كيفَ كانتْ؟!!

حيدر قفه

حلمتْ ككل فتاة بالفارس الهمام الذي يأتي على حصانٍ أبيضَ صَمْصَامٍ فيأخذها إلى عش جديد، فيه السعادة والهناء، وما تتمناه كل فتاة... لِمَ لا؟ وقد بلغتْ مبلغ النساء، واستعدت لهذه الخطوة المصيرية بما يؤهلها للنجاح، فنالت من العلم ما لم يحظَ به غيرُها، ومن الدورات التعليمية ما تقاصرت همم الكثيرات عن مثلها، فهي تُجيد الطبخ... بل تُدَرِّسُهُ، وتجيد شغل الصوف... والخياطة... والتطريز... وفنون الحياة النسائية التي تؤهلها لتكوين وإدارة أسرة سعيدة...

نشأتْ في بيت علم ودين، فهي منذ نعومة أظفارها ترى أباها وأمها تُنَظِّمُ حياتهما الصلاة، وتحكم خطواتهما تقوى الله، وأوقاتهما بين الكتب والعلم، ولا مجال لمهاترات الأسر الفارغة، ولا لهـَنَاتِ النفوس المُسْتَهترة...

منذ أن خطتْ أُولى خطواتها إلى المدرسة، وعرفتْ أنّ في المدرسةِ مَقْصِفاً تَتَقَاصَفُ عليه التلميذات لشراء ما يحتجن إليه، وهي تأخذ مَصْرُوفها اليومي من والدها لتكون على شاكلةِ لِدَاتِها، ولا تَقِلُّ عنهن بشيء... وهذا المصروف كان يكبرُ كلما كبرت، ويزداد كلما صعدتْ بها مراتب العلم إلى صفوف أعلى، ولما بلغتِ المرحلة الجامعية كان مصروفها لا يقل عن راتب موظف في بداية سُلَّمِهِ الوظيفي، يدفعه إليها أبوها، فتدبر أمرها طوال شهر كامل، فهي تذهب وحدها... وتعود وحدها... تركب مواصلات عدة... واثقة من نفسها...

أنهت تعليمها المقدر لها ولأمثالها في زمانهم... توظفت... حصلت على راتب يكفيها ويزيد عن حاجتها الشخصية، فهي ما زالت في كنف ورعاية والديها سكناً... وإقامة... ومطعماً... ومشرباً... فما زال للقيم الإسلامية العربية الشرقية سلطانها في حياة أسرتها، والبنت مسؤولة من والديها طالما لم تنتقل إلى بيت زوجها... فانصرف بالها إلى استغلال وقتها في كل ما يفيد، أما وقد أتقنت فنوناً نسائية كثيرة، فما عليها الآن إلا التبحر في الثقافة، يمدها في هذا الطريق راتبها الذي تنعم به، وجو أُسري نشأت فيه يقدس العلم والكتب... فكان جُلّ راتبها ينفق على شراء الكتب والمجلات... من دينية... وسلوكية... واجتماعية... وإدارة أسرة... وتربية أطفال... وأدب... وفن... وكل ما يُنَمِّي الثقافة ويثريها من موسوعات، حتى أصبحت لا تجُارى في ثقافتها...

خَطَبَتْ التجمعات الثقافية والاجتماعية ودها... واستمالت اهتمامها... لا سيما في مجاليْ التعليم والتربية... للاستفادة من علمها وخبرتها وحنكتها وأمانتها وحسن إدارتها لأموال هذه الجهات لما تملك أُسرتها من سمعة طيبة، أو كما قالت لها إحداهن عند إغرائها بقبول منصب جديد:"أنتِ من بيتٍ شبعان".

قَبِلَتْ... ونجحت في إدارة العمل... بل أدارت مجموعة من لِداتها يأتمرن بأمرها... قد يكنّ أكبر منها قليلاً أو أصغر قليلاً، لكنهن من سنين متقاربة... وبيئات متشابهة... فطار لها صِيتٌ حسن في الأمانة، وحسن التدبير، وإدارة الأمور، وتدبير الأموال وتثميرها..

جاء العِرْسَانُ... أشكال وألوان... والوالد له شروط لا بد من توفرها في العريس كحد أدنى: التدين أولاً، ثم تقارب السن، والوسط الاجتماعي، والثقافي... أمور ظاهرة لا يختلف عليها اثنان ولا تنتطح فيها عنزان... ولم يَدُرْ بخلد أحدٍ أن يسأل عن الأمراض النفسية، ولا الطباع الشخصية، ولا الأنماط السلوكية... تلك الأمور التي تنتقل من كابر إلى كابر كالعُصارة تجري في سوق النباتات، فتكسبها الصفات ذاتها... لا تراها العيون، لكنها تسري في بدن النبات وتؤثر فيه، وتُكْسِبُهُ الصفات المميزة... كم خُدع آباء بطقطقة خرزات سُبَحٍ بين الأنامل، وتسبيل الجفون، وشعرٍ تُرك على الذقون، فتغافلوا عن سلوك الأوائل... والعِرْقِ الدساس...

