الدبلوماسي والحلاق

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

دلف إلى داخل صالون الحلاقة هذا لأول مرة ، والذي يقع قريبا من موقع عمله الجديد  في ذلك الحي الراقي من العاصمة ، كان الصالون واسعاً ومرتباً ببنائه وتشطيباته الداخلية وديكوره المصمم والمجهز بيد مهندس خبير ، وتنتشر في جنباته أفخم أنواع الأثاث من الكراسي والكنبات والمناضد الزجاجية  والمرايا ، وأحدث المجلات الأسبوعية والشهرية والصحف اليومية  عربية وأجنبية ، وتلفزيون "بلازما" بحجم كبير وشاشة مسطحة ، مع حزم قنوات مشفرة ! .

وتصطف على طاولته أنواع مختلفة متطورة وحديثة من آلات الحلاقة الكهربائية ، وما يلزم من مجففات الشعر وأنواع العطور المختلفة  وغيرها ، وداخل "الباترينة " الصغيرة على يمين المرآة كانت أشبه بواجهة صيدلية صغيرة قد رصّت داخلها أنواع متعددة وراقية من أصباغ الشعر و"كريمات " التمليس وتغذية جذور الشعر ومعالجة الصلع .... وغيرها ... 

كان يجلس في الصالون بضعة أشخاص قد سبقوه  ، نظر إلى ساعته التي  كانت تشير إلى الثالثة  عصرا ، لابأس فقد أنهى عمله في الوزارة ، وتناول غداءه في المطعم المجاور ولا يضيره الإنتظار ، فليس لديه أي عمل هذا اليوم ، وعائلته  وأولاده  قد سافروا في إجازة إلى  قرية  جدهم ، بل إن الإنتظار سيكون مفيدا له لدراسة هذا المجتمع الجديد عن كثب ، ويطالع صحف اليوم التي لم يقرأها في مكتبه .

تناول صحيفة من فوق الطاولة التي أمامه وفردها أمام ناظريه ، يقرأ العناوين الرئيسية ويقف عند الموضوع الذي يراه مناسباً ليقرأه ، وقد ترك أذنيه مشنفة تتابع الأحاديث التي تدور حوله ، ويرقب من حين لآخر حركات الحلاقين وزعيمهم وطريقته في التعامل مع زبائنه ومدى اهتمامه بكل منهم ، كما كان يراقب الباب ليتفرس في الداخل والخارج ،  لفت نظره قائمة الأسعار الرسمية المعلقة أمام كراسي الحلاقين  بجانب المرآة ، صحيح أنه لم يتبين تفاصيلها من مجلسه هذا ، إلا أنه همس في نفسه  لم العجلة ؟ فبعد قليل سوف يجلس على كرسي الحلاق لتصبح القائمة أمامه فيقرأها كاملة بدقائقها وتفاصيلها ، مع علمه أن هذه الأسعار المقرة من نقابة الحلاقين تمثل الحد الأدنى ، ولا بد من الإكرامية حتى يحظى الرأس من الحلاق بحقه من الإهتمام والعناية .

لاحظ كيف يستغرق الحلاق في حلاقة رأس شخص ربع ساعة ، ولعلّه من أولئك الذين يلتزمون بالتسعيرة ، أو زبون جديد طيار يزور الصالون للمرة الأولى  كحاله ، ويستغرق في حلاقة رأس آخر ساعة كاملة أو أكثر ، وأغلب الظن أن يكون من أصحاب "البقشيش" والإكراميات العالية ، أو ربما يكون صاحب نفوذ ومسؤولية ممن يخطب الزعيم ودّهم ويبحث عن رضاهم ، كما لفت نظره أحد الأشخاص والذي يظهر عليه هيئة الأكابر والمسؤولين كيف قدمه مباشرة إلى الكرسي بعد انتهاء المعلم  من حلاقة الشخص الأخير الذي كان بين يديه ، بل لم يستغرق المعلم في إتمام حلاقة ذلك الزبون  أكثر من خمس دقائق بعد دخول المسؤول .

وأخيرا وبعد طول انتظار فقد  قاربت الساعة على السادسة مساء ، ها هو زعيم الحلاقين  يلتفت إليه مبتسماً ويهش في وجهه ، ثم يشير إليه قائلا : تفضل يا باشا ! .

