قطرتا ماء
كانتا تلعبان معاً , بفرح وحبور , قطرتا ماء , من بين كل القطرات , حتى جاءت لحظة الفراق , والانفصال , دلو ماءٍ كبير إغترف غرفة كبيرة , لم تستطع عرّادة الافلات منه , فألتهمها مع باقي القطرات , رفعها الى فوق , بعيداً عن متناول عرّاك , الذي هبّ مسرعاً ليخلصها , لكن .. بدا ان الفراق أمر محتوم , لم يطل الامر , حتى نزل دلو أخر , فألتهم كماً من الماء , كان عرّاك في جملة من ألتهمه .
صرخت عرّادة :
- عرّاك !.
بادلها الصراخ :
- عرّادة !.
كل دلو من الدلوين أفرغ محتواه في جهة مختلفة , انطلقا مبتعدين مع المياه , تتلقفهما الامواج , وتدفعهما بعيدا , صبت عرّادة في نهر دجلة , بينما عرّاك انزلق في نهر الفرات .
طوال الطريق , لم ينفك احدهما عن التفكير في الاخر , وما هي حاله الان ؟ , هل لا يزال حيّاً ؟ , ام أنه غدا سقياً لزرع , او مشروباً لكائنٍ عطشان .
بعد أيام طوال , رست عرّادة على ضفاف دجلة في بغداد , شاهدت تجمعاً بشرياً كبير , ينشدون الشعر في الغرام والاشتياق , فدنت منهم تستمع , لكن الموج قذفها بالقرب من رجل يحتسي الخمر من زجاجه طويلة , بدا حزيناً , كئيباً , مع ذاك كان مستغرقاً في تأمل كل قطرة من مياه دجلة , فجأةً تهلل وجهه فرحاً , عندما وقعت انظاره على عرّادة :
- عرّادة .. هذه أنت يا عزيزتي؟!.
- نعم .. إنها أنا .. هل تعرفني ؟ .
- كيف لا أعرفك وقصتك مع صديقك عرّاك .
- وتعرف عرّاك أيضاً ! .
- ومن لا يعرف عشق دجلة للفرات .
- هكذا بكل بساطة أصبحنا على كل لسان .
- بل لا يحتاج الامر كثيراً من التفكير .
- إذاً من أنت ؟ .. اشتقت الى معرفتك .
- أنا .. دعك مني .
- لكني مصرة .
- حسناً ... أنا المشاكس الكبير العاشق لدجلة والفرات .
أشارت عرّادة الى الجمع بالجوار :
- ومن هؤلاء ؟ .
- أنهم مجانين مثلي .. لكنهم أقل مشاكسة .. لم ينفكوا عن عشق مياه الرافدين .
أثناء ذلك , دخلت قوات مدججة بالسلاح , اخترقوا التجمع هاتفين :
- أين هو ؟ .
لم يش به أحد , لكن المسلحين أصروا بعناد , فقاموا بضرب بعض الحضور , مع ذاك , لم يش به أحد , أرادت عرّادة ان تستفهم عما يجري , فهمها الرجل وبادر بالإيضاح:
- عزيزتي عرّادة .. ألم أقل لك بأني مشاكس .. مشاكس كبير .
- هل هؤلاء يبحثون عنك؟.
- بكل تأكيد عزيزتي .. يعلمون جيداً انهم لا يستطيعون الامساك بي الا وأنا سكران .
- أليس السكر خطراً عليك في هذه الحالة ؟!.
- أنا أنتشي من عشق الرافدين وأرضهما.
- وماذا سيفعلون بك ؟ .
- سينهون حياتي هذه المرة .. فقد طفح بهم الكيل .
- وهل سوف تستسلم لهم ؟ .. ألا يجدر بك الهرب ! .
- لقد سئمت الحياة مع هؤلاء .
نهض واقفاً , استدار نحوهم صارخاً :
- هنا ... هنا الذي تبحثون عنه ! .