جاء النصيبُ... اخْتِير من بين العرسان اللبيبُ... وتم الزواج وانتقلت العروس إلى عشها الجديد بكل تَفَتُّحٍ تملكه فتاةٌ قلبها مَخْمُومٌ... عاشت في بيت والديها لا تعرف الهموم، وقد صَدَّا عنها رياح السَّمُومِ...

البيت الجديد بعيد... بعيد... بعيد... لكن كِبرَ عقلها، وحُسن تدبيرها كانا الخطين المتوازيين الذين تسير بينهما ولا تخرج عنهما، يحدوها خوف من الله زُرع في كيانها منذ أن رأت النورَ عيناها...

في البيت الجديد... الوسط الجديد... اكتشفت ما لم يكن في الحُسبان... ولا يخطر على بال إنسان... نفوس مريضة... ترى في تَنَـكُّبِ الصراط الذي تعارف عليه الناس خطاً لنجاحها وفلاحها، فاتخذت من التواء نفوسها مقياساً... ومن التستر على نقائصها نبراساً، فهي تتظاهر بغير حقيقتها... وتُجبر أجسادها على أن تتطاول لتدرك الآخرين... لكن هيهات لِظُهُورٍ أثقلتها ذِلة الأيام أن تعتدل أو تستقيم، لكنها لا بد لها من أن تُداري وتُجاري، فَتَتَخَبَّط تخبط حاطبِ ليلٍ...

حسبك من الجبان فزعةُ الصوت، وفراغُ الطبل، وهديرُ رحى لا تطحن شيئاً... فسرعان ما ينجلي الغبارُ عن حمارٍ في مضمارٍ تتسابق فيه الخيول الأصائل...

كانت قد وطَّنتْ نفسها لاستقبال كل جديد وغريب، فجعلت من خُلُقها مصداً لكل الصدمات، ومن صمتها إسفنجة تمتص كُلَّ التُّرَّهَاتِ... وفي آخر الليل تُعمل عقلها في تصنيف ما مَرَّ بها في يومها... فتُقْرن القرين بقرينه، والشبيه بشبيهه، حتى تستطيع النَّفَاذَ إلى كُنْهِ ما ترى حقيقةً، لا ادعاءً وكتماناً للحقائق... لكن هالها تفاهات النفوس الصغيرة التي تملأ حياتهم، وتعشش في منطقهم، فسرعان ما يتقايضون البُغض ممن أحبهم، والكُرْهَ ممن اقترب منهم فعرف حقيقتهم.

وفي مرحلة المراقبة والتصنيف والفرز، واستجلاء الأمور، وانجلاء المستور بانت لها الحقائق، واتضح أمامها الطريق الرائق، فوضعت لكل قائمة عندها منهم طريقة للتعامل تليق بها، بَلْهَ تُناسبها.

أما الزوج فهي تحبه وهو يحبها، لولا تدخل الآخرين في حياتهما، وإملاء السلوك على ابنهم، فينعكس على مرآته غُموضاً ومفاجآت لا تَسُرُّ... الإبن مِطْوَاعٌ تحت غطاء بِرِّ الوالدين!! حسناً... فما بالُ الأخ والأختين؟!! كيف ينساق إلى إرشاداتهم وهم الأصغر منه سناً وخبرةً وعلماً؟!... آه من الذَّكَرِ إذ لم يكن رجلاً!! كم يتعب مَنْ تحت وصايته!! كبَنْدُول ساعةٍ لا يَقِرُّ له قرار... تمرجحه قُوة خفيةٌ يُسْرَةً ويُمنةً لا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى مجرد العناد والتوقف عن المرجحة...

الكل يتدخل في حياتها... هذا بكلمة... هذه بإشارة... هؤلاء بمشاغبة... أولئك بمؤامرة... وهي صابرة تُقَلِّبُ عينيها فيما حولها، وتُعْمِلُ عقلها... تستبطن – في صمتٍ – حقيقة العُصارة التي تسري في عروق هذه النباتات الطُفيلية... غابة من الأسرار – عفواً... هل قلت: من الأسرار؟ بالسين لا بالشين؟ - ظننت أنني أخطأت في حرف – لا لم أُخطئ... نعم من الأسرار...

تصبرُ وتحتسب... تمتص الإسفنجة كل الصدمات التي توجه إليها في صمت... وصبر... وابتسام العاقل الرزين العارف بكل هذر الأطفال الذين تجاوزوا المراهقة بكثير... حتى من تجاوز منهم الستين...