لقد كان حدسه وتحليله في مكانه  فلم تستغرق حلاقته أكثر من ربع ساعة ، لكنه استطاع أن يقرأ قائمة أسعار النقابة كاملا ابتداء من حلاقة الرأس إلى الذقن  وانتهاء بصبغ الشعر وتملّيسه وتنشيط الجذور وزراعة الشعر ..... الخ .

كما قرأ على يسار المرآة الإعلانات عن دورات تدريبية  لحلاقة الرجال والنساء ، وتزجيج الحواجب ونفخ الشفاه وتنقية البشرة وتبييضها وتركيب العدسات الملونة والوشم " تاتو " وغيرذلك من هذه السلسلة الطويلة والعجيبة .

قرع أذنه صوت الحلاق وهو يقول نعيماً يا باشا بعد أن رشّه بقليل من ماء " الكولونيا " الرخيص وعاجله ينفض قميصه نفضة سريعة من أثر الشعر العالق على ثيابه .

أعاد الدبلوماسي نظره على القائمة ليتأكد من مبلغ التسعيرة لحلاقة الرأس فتحقق منها كما رسخ في ذهنه : " مائتي ليرة " فعزم في داخله أمرا وأسرّه في نفسه بعد أن ساءه هذه الإزدواجية في التعامل وقرر أن لا يتردد إلى هذا الصالون مرة أخرى ..... اللهم إلا ....  فأخرج ورقة من فئة الخمسمائة ونفحه إياها ، وقف الحلاق مندهشا ومد يده إلى جيبه بحركة سريعة يريد أن يعيد له باقي المبلغ – أو هكذا تظاهر على الأقل – فأشار إليه الدبلوماسي بحركة هادئة بيده تنم عن ثقل صاحبها وعلو مركزه الاجتماعي بأن يعيدها إلى جيبه دون أن يتكلم ، ثم رفع يده شاكراً ومودعاَ ، جرى زعيم الحلاقين  خلفه قبل أن يخرج من باب الصالون  يهم أن يقول شيئا وقد بدا عليه الحيرة والإرتباك ، ولما التفت إليه الدبلوماسي عاجله  زعيم الحلاقين  قائلا : أتقدم لك بكل أسف عن إعتذاري فلقد أخرناك كثيرا .

أجاب الزبون الجديد : كم أنا معجب بإدارتك ومهارة طاقمكم وطريقة حلاقتكم وخفة يدكم !

قال زعيم الحلاقين : سوف نعوض لك ذلك وترى ما يسرك أكثر في المرة القادمة .

قال الزائر الجديد : إن شاء الله سيحصل !  ثم فتح الباب ومضى دون أن يلتفت إليه .

طبع زعيم الحلاقين صورته في خياله ، وحفظ ملامح وجهه  في ذاكرته ، وسجّل ترددات صوته داخل أذنه ، فأمثال هؤلاء هم الذين يجب الإهتمام والرعاية الخاصة بهم ، فلقد أنهى صاحبه حلاقة رأسه في أقل من ربع ساعة ولم يستخدم معه المقص بل اكتفى بآلة الحلاقة ، ولم يرش شعره بالماء كي لا يتناثر شعره هنا وهناك ويتغلغل بعضه داخل ثيابه أويلتصق على جسده ، ولم يستخدم معه مجفف الشعر،  كما لم ينفحه برشة عطر واحدة من النوع المميز .

 

 

 

 

 

 

وبعد كل هذا نفحه خمسمائة ليرة بدلاً من مائتين ، في حين أكثر أولئك الذين يقدم لهم تلك الخدمات ويستغرق في حلاقة رأسهم أكثر من ساعة ، ويستخدم الألة  والمقص والموسى

 والمجفف  و.... لا ينفحونه هذا المبلغ  .

