى البيت والإنكفاء لتقبيل يديه وقدميه.
اشتقت إلى سماع صوته و موسيقى صراخه تطرب أذني.
لماذا لم أر أبي من قبل؟؟؟
كيف عميت عيناي عنه ؟؟؟
عن العطاء بلا مقابل ...
عن الحنان بلا حدود ...
عن الإجابة بلا سؤال ...
عن النصيحة بلا استشارة ...
تمنيت لو ركبت بساط الريح لأعود إلى بيتي وأحتفل معه بفوزي بالوظيفة الجديدة.
تركت لهم ملفا كاملا يحوي شهادتي وخرجت مسرعا وخطواتي تسابق بعضها بعضا للحاق بقلبي الذي سبقني فرحا إلى البيت.
وما ان وقفت عند أول الشارع حتى رأيت ازدحاما أمام عمارتنا !!!
اقتربت بحذر وضربات قلبي تضرب بعضها بعضا ... فتلقاني جاري باكيا واحتضنني قائلا :
عظم الله أجرك في أبيك.
تسمرت قدماي في الأرض ولم تعد تقوى على حملي ...
ضاعت فرحتى واسودت الدنيا في وجهي ...
وبدأت الأرض تدور من حولي ...
هممت بسؤال كل من مر بجانبي أحقاً مات أبي ؟؟؟
أحقاً رحل ولن يعود ؟؟؟
لا لا لم يمت حبيبي فهو موجود ...
رحيلك مُرٌّ يا أبي
ليس هناك أقسى على النفس من رؤية حبيبك مُسجَّى بلا حراك، تراه ولا يراك، تنظر إليه للمرة الأخيرة ولا تكاد تصدق ما تراه عيناك ...
يا أيها الطاهر النقي ... يا أيها الطيِّب السخي ...
لو كنت أعلم أنك سترحل لكنت أعددتُ نفسي، وتقربتُ منك أكثر وتزودت من برك بما قد ينفعني بعد وفاتك.
لو كنت أعلم برحيلك لأخبرتك أنِّي لا أجد نفسي من دونك، ولا أعلم كيف ستصبح حياتي بعدك،
ليتك تسمعني الآن لأُخبرك أنَّ فراقك ينتزع روحي من جسدي، ويقذف بي إلى أعماق المجهول.
رحلت وفي القلب غُصَّة وفي النفس حسرة على كل يوم لم أمتع ناظري برؤية وجهك البشوش ولا أذني بسماع صوتك الحنون.
منحتنا كل شيء ولم تأخذ منا شيئا ...
ومذ عرفت الحياة وأنت لنا العطاء والاحتواء، والصبر والوفاء ...
كنت أنت البارَّ بنا ولم تنل البر منا كما يجب أن يكون.
غبت يا أبي وغاب عني العقل الرشيد والركن الشديد، والسند المتين، والناصح الامين.
لم يمت أبي ولن يموت ...
بل سيظل حيا في صلاتي، في دعائي، في سجودي، في صدقتي، في حجي، في عمرتي، وفي كل عمل أتقرب به إلى الله أسأله أن يغفر لأبي ويتغمده بواسع رحمته.
لم يمت أبي ...
وإن مات فهو باقٍ في نفسي إلى أن ألحق به في جنات الخُلود ...
وسوم: العدد 794