دمشقيّة في الخليل!

م. موفق أبو حمدية

كانت عمّتي تأتي إلينا نهاية كل صيْف، أحاديثها كنسيم البحر، تنعش الروح، وتشرح الصدر، إلا أنّ قصصها أحياناً فيلمُ رعبٍ مكتمل الأركان!، قالت لي ذات مرة بسذاجة:

-         إنهم وحوش كاسرة، لقد قتلوا وذبّحوا المساكين في مدن الساحل.

كنتُ أحبها، وأتمنّى أن أذهب لزيارتها مثلما تأتي إلينا، لكنني عندما أتذكر صور "العدو" المخيف أسارع لحذف هذا التمنّي من سجلّي، عمّتي متزوجة من فلسطينيّ يعيش في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، انتقلت إلى حيث العنب يُصنعُ منه عسلاً حلو المذاق تجلب لنا منه قائلة بكل زهو :

- إنني صنعته بكلتا يدي، طبخته خصيصاً لكم .

لا زالت تتردد كلماتها في أذني وهي تتحدث عن فلسطين بوصفها ضاحيّة جنوبية لسوريّا، حتى مجلس النوّاب الذي يقع في الصالحيّة شهد مراراً عدة نقاشات كانت تتحدث عن فلسطين وقضيتها . في مساء أحد الأيام، جلسنا على السطح، شربنا الشاي، وسعتْ لي عمّتي في المجلس، وضعتْ رأسي على فخذها،  فحركت ضفائر شعري بيمينها مثلما يحرك الذاكر مسبحته، قالت:

-         كم أنتِ جميلة، يا بنت أخي!

كانت تلك الجملة تميمة مهّدت لما بعدها، أتذكر أنني أسندت رأسي أبكي على ذلك الفخذ بعدد شعر رأسي بعد ذلك، فلطالما استبدّ بي الحنين إلى الصالحيّة وكنتُ دائماً أسأل نفسي عن سر قبولي لطلب عمتي أن أكون زوجاً لابنها !، فلم أجد جواباً سوى سحر تلك الوسادة من لحم وعظم، وصفاء تلك السماء، ونقاء ذلك النسيم الرقراق.

الصالحيّة، ذلك العشق المعشش في الذاكرة، الذي يكابر الزمن ويناطح الغربة، تلك الحواري المعطّرة بالفل والياسمين، هنا حيثُ جاء من فلسطين ابن قدامة وذريته، نزلوا في السهل فمرضوا، فلم يجدوا هواءَ طيّباً كهواء جمّاعين إلا في تلك البقعة التي تنتصب على سفح قاسيون، سُميت لهم فقيل: يسكن هنا أناس صالحون!، فصارت الصالحيّة .

خرجتُ منها متوشحّة بالبدلة البيضاء، كانت لي في البداية مثل كفن اتسع لذكرياتي وحتى جسدي، أتذكر أن أول ساعات الغُربة مخيفة حزينة بطعم الدمع!، فيما محمد ووسام وخديجة وفاطمة وأطفال الحيّ يتسابقون للحاق بسيارة الأجرة التي حملتني مع عمتي وزوجي إلى الخليل.

خفف من الألم وجود غصن من شجرة العائلة معي، تشاركنا سوياً في الحنين، بالإضافة إلى وجود زوج مقدّر محب، زال هذا الألم أخيراً إذ وجدت أن فلسطين ما هي إلا جزءٌ أصيلٌ من سوريا تبعاً للجغرافيا والماضي والحاضر أيضاً . صرتُ أفهم حكاية هذه البلاد، فكلما أشتاق للأمويّ أذهب للصلاة في الأقصى، وكنت – ولا زلت- أظن أني إذا ما وقفت على مئذنة الأسباط سأرى جبل قاسيون أمامي، فأسمع صوت المؤذن يداعب الصدى، وحلق المتصوفة بالمديح تخرق جدار الصمت، سأرى الأطفال يلعبون، والنساء يتغندرن، والليل يحتفل، والبيوت قناديل تعكس نجوم السماء بضوءها على الأرض، سأرى مسجد الأربعين، وقبر محيي الدين.

ثار الشعب، اشتعلت الشام بالوقود الذي أراقه النظام الخبيث على مدى ثلاثين عاماً، كان لا بدّ من الثورة، وإلا لمات أهلنا غرقاً أو حرقاً، لا حلّ إلا بالانتفاضة التي تنبت لنا من الدم ورداً أحمر يقطفه أحفادنا كما فعل الفلسطينيون وهم يواجهون المحتل بلا كلل أو ملل على مدى عشرات السنين.

 أقول بصدق منحوت من قلب الألم، أنني أشعر اليوم بذلك اللاجئ السوريّ الذي يقاسي البرد والجوع في مخيمات اللجوء، فلقد سمعت حكاية مثلها في زيارة لمخيم العروب شمال الخليل ذات مرة !، كما أعرف ذلك الخوف الذي يسيطر على قلوب الأبرياء المستهدفين بالقصف والنيران لأنني عايشت ذلك الإحساس المُرَّ مرات عدة في بداية انتقاضة الأقصى!، والأهم من ذلك بأني أدري ما هو شعور كل سوريّ الآن، لأني متأكدة أنهم جميعاً محبطون من ذلك التقصير واللامبالاة التي يقابل بها الكثيرون معاناتهم وقضيتهم !.

الصالحيّة اليوم، خرج منها الكثيرون خوفاً على حياتهم، كرامتهم، وأعراضهم، أهلي بقوا هناك صامدين، إن قُدرتْ لهم حياة فلن تكون خارج تلك البلدة، لأنه "من يطلع [يخرج] من داره، يقل مقداره" هكذا علمتنا التجربة الفلسطينية وتجربة النازحين في مخيم الزعتري وغيره.

بقيَ أن أقول أن محمد استشهد في بداية الأحداث، خديجة أنجبت ثلاثة شباب وبنتين، فاطمة تزوجت من سوريّ وسكنت في السعودية، و وسام عاقٌ لوالديه ولوطنه ... أما البقية من أطفال الحي صفحة مُزّعَت، قصاصة هنا وهناك!.

أنا لا زلت في الخليل، حصلت على بطاقة لمّ الشمل والجنسية الفلسطينية، ينام أحفادي اليوم على أكتافي أحدّثهم عن الظلم، أنعى لهم التاريخ، أبشرّهم بالمستقبل، و لسوء الحظ أني لا أواجه صعوبةً في شرحه، فالاحتلال الصهيوني قرّب المصطلح، و وضح الضمير المتصل ليبقى علامةَ "آه" يسكنها الوجع .