فترة ليست بالطويلة بعد هذه الزيارة الميمونة في يوم خميس أخر النهار قبيل المغرب ، عاد الزائر الجديد مرة أخرى إلا أنّه لم يكن وحده هذه المرة ، بل كان يسحب معه طفليه الصغيرين أحدهما في السابعة والآخر في العاشرة من عمره ، عرفه زعيم الحلاقين على الفور فاستقبله مرحباً بحفاوة بالغة واقترب يداعب الطفلين ويلاطفهما ، وهو يعيد الترحيب به والتأهيل ، ثم أفسح له ولطفليه مقعد ثلاثيا مستقلا ، وما إن فرغ كرسي المعلم الأول حتى وجه الزعيم إليه الطفل الصغير، وبعد فروغ الكرسي الثاني وجه إليه الطفل الثاني ، وبعد فروغ الكرسي الثالث والأخير وجه زعيم الحلاقين الدعوة إلى الدبلوماسي ليجلس على الكرسي قائلاً تفضل يا باشا ، لم يستغرق الأمر من لحظة دخولهم حتى تربع الدبلوماسي على الكرسي نصف ساعة ، ثم اتجه إليه يسأله عما يريد حلاقته  فأجابه : الرأس والذقن ، أوصى الزعيم المعلم للإهتمام به والعناية حتى كان يستشيره في قص كل خصلة شعر، ولم ينس من البداية بوضع فوطة نظيفة ولفة حول العنق  ورش الشعر بالماء ثم استخدام المقص بدقة وحرفية وعناية تامة منقطعة النظير ، حتى إذا فرغ من الرأس تحول لحلاقة الذقن فقام بالتعقيم والتطهير واستبدال الموسى "الشفرة" بنوعية راقية وجد يدة ، ولم ينس تغيير الفوطة ، واستخدام الماء الساخن مع معجون الحلاقة من "الجل " الراقي والثمين ، ثم بدأ عمله بهدوء وتأن مع المهارة والبراعة حتى إذا انتهى أتى عليه يرشه بأرقى أنواع "الكالونيا"  المميزة ، في هذه الأثناء كان المعلمان الآخران قد أنهوا الحلاقة للطفلين ، فأمر لهم المعلم الكبير أحد عماله ليشتروا لهم بعض الشوكلاتة والآيس كريم ، وبعد انتهاء الدبلوماسي من حلاقة الذقن والتجفيف والتسريحة ، لم ينس المعلم أن ينفحه برشات غزيرة متتالية من العطر الفرنسي المميز ، وينفض عن ثيابه الشعر بهدوء وعناية بعد أن أزاح عنه الفوطة الأخيرة ولفافة العنق ، قبل أن ينحني أمامه وهو يقول باحترام بالغ : نعيماً يا باشا .

وقبل أن يدس الدبلوماسي يده في جيبه ليناول الزعيم أجرة الحلاقة له ولأولاده بحسب التعريفة الرسمية للنقابة فقد كان المجموع ستمائة ليرة بعد أن حسبها بدقة ، نإوله إياها، نظر الزعيم نحو الدبلوماسي بدهشة وقد تملكته الحيرة والإستغراب مما يرى ، كان يتوقعه أن يكون كريما كالمرة السابقة فينفحه الفا وخمسمائة أوألفا ومائتين ، ليس على كل الأحوال أقل من ألف مهما كان بخيلاً ، حوّل الدبلوماسي نظره نحو قائمة الأسعار متجاهلاً نظرة الزعيم كأنه يقول له في سرّه إحسبها بدقة وأي خطأ مردود .

 حول الزعيم بصره نحو الأطفال وهم يتناولون الشوكلاتة بعد أن تناولوا "الآيس كريم " كأنه يتحسر على شرائها وتقديمها لهم فقد كان يأمل أن يستلم إكرامية بقيمة لا تقل عن ثلاثة أضعافها ، مد الدبلوماسي يده مرة ثانية إلى جيبه وأخرج مائة ليرة قيمة الشوكلاتة والآيس كريم للطفلين ، وناوله إياها خوفا من أن يغمى على الزعيم أو يحتد غضبه أكثر فيهجم على الطفلين وينزع ماتبقى من الشوكلاتة من بين أيديهم ، ثم رفع بصره إليه هل من خدمات أخرى أيها الزعيم ؟ !

وقف الزعيم حائراً دون أن يجيب ، أمسك الدبلوماسي يده يشد عليها مودعاً وينظر في عينيه مبتسماً وهو يهم بالخروح مخاطباً له :

( هذه بتلك ) ....

ثم نظر في عينيه قائلا أظنك قد عوضتني عن المرة السابقة وأوفيت بوعدك ، ثم أغلق الباب خلفه ومضى يسحب طفليه إلى سيارته الفارهة.