قالت البومة

ناديا مظفر سلطان

يا جماعة ! الحال لم يعد يطاق...

صهل الحصان بصوت تخنقه العبرات .

رد آخر بألم:

فعلا ، لم يعد هناك ما نقتات به .

نهقت أتان عجوز من بعيد بأسى : لقد قضى على زرعنا ، وداس أطفالنا ، ودك منازلنا ، حتى أعشاش العصافير لم تنج من بطش خرطومه الحاقد .

تقدمت فرس بيضاء فتية ، صاحت بحزم : لقد طغى الفيل وبغى ، بل لقد جاوز طغيانه كل حد ، فلنعلنها  ثورة على الفيل .

هزت الحيوانات رؤوسها وصاحت بصوت واحد : الموت للفيل.

رددت الوديان والجبال الأصداء : الموت للفيل ، للفيل ،  للفيل .

أنشأت البومة تراقب من بعيد ، ولكنها لزمت الصمت ، فلم يلحظ وجودها أحد.

تقدمت الركب الخيول العربية الأصيلة ، تبعتها الثيران البرية ، ثم لحقتها الحمير ، أما الخنازير فلم تكد تمشي بضعة أمتار حتى  أخلدت إلى الأرض .

 قال خنزير وهو يقضم حزمة من العشب ، الحق أقول لا طاقة لنا على قتال الفيل وأعوانه.

أجابه خنزير آخر وهو يلهث لفرط بدانته : أوافقك الرأي يا صاحبي ومن يجرؤ على قتال الفيلة بخراطيمها وأنيابها وأقدامها الضخمة ؟

أكلت الخنازير حتى أثقلت ثم ما لبثت أن علا غطيطها.

كانت البومة تراقب  من بعيد ، ولكنها لزمت الصمت ، فلم يلحظ وجودها أحد

تابعت الحيوانات سيرها ، تعثر حمار فوقع على الأرض ، ما لبث أن وقف بجهد متحاملا على نفسه ، صاح بغضب :إنه الظلم والإجحاف بعينه، لقد خرجنا لحمل الأثقال فقط  ،أما شرف القتال ، فلن يناله سوى الثيران مع أنها أقدر منا على تحمل المشاق .

صاح حمار :الموت للثيران .

رددت الجبال والوديان الأصداء من بعيد : الموت للثيران ، للثيران ،  للثيران

كانت البومة تراقب من بعيد ولكنها لزمت الصمت فلم يلحظ وجودها أحد.

اعترضت مسيرة الحيوانات هضابا شامخة عجزت الثيران عن صعودها ، استبد الغضب بقائدهم فضرب بحافره الأرض وهو يزمجر : لقد غررت الخيول بنا  ولابد لنا من الانتقام .

 صاح برفاقه : الموت للخيول 

رددت الوديان والجبال الأصداء من بعيد : الموت للخيول ، للخيول ، للخيول.

كانت البومة تراقب من بعيد لزمت الصمت فلم يلحظ وجودها أحد .

 تابعت الخيول مسيرها  ، لم تأبه لوعيد الحيوانات وصيحاتهم التي تباعدت وبهتت فلم يبق منها إلا أصداء رددتها الوديان والجبال لحين ثم غابت .

  داهمتهم ريح سموم عاتية  ، ولاحت لهم كثبان رملية ، ثم ما لبثوا أن أوغلوا في بحور من رمال صفراء مترامية الأطراف بلا نهاية .

 اشتد بهم الظمأ ، وأرهقهم السرى حتى أيقنوا أنه الهلاك لا محال ...عندما لاحت لهم قطعان من الإبل .

صاح أحد الخيول لابد انها واحة يا أصحابي ، هلل الجميع وتدافعوا إلى الماء في حبور وصخب.

حالت البعير بينهم وبين الماء ، ثم تقدم فحل أدب من بينهم  فهتف بهم:

الواحة لنا ، والكر والفر له جعلنا ، ولنا هنا أجدادا و تاريخا وأمجادا .

انضم إليه بعير آخر :كما قال صاحبي لكم ، الصحراء مرتعنا ومقامنا منذ الأزل ، ولا طاقة لكم على الإساد  فانصرفوا وعودوا من حيث جئتم راشدين.

بوغتت الخيول وأذهلها الموقف فلم تدرك خطورة الأمر تماما .

صاح حصان مغتاظا :  كيف لكم أن تقولوا هذا وقد بلغنا شوطا بعيدا في مسيرنا ..ثم إنها معركتنا منذ البداية.

تقدم الفحل الأدب على حين غرة وبرك على الحصان ، فصرعه على الفور !

دارت معركة طاحنة بينهما ،علا هدير  الابل ، وأنشأت تدوس بأخفافها أعناق الخيول ، و أنشبت أسنانها القوية في أجسادها المنهكة ، فسالت  الدماء أنهارا ،اصطبغت الواحة بلون قان ، بينما تبعثرت الجثث على الرمال .

 

تعالت الصيحات : الموت للخيول ، الموت للبعير... اختلطت الصرخات ، وتاهت الأصداء... فأضحت عصيَة على الفهم .

انسحبت الخيول تجر صرعاها خلف إحدى الكثبان  . كان ألم الخذلان من الإبل أشد وطأة عليها من مشقة المسير وقسوة الظمأ والجوع ، وبدا أنها قد نسيت "عدوها " في زحمة الآلام ومرارة الخذلان .

كانت البومة تراقب من بعيد ، حطت على احدى الجثث ، لزمت الصمت حينا ثم نعقت : الموت للفيل .

رددت الأصداء من بعيد : الموت للفيل لفيل للفيل.

أفاقت الخيول من غفلتها ، استعادت عزيمتها إذ تذكرت عدوها الفيل ، علا صهيلها وصاحت بصوت واحد الموت للفيل للفيل  للفيل.

عادت الأصداء تردد : الموت للفيل للفيل  للفيل .

قامت البعير من بركتها استطالت أعناقها حتى أصبحت خراطيما ،  ظهرت لها أنياب طويلة ، تلاشت أسنامها ، واستحال رغاؤها نهيما .

صارت فيلة حقيقية  .

 الأدب : الجمل كثير وبر الوجه . الإساد : أن تسير الإبل الليل مع النهار . النهيم : صوت الفيل .