هرعوا اليه , أوقعوه أرضاً , وهموا بتكبيله , رغم الالم والشعور بالإذلال , إلتفت نحو عرّادة ناصحاً :
- عزيزتي عرّادة .. هذه هي حالنا .. فنرجو المعذرة من ضعفنا .. يا دجلة الخير سامحنا لعجزنا .. واقعاً ليس بعجز .. بل مشاكل تراكمت فكانت كالجبال السوامق .. أصبحنا وأمسينا غير قادرين على حلها ... عرّادة .. عزيزتي .. علمتني الحياة ان من يطلب السلامة فليكن في الوسط .. إنطلقي وأسبحي في الوسط , ولا تقتربي من الشواطئ .. ففيها يكمن الخطر .
- حسناً .. سوف أفعل ! .
- صحيح وقبل ان أنسى .. لو كتبت لك السلامة .. وكتبت لعرّاك .. سوف تلتقيان .. هناك .. عند شط العرب .. حيث يلتقي التوأمان .. العاشق وعشيقته .. الأخ وأخته .
- عند شط العرب ! .
- نعم .. عزيزتي.
- هل هو بعيد؟.
لم يسمح الرجال المسلحون بالكلام اكثر , قاطعه أحدهم :
- انهض ايها السكير .. العربيد .. من سكرك غدوت تكلم الماء !.
أوقفوه على قدميه , حدق في الرجل قائلاً:
- أنا لا أكلم الماء .. بل أكلم الحضارات !.
- أي حضارات يا سكير .. أنه مجرد ماء ! .
- على ضفاف ماء الرافدين أنشأ الاوائل الحضارات .. وشيدت المدن حتى وقتنا الحاضر .. وسوف تستمر في الاجيال القادمة .. يا غبي !.
أخذوه وانصرفوا , شيعتهم عرّادة بأنظارها حتى تواروا عنها مبتعدين , ألقت نظرة حول بغداد والضفاف والجسور , قررت ان تعمل بنصيحته , فانطلقت تسبح نحو وسط النهر .
في غضون ذلك , كان عرّاك يتنقل من مدينة الى مدينة , حتى رسا به الموج على ضفة في مكان قريب من مدينة النجف , قرر ان يأخذ قسطاً من الراحة , عند الضفة , كان هناك رجلاً يتوضأ , أنهى وضوئه فشرع في الصلاة , أكتفى عرّاك بالتفرج , حتى فرغ الرجل من صلاته , التفت يميناً ويساراً , في نظرة تأملية , وكأنه يودع الماء والسماء , والارض , ثم مال برأسه محدقاً بعرّاك :
- عرّاك .. ها أنت ذا !.
- هل تعرفني ؟.
أبتسم الرجل وقال :
- ومن لا يعرف عرّاك وعرّادة .. قصة عشق سرمدي .
- هل أفتضح أمرنا ؟.
- ليست فضيحة .. عشق الفرات لدجلة غير خافٍ على أحد .
- حسناً .. من أنت ؟.
- أنا أبن هذه البلاد .. على أرضها ولدت .. وبمائها غسلت .. وفيها نموّت وترعرعت .. فتراني بهذه الصورة .. لكن عزيزي عرّاك .. لمّ تسبح في الضفاف ؟ , هذا خطر عليك.
- طلباً للراحة .
- لا .. لا .. لا راحة في هذه البلاد .. اسبح في الوسط .. فهو أسلم لك .. وأصبر على الفراق .. فالصبر جميل .. سرعان ما سيلتقي الاخوان .
- من هما ؟ .. وأين يلتقيان؟.
نهض الرجل وأشار نحو الجنوب :
- هناك .. عند شط العرب .. ملتقى الاخ بأخته .. والعاشق بعشيقته .
أستنفر عرّاك وشعر بالطاقة تدب في جسده شوقاً للقاء عرّادة :
- هل لايزال الطريق بعيداً ؟ .
- كلما زاد الشوق للمحبوب .. هانت الصعاب .
بينما هم كذلك , اقبلت سرية مدججة بالسلاح , حدق فيهم الرجل والتفت الى عرّاك:
- عزيزي عرّاك .. يبدو ان اللقاء أنتهى .
- من هؤلاء الرجال ؟ وما يريدون؟ .
- يريدوني أنا .. يعلمون انهم لا يسمكون بي الا في وقت الصلاة .
- وهل انت مشاكس ؟.
- نعم .. مشاكس كبير .
- لكن يبدو أنك رجل طيب !.
- أبدو كذلك للطيبين .. لا للأشرار .
