تذوّقْتُ بَرْدَ اليقينِ تحت سِياطِهِم

د. محمد خالد الفجر

د. محمد خالد الفجر

[email protected]

((هذه الخاطرة أو الحكاية محاولةٌ لتصويرِ نبضاتِ وأفكارِ وأحوالِ السُّجناء، ومحاولةٌ لوصف رحمةِ الله التي لا تفارقُ الإنسانَ والتي تتجلّى في أقسى لحظاتِ الظُّلم)).

كغيِره حلمَ وكغيره عمِل وكغيره أحبَّ وكغيره زلّتْ قدمُه وكغيره سار في طريق الأملِ يجدُّ السير ولا يجِدُ مكانًا للهوٍ أو لمضيعةِ وقتٍ رسَمَ على جدار عقله لوحةً ما فارقَتْ تلافيف دماغه لوحةً نقَشَها منذ فُصل عن تحقيقِ حلمه في أن يكون اسمُه مع العلماء في صفحات التاريخ البيضاء، فرسم في دماغِه لوحةً خطَّها بألمه لعدم وصوله إلى ما تمناه، واستقى حبرها من بحر حياتِه التي تلاطَمَتْ فيها أمواجُ الأحزانِ والأفراح كانت هذه اللوحة هي "حياتي بعد الله لكم يا أولادي"، أنتم سترسمون أحلامي في الواقع أنتم ستكتبون اسمي بألوانٍ من العلوم متنوعة تفوق ما كنتُ أحلم به لنفسي، وسار به قطارُ العمر ويده تُظِلُّ أبناءه يحميهم من غبار الزمنِ؛ حتى الغبار الحقيقي كان يواجهه بوجهه؛ كي لا يغبَّر وجه ولد من أولاده، كان يُسابِقُ الزَّمنَ فلا يَسمحُ لشمسِ يومٍ أن تَسبِقهُ وهو في فراشه كان جليد سيارته وهو يجمِّدُ قدميه وهو يغتدي والطير في وكناته، يُزيلُه بدفءِ حُلمِهِ الذي يراه اقترب كلم سمع خبر تفوق أولاده فينسى أنه خارج بيته؛ لأنَّه ما فارقه إلا لِيَقَرَّ أبناؤه في بيته هادئين.... وتمرُّ به صفحات الزمن ويتحقق الحلم ويرى لوحة أحلامه مجسّدة أمامه بالعلوم التي حققها أولاده. وأخيرًا باح بسر سعادته مخاطبًا ولده بكلمات صدرت عن نبض فؤاده لا عن لسانه: تمّ الأمر يا ولدي وأُنجِزَتِ المهمة بفضل الله، سمعها ابنه قد خرجت من كلِّ مسامات جسده تعلن تحقيق الحُلْم، أتته هذه الصُوَر وهو في المكانِ الذي تتوقف عن وصفه الكلمات فاسحةً المجال للدموع لشدَّة وقعِه وظُلمته ووحشته، جاءته هذه الصور في معتقله الذي كسر عليه سعادتَه وأبكى حُلمه الذي وصلَه لتوه، وفي المعتقل روى معاناته مع سوط جلاده فقال:

كُنت أذوق في كل سوطٍ آلامًا فوق ألم السوط الذي لا يبالي صاحبُه ما أصاب من جسدي الهزيل: ألمَ ابنتي التي تتذكّر أباها الذي لم يأتها اليوم بالسكاكر، وألمَ زوجتي التي جهّزتِ الطعام وصوتُها يصرخ في داخلها يا أبا.... ثم تسبقها العبرة لتتساقط على وجنتيها دمعةٌ تذكرها بحقيقة ذهابي عنها... وألماً يذكّرني ابني الذي كان ينتظرني كلّ يوم ليروي لي ما صنعت به ساعات يومه منتظرًا مشورةً ممّن يراه جبلاً لا يهتّز، كيف سيكون وضعه الآن وهو يتخيل أباه يلعب به أنجاسُ الأرضِ لا يراعون لحيته ولا يراعون هَيبتَه، فهمتهم أن يمرِّغوا كلَّ معاني العزة في وحلِ أخلاقهم التي تأبى الحيوانات أن تتشبه بها، وألماً على ابنتي التي كانت تحمل أحفادها إليَّ وترميهم في حضني شاعرةً بأنّه الأمان وتتقلب في ذهني صفحات الآلام أحاولُ حرقَها لكنَّها تحرِق في كلِّ سطرٍ نبضاتِ قلبي... هكذا ذُقتُ آلامَ سوطِهم فماذا أفعلُ وأين المفرُّ ومكان وجودنا ما خُصص إلا ليخنقَ عبراتِنا ويذيبَ أجسادَنا ويميت همتنا، في هذه الظُّلمةِ بل الظُّلمات لا تعرِف ما تفعل ولا تدري أحقًا كان لك يومٌ عشته حرًّا ....تموت في هذه اللّحظة كلُّ أفكارك القديمة وتضمحلُّ أحلامُك إن بقي لكلمة الحلم محلٌ في ذاكرتك، وتأتيني سِنةٌ من نوم أرى فيها يوسف في سجنه وأرى فيها إبراهيم في ناره وأرى فيها محمدًا عليهم جميعا الصلاة والسلام أراه في شعب أبي طالب فأنتفض على فوري ولساني يقول  "إنك بأعيننا" فتسيل أنهارٌ من دموع تعجبت حينها أن يكون لها حلاوةٌ؛ لأنني ذقتُ حلاوةَ الدَّمع مع أنَّ المنطق ينافي هذا لكنَّ رحمة الله فوق منطق البشر نعم ذقتُ حلاوةَ دمعةٍ ما نزلت من قبلُ وبدأ قلبي يخفق ولساني يهمس وأساريري تنفرج وأنا أتلو ما حفظْتُه من رسالةِ ربي إلي صِرتُ أقرأ وكأنَّ الرسالةَ الربّانيَّةَ مفتوحةٌ أمامي أتلو وأتلو وكأنّني أُهاتَف من السماء، وكأنّه يُقال لي وحدي إنّ منزلتك عند آخر آيةٍ تتلوها لم أستطع التوقف ذُهِل رفاقُ سجني من حالي وظنُّوني بدأتُ أَهذي، لكنّني عشت حالًا لا يفهمه، إلّا من يعيشُه شَعرْتُ بقربِ الذَّات الإلهية مني شعرتُ أنّه يقول لي: عبدي عبدي عبدي لبيك يا عبدي فَصرت أقول همسًا ربي ربي... ثم ارتفعَ صوتي مناديًا بقلبٍ منكسرٍ وبدموعٍ منهمرةٍ: إلهي وسَندي ومُعتمدي لا تنسني، وإذ بآخر دمعةٍ تفتح الطريق لابتسامةٍ شقَّت سُحَبَ ظلامِ السّجن؛ فقد رأيتُ السِّجنَ روضةً ورأيتُ روحي تطيرُ متجاوزةً أسوارَهُ هازئةً بالقائمين عليه، رأيتُني أضحك ساخرًا من قوتهم الفارغة، وكأنّ سياطَهم أفاعي سحرة فرعون وأنا أضحكُ وأضحك وأقول ربي لا تدعني فردًا... ربي لا تحرمْني من هذه اللّذة.. عندها ذُقتُ بردَ اليقين وعَجِبْتُ أنّه كان تحتَ سِياط الجلّادين.