بين الفَيْنَةِ والأخرى تجلس وحدها... تطلق العنان لخيالها... تعود القهقرى إلى مرحلة ما قبل الزواج... تفرض الأسئلةُ نفسَها عليها... ما الزواج؟ هل تنتقل الفتاة من بيت إلى بيت أسوأ من بيتها الأول بمحض إرادتها؟ أليس الحلم كان... وتتوقف عند كلمة"كان"بكل ثقلها، ووطأتها على النفس – أن تنتقل من وضع إلى وضع أفضل؟ من حُجرة خاصة في بيت أبيها إلى منزل كامل هي سيدته الأولى، وملكته المتوجة؟ أليس البيت مملكتها وهي صاحبة الكلمة في أثاثه ورياشه وترتيبه وتنسيقه... وطبخه... ونفخه؟! أليست اللمسة الأخيرة دائماً لا بد أن تكون لمستها... ذوقاً... ورؤية؟! أليس كل هذا يُنْسَبُ إليها... إنْ حُسْنَاً وإن سوءاً...؟! فلماذا لا تملك من ذلك شيئاً؟! يتدخل الكل في البيت وشؤونه جميعها... فإن آلت إلى حُسْنٍ نسبوه لأنفسهم... وإن كان قُبحاً نسبوه لها... والتكتم الشديد المُريب يرسم نهج حياتهم، حتى لكأنك تشعر أنك بين عصابة على وشك ارتكاب جريمة نكراء يهتز لها العالم... ثم ينفثئ هذا التكتم – بكل رائحته التي تزكم الأنوف – عن تافهه من تفاهاتهم التي لا ينضب معينها...

ما يحق لهم لا يحق لغيرهم، فهم – في نظر أنفسهم – من عجينة غير عجينة البشر الآخرين... إنَّ القوَالب التي سبكهم الله فيها كسرها بعد ذلك حتى لا يخلق مثلهم، فيظلون متفردين في الكون... هكذا عقيدتهم التي تسبق عندهم كل اعتقاد... لذا ظُلْمُ الآخرين... وارتكابُ كل نقيصة في حقهم ليس من الحرام... بل مُقَدَّمَة على الصلاة والصيام... لأن الأولى هي الأصل الذي ترشح به عجينتهم والثانية شكلية يتطلبها المظهر الاجتماعي... لمَ لا... وقد نشأوا في حارات المياه الآسنة، واليوم يتغنون بِشَعرِ بنات الخال... وطالما أنهم يريدون تربية كَنَائِنِهم فلهم الحق في تعدي كُلِ خُلق نظيف، ويُبَاحُ لهم في الكيل التطفيف... لله دَرُّ الصبر... ما أَمَرّ مذاقه... وما أحلى عُقْبَاهُ...

تفكر في حياتها الجديدة... حُرمتْ من المصروف... حتى لو اشتهت شيئاً... ولو بسبب الحمل والوَحَمِ... لا بد أن تطلبه من حماتها... فترفع الحماة الأمر إلى ابنها – الذي هو زوج الحامل – وعندما تسمح ظروفه – التي لا تسمح غالباً – يأتي به... يُسلمه إلى أمه، فتضعه تحت فخذها... وتناولها حبة واحدة لا تكفي العصفور، وتأكل الطَّفِسَةُ الباقي... أما الحامل فالرغبة عندها في هذا المشتهى ماتت في لحظتها الأولى... وتجاوزها الزمن... وعندما جاء هذا الشيء لم تعد تشتهيه... ماتت الرغبة... كَكُلِّ شيء في حياتها الجديدة يموت دون تحقيق...

تتذكر يوم أن كان مصروفها وراتبها كله ملك يديها... ياسبحان الله... اليوم بعدما كبرت... ونضجت... وأصبحت أُمَّاً... في نظر زوجها وأهل زوجها لا تُحسن تدبير الأمور، لأن"الماء في البير يحتاج إلى تدبير"... وتلك حُجة البخيل... وطبيعة الخُلق اللئيم...

منذ شقشقة العصافير الأولى تكون قد داومت في المطبخ... وتظل تعمل حتى الهزيع الأخير من الليل... كل الأمور التي كانت لا تُعمل من قبل... والتي لا يُحسنون عملها... كُلِّفَتْ بها دون مراعاة لحملها... لسنها... لوضعها... صبرتْ... صبرتْ... لكن القلب الذي يملؤه الحب عندما جاء... سُرق منه حَبَّةً حَبَّةً... وزُرع بدلاً منها أشواك... عليها أن تحترس من آثارها... وألغام يجب أن تفكر ألف مرة قبل أن تنقل قدمها الأخرى... ما أقسى الحياة عندما تشعر بيقين أن كُلَّ من حولك يتآمر ضدك... ولا تدري ماذا تخفي هذه الابتسامات المزيفة... أو حتى تأتي الضربة التي لم تَحْتَطْ لها...؟!

أهكذا يكون الزواج؟! أهذا هو الحلم الجميل الذي تحلم به كل فتاة؟! لو كانت تعلم أن حالها سيؤول باسم الزواج إلى رِقٍ... أَمَةٌ تعمل منذ الصباح – في كل شيء – إلى المساء... مقابل ماذا؟! مقابل أن تُمنح شيئاً من الطعام أو الشراب أو الكساء... لما قبلت؟ أَيـُعْقَلُ أن تقبل عاقلة أن تنتقل من عزِّ بيت أبيها إلى بيت لا تملك فيه أن تغلق باب حجرتها على نفسها... لا لشيء... إلا لمجرد أن تبكي فلا يرى هؤلاء دموعها...؟!