- ماذا فعلت ؟ بأي جرم يطلبوك ؟ .
- عشقي لوطني .. أرضاً وماءاً وسماءًً وهواءً .. هذا هو جرمي .
- ما سيفعلون بك ؟.
- سوف يضعون حداً لشقاوتي .. وينهون مشاكستي .
- وما أنت فاعل إذاً ؟ .
- حقيقةً .. لقد سئمت الحياة مع هؤلاء .
وصل الرجال المسلحون , طرحوه أرضاً , وأحكموا تقييده , وسط كماً هائلاً من السباب والشتائم , مع كل هذا , لم يعرهم أي اهتمام , ألتفت نحو عرّاك قائلاً:
- عزيزي عرّاك .. كما قلت لك .. أسبح في الوسط نحو شط العرب .. ففي الوسطية السلامة .
ضربه أحد الرجال مخاطباً إياه :
- لقد تدينت حتى جننت يا معتوه ! .
- بل أختلط تديني بعشقي لوطني .
- صه .. يا حقير ! .
- نعم .. أنا حقير جداً كي أفنى في سبيل هذا الوطن العظيم .
ألتفت الرجل الى ضفة النهر :
- لازلت هنا يا عرّاك .. أنطلق .. ابتعد .. ولا تنس نصيحتي !.
ضحك الرجال المسلحون عند سماعه , وقالوا ساخرين :
- مع من تتكلم ؟.
- أكلم الحضارات .. فهي باقية !.
- أي حضارات يا أحمق!.
- لولا هذا النهر الجاري لما سكن الماضيين ها هنا .. ولما سكن الحاليون .. ولن يسكن القادمون .. هذا النهر هو منبع الحضارة يا جاهل !.
ضربوه بشدة , ثم أخذوه عنوةً , تلاحقهم انظار عرّاك , الذي سرعان ما تأمل النصيحة , فأسرع نحو وسط النهر , يسبح بسرعة , عله يصل الى مكان اللقاء , هناك , في الجنوب , عند شط العرب .
يتدفق النهران بشوق بالغ , كلاً منهما على موعد لقاء مع الاخر , لقاء حميم , في القرنة , كرمة علي , يتعانقا معا ليكونا بهذا العناق الدافئ شط العرب , ويختما عرسهما في الخليج العربي , بعد مضي مئة واثنان وتسعون كيلو متراً على زفافهما .
بعد فراق طويل , يلتقي النهران معا , ويعانق الصديق صديقه , والحبيب حبيبه , فرحاً باللقاء المتجدد , هناك , كانت عرّادة تنتظر عرّاك , حالفها الحظ كي تصل قبله , تسأل عنه كل قطرات المياه , فلم تجد أي معلومة قد تدلها عليه , أيقنت انه لايزال هناك يتقلب مع أمواج نهر الفرات , ولابد انه قادم , لم تكل , ولم تجزع , ولم تتعب من الانتظار , ولم تيأس .
على غفلة من الأمواج , سمعت خلفها صوتاً مألوفاً , هاتفاً بإسمها , ( عرّادة .. ها أنا ذا .. قد وصلت أخيراً ) , ألتفتت نحوه , فإذا بعرّاك مسرعاً نحوها , تعانقا عناقاً حاراً , لفترة طويلة لم يفلت أي منهما الأخر .
توجها نحو الضفة ليستعلم كلاً منهما أخبار الأخر , ويتبادلان أطراف الحديث , قص كلاً منهما على الأخر قصة الرجل الذي قابله , بألم وامتعاض , ثم سكتا , وحدقا بتدفق الماء الجاري نحو الخليج , البحر , قالت عرّادة معبرةً عما يختلج في صدرها :
- لا أريد الذهاب الى البحر ! .
- ولا أنا .
- أريد أن أبقى هنا .
- وأنا كذلك .
الى اليمين , شاهدا طفلاً عطشاً , اقترب من النهر ليشرب , فتبادلا النظرات , فهم كلاً منهما ما يصبو إليه الأخر , تشبثا ببعض , ثم ألقيا بنفسيهما في كفي الطفل الصغيرتين , فبتلعهما مع كثيرٍ من القطرات الأخرى .
وسوم: العدد 814